نهي آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
نهي آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وسلم وبعد:
فإني قد رأيت كثيرًا من المسلمين يتحرَّى استقبال قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء والوقوف عنده إذا سنحت الفرصة باكين مخبتين، ومقلدين لبعض المشهورين، أو معتمدين على قصة مكذوبة بهذا الخصوص، فأردت النصيحة في هذا المقال لعموم المسلمين ولزوَّار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وأسميته:
(نهي آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم)
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
• عن علي بن الحسين أنه رأى رجلًا يجيء إلى فُرْجَةٍ كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا بيوتكم قبورًا، وصلُّوا عليَّ، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم»؛ [صحيح بطرقه وشواهده] - [رواه ابن أبي شيبة].
• وقال القاضي عياض في "المبسوط" عن مالك: "لا أرى أن يقفَ عند قبرِ النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يسلمُّ ويمضِي"؛ [الشفاء 2/ 671 – 678].
• وقد سُئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى عن [حكم استقبالِ قبر النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء والسلام عليه].
السؤال:
نرى بعض الناس في هذا المسجد يقف مستقبلًا قبر النبي صلى الله عليه وسلم يُسلِّم عليه من أي مكانٍ في المسجد، فهل هذه الصفة مشروعة؟
الجواب:
إذا كان يريد بذلك أن يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم نقول: ادْنُ من القبر؛ فإن زيارة القبر لا بد فيها من الدنوِّ، وإذا كنت تريد أن تدعو فهو على قسمين: الأول: أن تُوجِّه الدعاء للرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا شركٌ أكبر يُخرِجك من مِلَّة الرسول عليه الصلاة والسلام.
الثاني: أن تدعو الله مُتوجِّهًا نحو القبر، فهذا بدعة ووسيلة إلى الشرك.
ويا سبحان الله! هل من المعقول أن تنصرف عن بيت الله عز وجل إلى قبر الرسول؟ أيهما أفضل: بيت الله الذي يجب على كل مسلم أن يتجه إليه في صلاته أو قبر الرسول؟ لا شك أن بيت الله أفضل؛ أفضل بقعة على وجه الأرض هو بيت الله عز وجل الكعبة، فكيف يليق بك وأنت تدعي أنك تعبد الله أن تتوجَّه بدعائك إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام دون أن تتوجَّه إلى بيت الله، هذا من السفه، وهذا من إضلال الشيطان لبني آدم وإغوائه إياهم، وإلا فبمجرد أن يفكر الإنسان بقطع النظر عن الدين الشرعي يعلم أن هذا ضلالٌ وسَفَهٌ.
حينئذٍ نقول: الواقف على هذا الوجه يريد التسليم على الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا نقول له؟ نقول: اندفع قف على القبر، الواقف على هذا الوجه يدعو الله عز وجل متوجهًا إلى القبر نقول: هذا بدعة ووسيلة إلى الشرك، وخطأ وضلال في الدين، وسفه في العقل؛ لأن توجُّهك إلى بيت الله أوْلَى من توجُّهك إلى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثالثًا: إذا كان يتوجَّه هذا التوجُّه ليدعو الرسول فهو مشركٌ شركًا أكبر يُخرِجه من مِلَّة الرسول عليه الصلاة والسلام.
الأقسام إذًا ثلاثة:
الأول: إن قصد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فهو شركٌ أكبر يخرجه من المِلَّة.
الثاني: إن قصد دعاء الله عز وجل فهو بدعة؛ لأن التوجُّه إلى بيت الله أولى.
الثالث: إن قصد السلام على النبي صلى الله عليه وسلم قلنا له: ادْنُ من القبر؛ ا هـ.
