فائدة السؤال في العلم
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
فائدة السؤال في العلمالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الصادق الأمين، وعلى آل بيته الطيبين، وبعد:
فلا ريب أن السؤال عن مسائل العلم ودقائق المعرفة نافعٌ لكل من المتعلم والمعلم والمستمع إليهما، وعائدته عليهم وعلى الوطن الذي يعيشون فيه جليلة، فالعلم نور، ومدارسته عبادة، والعمل به طاعة وهداية، والانتفاع به غاية.
وقد نبَّه الراسخون في العلم من قبل على أهمية السؤال في العلم؛ فقال ابن شهاب الزُّهْري (ت124هـ) - رحمه الله -: (إنما هذا العلم خزائن، ومِفْتاحُها المسألة)، وكان الخليل بن أحمد (ت175هـ) - رحمه الله - يقول: (العلوم أقفال، والسؤالات مفاتيحها)، وقال الشاعر: [من الطويل]
إذا كنت لا تدري ولم تك بالذي
يسائل من يدري فكيف إذًا تدري؟[1]
وقال ابن القيم (ت751هـ) - رحمه الله-: "وقد جعل الله سبحانه لكل مطلوب مِفْتاحًا يفتح به؛ فجعل مفتاح الصلاة الطهور، كما قال- صلى الله عليه وسلم -: "مفتاح الصلاة الطهور"، ومفتاح الحج الإحرام، ومفتاح البر الصدقة، ومفتاح الجنة التوحيد، ومفتاح العلم حسن السؤال، وحسن الإصغاء..."[2].
وكلنا نعلم أن سؤال الرجل الناسَ شيئًا من الدنيا في المجتمعات الإسلامية عيب فيه، ومنقصة، وذلة تنافي المروءة إلا إذا كان السؤال في العلم؛ فإنه عين كمال عقل الرجل، ودليل مروءته، وأمارة عِزِّه، وقد قال بعض أهل العلم: (خير خصال الرجل السؤال عن العلم)، وقيل: (إذا جلست إلى عالِم فسَلْ تفقُّهًا لا تَعَنُّتًا)[3].
ومن ثمرات التفاعل العلمي سؤالًا وجوابًا من المتعلم والمعلم: اقتناص أوابد العلوم، وتقييد دقائق الفنون، واستخراج مكنونات العقول، قال ابن شهاب الزُّهْري (ت124هـ)- رحمه الله -: (كان يصطاد العلم بالمساءلة كما يصطاد الوحش)[4].
ويُعَد السؤال الحسن من المتعلم النابه علمًا من العلم؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في آخر حديث جبريل- عليه السلام-: "هذا جبريل أتاكم ليُعلِّمكم دينكم".
ففي هذا القول النبوي دلالة واضحة على أن السؤال الحسن من المتعلم يُسمَّى علمًا وتعليمًا؛ لأن جبريل- عليه السلام - لم يصدر منه سوى السؤال الحسن، ومع ذلك فقد سمَّاه النبي - صلى الله عليه وسلم- معلمًا، وقد اشتهر بين المتعلمين قول أهل العلم: (حُسْنُ السؤال نصفُ العلم)[5].
وليست كثرة أسئلة المتعلمين فيما التبس عليهم من مسائل العلم، وفيما خفي عليهم من أمور الدين من قبيل التعنُّت والمشقة على المعلمين، ما داموا قاصدين بأسئلتهم علم ما جهلوا، وفهم ما استُبْهِم عليهم من الأمور، ولا يريدون بها جدالًا، ولا مُباهاةً، ولا مماراةً.
ومن الغني عن التأكيد أن الأسئلة في العلم إذا كانت في مواضعها، واستدعاها المقام، واقتضتها الحاجة - أزالت الشكوك، ورفعت الشبهات، وأراحت النفوس، وأثرت العلوم.
وقد قيل لابن عباس - رضي الله عنهما-: بمَ نلت هذا العلم؟ فقال: بلسان سئول، وقلب عقول[6].