وتجدر الإشارة إلى القصة الموضوعة المكذوبة التي روَّج لها بعض الطرقية لموافقتها مذهبهم، مستغلين ذكرها في بعض الكتب، ضاربين صفحًا عن الأدلة المحكمة المانعة من الذرائع المفضية إلى الشرك بالله عياذًا بالله، وهي مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله، وفيها:
«سأل أبو جعفر – المنصور - أميرُ المؤمنين الإمامَ مالكًا رضي الله عنه قائلًا: يا أبا عبدالله، أأستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ فقال: ولِمَ تصرفُ وجهَك عنه وهو وسيلتُك ووسيلةُ أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعك الله، قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 64]".
فيستدلون بها على استقبال قبر النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عند الدُّعاء!
وهذه القصَّة لا تصحُّ بحال ففيها المتهم والمجهول والضعيف، وذكرها القاضي عياض رحمه الله في "الشِّفا" (2/92)، وهي لا تثبت عن الإمام مالك رحمه الله.
قال ابن عبدالهادي رحمه الله في "الصَّارم المنكي" (259): "وهذه الحكاية التي ذكرها القاضي عياض ورواها بإسناده عن مالك ليست بصحيحة عنه...
بل هو إسناد مظلم منقطع، وهو مشتمل على من يُتَّهم بالكذب! وعلى من يجهل حاله، وابن حميد هو محمَّد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتجٍّ بروايته، ولم يسمع من مالك شيئًا ولم يلقَه؛ بل روايته عنه منقطعة غير متَّصلة..."؛ ا هـ.
بل الصحيح الثابت والمعروف والمشهور عن الإمام مالك رحمه الله خلاف ذلك، ومن يُطالِع كلام الإمام في آداب زيارة قبر النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعرف ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (17/471) ومواضع أخرى منه، وفي "الردِّ على الإخنائيِّ": "ولم يكن أحدٌ من الصَّحابة يفعل ذلك، ولا كانوا إذا سلَّموا على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقفون يدعون لأنفسهم!
ولهذا كره ذلك مالك وغيره من العلماء، وقالوا: إنَّه من البدع التي لم يفعلها السلف، واتفق العلماء الأربعة وغيرهم من السلف على أنَّه إذا أراد أن يدْعُوَ يستقبلُ القبلة، ولا يستقبلُ قبْرَ النّبِيّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأمَّا إذا سلَّم عليه فأكثرهم قالوا: يستقبل القبرَ، قاله مالك والشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة أيضًا ويكون القبر عن يساره..."؛ ا هـ.
فاستقبال قبر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء قد اتفق الأئمة الأربعة على النهي عنه، وقد ذكر شيخ الإسلام أقوالهم في ذلك، وفصَّل القول في بيان مذهب الإمام مالك رحمه الله خصوصًا، فقال في اقتضاء الصراط المستقيم:
ولم يكن أحد من السلف يأتي قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه؛ فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأظنه منصوصًا عنه، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه، وهكذا في كتاب أصحابه.
وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط والقاضي عياض وغيرهما: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو ولكن يسلم ويمضي.
وقال أيضًا في المبسوط: لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه ويدعو لأبي بكر وعمر، فقيل له: فإن ناسًا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه إلا يفعلون ذلك في اليوم مرة وأكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.
وقد تقدَّم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة ما يوافق هذا ويؤيده من أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء والتحية؛ كالصلاة والسلام، ويكرهون قصده للدعاء والوقوف عنده للدعاء ومن يرخص منهم في شيء من ذلك فإنه يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء أن يدعو مستقبل القبلة، إما مستدبر القبر أو منحرفًا عنه وهو أن يستقبل القبلة ويدعو، ولا يدعو مستقبل القبر، وهكذا المنقول عن سائر الأئمة، ليس في أئمة المسلمين من استحبَّ للمارِّ أن يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده؛ انتهى.
والعجب أنهم يستدلون بالآية على جواز مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام قبره وطلب المغفرة منه أو طلب استغفاره لهم صلى الله عليه وسلم جهلًا منهم بتأويل الآية أو تغافلًا، الله أعلم.
فقوله تعالى:﴿ جَاءُوكَ ﴾ في الآية المشار إليها إنَّما هذا المجيء خاصٌّ بزمن حياته صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بدليل فعل الصِّحابة، فلم يثبُت عن صحابيٍّ واحدٍ أنَّه أتى قبره صلَّى الله عليه وسلَّم طالبًا منه الاستغفار.
وإنَّ هناك أثرًا شاع وذاع في كثير من كتب التفسير، وهو ما ذكره البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (2/1/82/2) -وهي الحكاية المشهورة عن العُتَبي- قال: " كنت جالسًا عند قبر النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فجاء أعرابيٌّ فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 64] وقد جئتك مستغفرًا لذنبي، مستشفعًا بك إلى ربّي، ثمَّ أنشأ يقول:
يا خير من دُفنت بالقاع أعْظُمُه
فطاب من طيبهنَّ القاعُ والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثمَّ انصرف الأعرابيُّ، قال العتبي: فغلبتني عيني، فرأيت النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم في النَّوم فقال: "يا عُتَبيّ الحق الأعرابيَّ فبشِّره أنَّ الله قد غفر له"؛ ا ه.
فمحال أن ينسخ رسول الله صلى الله عليه وسلم شريعته المستقرة بعد ما مات بالمنامات، وإنَّ الرُّؤى لا ينبني عليها شيء من الأحكام الشَّرعيَّة، فكيف بالأحكام الغيبيَّة كالحكم بالمغفرة لأحدٍ من الخلق! وهذا الأثر وإن ذكره ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" لكنه سكَتَ عنه.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" (6/1033 رقم: 2928): "إسنادها ضعيف مظلم".
ثمَّ قال عن العتبيِّ: "ويمكن أن يكون هو أيُّوب الهلالي في إسناد البيهقي، وهي حكاية مستنكرة، بل باطلة، لمخالفتها الكتاب والسنة؛ ولذلك يلهَجُ بها المبتدعة؛ لأنها تجيز الاستغاثة بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وطلب الشَّفاعة منه بعد وفاته، وهذا من أبطل الباطل"؛ ا هـ.
وفي الختام أُنبِّه إخواني المسلمين المحبِّين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ما يفعلونه وهم زوَّار مسجده الشريف من تحرِّي الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم مستقبلي القبر رافعين أيديهم داعين، فهذا خلاف ما عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم بإحسان.
بل هو أمر محدث مبتدع، وصَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكُوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)؛ أخرجه أبو داود، والنسائي بإسناد حسن، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ)؛ أخرجه البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها، وفي رواية لمسلم: ((مَن عَمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ)).
ولقد رأيت بعضهم يقف أمام القبر الشريف واضِعًا يمينه على شماله على صدره خاشعًا باكيًا كأنه يُصلِّي، وليست هذه هيئة السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هيئة المصلي المخبت الخاشع لله تعالى في الصلاة.
قال الشيخ الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى: وهكذا ما يفعله بعض الزوَّار عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم من وضع يمينه على شماله فوق صدره أو تحته كهيئة المصلي، فهذه الهيئة لا تجوز عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم، ولا عند السلام على غيره من الملوك والزعماء وغيرهم؛ لأنها هيئةُ ذُلٍّ وخضوع وعبادة لا تصلح إلا لله، كما حكى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح عن العلماء، والأمر في ذلك جليٌّ واضح لمن تأمَّل المقام وكان هدفه اتِّباع هدي السلف الصالح.
وأما من غلب عليه التعصُّب والهوى والتقليد الأعمى وسوء الظن بالدعاة إلى هدي السلف الصالح فأمره إلى الله، ونسأل الله لنا وله الهداية والتوفيق لإيثار الحق على ما سواه، إنه سبحانه خير مسئول"؛ انتهى.
فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، "مجموع فتاوى ابن باز" (16 /108- 110).
فنسأل الله لنا جميعًا الهداية والرشاد، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.