وينبغي للمعلم عدم كراهية أسئلة المتعلمين المتكررة المُلحَّة في قضايا اللغة والدين والحياة؛ بل يرحب بها ما دامت في مجاله العلمي الذي ينتمي إليه، ويشجعهم عليها ما دامت هادفةً وللعلم خالصةً؛ لأنها باب خير عظيم له ولأبناء الوطن الذي يعيش فيه، روي عن الخليل بن أحمد - رحمه الله - أنه قال: (إن لم تعلم الناس ثوابًا فعلمهم؛ لتدرس بتعليمهم علمك، ولا تجزع بتفريع السؤال؛ فإنه ينبهك على علم ما لم تعلم).
وقد قدم رجل على عبدالله بن المبارك (ت181هـ) - رحمه الله - وعنده أهل الحديث، فاستحيا أن يسأله، وجعل أهل الحديث يسألونه، فنظر ابن المبارك إلى الرجل، فكتب بطاقةً، وألقاها إليه فإذا فيها: [من الخفيف]
إن تلبستَ عن سؤالك عبد ال
له ترجع غدًا بخفي حنين
فاعنت الشيخ بالسؤال تجده
سلسًا يلتقيك بالراحتين
وإذا لم تصح صياح الثكالى
قمت عنه وأنت صفر اليدين
والعالم المتفاعل مع طوائف المجتمع الذي يعيش فيه منتفعٌ بلقاءاتهم وبأسئلتهم المتنوعة، على كل حال من أحواله، قال الخليل بن أحمد- رحمه الله -: أيامي أربعة:
يوم أخرج فألقى فيه من هو أعلم مني، فأتعلم منه، فذاك يوم فائدتي وغنيمتي.
ويوم أخرج فألقى فيه من أنا أعلم منه، فأعلمه، فذاك يوم أجري.
ويوم أخرج فألقى فيه من هو مثلي، فأذاكره، فذاك يوم درسي.
ويوم أخرج فيه فألقى من هو دوني، وهو يرى أنه فوقي، فلا أكلمه، وأجعله يوم راحتي[7].
وأسوق مثالًا من واقع حياتي لفائدة السؤال في حياة أهل العلم فأقول: إنه كان لأسئلة بعض طلاب العلم لي عن بعض الدقائق اللغوية أثر طيب في حياتي البحثية وتصنيفاتي العلمية؛ فقد كان من ثمراتها بعض بحوثي اللغوية المنشورة في المجلات العلمية المتخصصة، وبعض مقالاتي المنشورة في موقع شبكة "الألوكة" الإلكتروني.
ولا عجب في ذلك، فقديمًا سُئل الإمام أحمد بن حنبل (241هـ)- رحمه الله - عن مسألة، فقال: إن العلم خزائن، والمسألة تفتحه، دعني حتى أنظر فيها[8]، وقال أبو العباس ثعلب الكوفي (ت291هـ)- رحمه الله -: "إنما يتسع علم العالم بحسب حذق من يسأله، فيطالبه بحقائق الكلام، وبمواضع النكت؛ لأنه إذا طالبه بحقائق الكلام احتاج إلى البحث والتنقير والنظر والفكر، فيتجدد حفظه، وتتسع معرفته، وتقوى قريحته، ويتذكر ما تقدم"[9].
وأقول في نهاية المطاف: إن فضل المعلم على المتعلِّم عظيم معروف، يذكر في أي زمان ومكان فيشكر ولا ينكر، فقد جاء في الكتاب والسنة، وبينته كتب الأعلام من علماء الإسلام تبيانًا أي تبيان، لا يقع فيه شك، ولا ارتياب، ولا جحود.
لكن غير المألوف أن نقول: للمتعلم فضل على المعلم في واقع الحال، يدرك من جوانب، منها:
1- أن أسئلة المتعلم وأجوبتها المنسوبة إلى معلمه فيما ألف من كتب بعد رحيله وصنف- تعد من قبيل نشر العلم الذي ينتفع به، ومن الذكر الحسن للمعلم في الآخرين.
2- أن المتعلمين يهيئون بأسئلتهم المعلم لإنتاج المعرفة النافعة في مجاله العلمي، ويدفعونه إلى تجويدها وتنقيحها وتقديمها إليهم على قدر حاجتهم، وبما يناسب عقولهم وطبيعة عصرهم؛ ففي أسئلتهم الدقيقة المتكررة المُلحَّة حثٌّ له على توسيع دائرة البحث والتنقير، ودقة النظر والتفتيش، وإعمال الفكر لالتقاط الدرر، ونشر الفوائد، وتعليق الفرائد.
3- أن تلبية المعلم حاجة المتعلمين بتأويل ما استغلق عليهم من الكلام، وإيضاح المشكلات، وفَسْر النصوص مع استدعاء المواقف الاجتماعية المصاحبة لها، لترجيح قول على قول، وللأخذ برأي دون رأي فيما سألوا عنه وقد وقع فيه الخلاف - تعد قيامًا منه بالواجب عليه نحو مجتمعه الذي يعيش فيه، ووفاءً للعلم الذي ينتمي إليه، وإحسانًا للعمل الذي عرف به، ولا يضيع عند الله تعالى أجر العاملين الذين أحسنوا العمل، ولا جزاء وفاء أهل الوفاء.
وحسبنا شاهدًا على ذلك الفضل ودليلًا من واقع التاريخ اللغوي سيبويه - رحمه الله - المتعلم الأمين مع معلميه الأئمة الأعلام - رحمهم الله- فمعظم ما ذكره سيبويه في كتابه من مسائل لغوية وقواعد، وقضايا نحوية وصرفية وبلاغية منقول عنهم بألفاظهم نقلًا صريحًا موثقًا، وجارٍ على ألسنتهم بطريقة المساءلة والحوار العلمي، فسيبويه يسأل، وأحد معلميه يجيب.
ولا تكاد تجد بابًا من أبواب كتاب العربية يخلو من شخصية المتعلم الأمين التي قام بها سيبويه، وشخصية المعلم النبيه التي قام بها أحد مُعلِّميه الأعلام، وكان الخليل بن أحمد أكثرهم تفاعلًا مع سيبويه في قضايا اللغة والنحو والتصريف لملازمة سيبويه له أكثر من غيره، فكان أعظمهم ذكرًا في الكتاب، وأغزرهم مادةً، وأعلاهم شأنًا، وأبعدهم شأوًا.
وإن كتاب سيبويه بما حوى وبما اجتمع فيه من سمات عديدة - ليعد أنموذجًا طيبًا للبحث اللغوي الهادف الذي ينبغي أن يُحتذى عند القيام بعملية التأليف.
وإن سيبويه بما اجتمع فيه من صفات بحثية، يُنادي بالالتزام بها حديثًا في المؤسسات العلمية- ليعد أنموذجًا طيبًا للباحث الجيد، الذي حاز الوفاء لمُعلِّميه، واتسم بسعة الاطلاع، وعلو الهمة، والأمانة العلمية في البحث والتأليف.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10].
[1] ينظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر1/380، 381، تح/ أبو الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، السعودية، ط1، 1414هـ 1994م.
[2] حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح 1/138، 139، تح/ زائد بن أحمد النشيري، دار عطاءات العلم، الرياض، ودار ابن حزم، بيروت، ط4، 1440 هـ 2019م.
[3] ينظر: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن القيم 1/481، تح/ عبدالرحمن بن حسن بن قائد، دار عطاءات العلم، الرياض، ط3، 1440هـ / 2019م.
[4] ينظر: حلية الأولياء وطبقات الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني 3/363، مطبعة السعادة، مصر، عام النشر: 1394هـ 1974م.
[5] ينظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 1/125، دار المعرفة، بيروت، سنة 1379هـ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه/ محمد فؤاد عبدالباقي.
[6] ينظر: أدب الدنيا والدين للماوردي، ص70، دار مكتبة الحياة، بدون طبعة، تاريخ النشر: 1986م.
[7] ينظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر1/381، 534.
[8] ينظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 1/416، صححه/ محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، عام النشر: 1371هــ 1952م.
[9] الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر لشمس الدين السخاوي 2/697.