أرشيف المقالات

لبيك اللهم لبيك (3)

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
لبيك اللهم لبيك (3)
 
((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ)).
 
ما أجملَها من نداءٍ علويٍّ جميلٍ، وهُتافٍ ربَّانيٍّ خالص، تتدفَّقُ على الألسنةِ، وتهتُف بها الحناجرُ، وتُدوِّي بها الألوفُ!
 
إنها إشارةٌ إلى عهد يقطعُه الحاجُّ على نفسِه؛ أن يلتزمَ أمرَ اللهِ تعالى فيما يفعلُ، ويحكُم بشرعِه، ويُطبِّقُ منهجَه، ويجتنبُ جميعَ صفوفِ الضَّلالِ.
 
((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) هُتافٌ ربانيٌّ جليلٌ، تتجاوَبُ به الدنيا، وتهفُو إليه الكائناتُ، إنه شعارٌ كريمٌ جاءت النصوصُ بالإكثارِ منه، والحثِّ عليه، والدعوةِ إليه، ذلك أن هذه التلبيةَ العظيمةَ التي تنطِق بالاستجابةِ الخالصةِ المحضةِ، والإنابةِ الممحَّصة النقيَّةِ، ترفَع ألفاظَها الحبيبةَ حناجرُ الملبِّينَ المخلصينَ، هي من أعظمِ دواعي التأثير في النفس، من حيث تنبيهها إلى لوازم الإيمانِ ومقتضى الشهادتينِ، ومدّها بزادٍ جديدٍ وعطاءٍ ثَرٍّ من حرارة الإيمان، وعزيمة التخلُّص من الشوائب والأدْران، بالهمَّة المصرَّة على مغالبة الشهوات والأهواء، والنَّزَوات والرغبات، وتجاوُز المعوِّقات التي تحول بين المرءِ المؤمنِ وبين أن يكون حيث يريدُ اللهُ تعالى له، عملًا وعقيدةً، وسلوكًا ومنهجَ حياةٍ، وأخذًا بكُلِّ الأسبابِ والوسائل التي تُؤدي إلى اليقظةِ والمنعةِ، والثقةِ والحصانةِ، والقوةِ والأصالةِ، على مستوى الفرد، وعلى مستوى الجماعة، وعلى مستوى الدولة كذلك.
 
لا يَغِبْ عنك أيُّها المسلم ذلك، ولا يَغِبْ عنك أنه حين تكونُ التلبيةُ على مثل هذا المستوى من الوعي والصدق والالتزام، وحيث تكونُ الأكُفُّ الضارعةُ المرتفعةُ صورةً حقيقيةً لقلوبٍ وعقولٍ على المستوى المطلوب من الوعي والصدق والالتزام أيضًا، فاعلمْ إذن أن شيئًا ضخمًا قد حدث في حياةِ المسلمين، وأنَّ نُقْلَةً كبيرةً للخير قد حقَّقوها في حياتهم، وأن فجْرَ الإسلامِ قد اقترب موعدُه بذلك، وموعِدُه قد أزِفَ، وبدايةُ ظهورِه قد أخذَتْ تتوالى بشائرُها الحبيبةُ الغاليةُ.
 
لا يَغِبْ عنك ذلك أيُّها الحاجُّ الكريمُ، أيُّها القادم الوافد إلى بيت الله الحرام..
تُعلِن التوبةَ، وتُجدِّد العهدَ والميثاقَ، واحرصْ أن تكون واحدًا من العاملين لمجْدِ الإسلامِ، الساعِينَ لإعلاء كلمتِه، وقيامِ دولتِه، يَكُنْ لكَ الخيرُ المباركُ العميمُ في دينك ودُنْياك وأُخْراكَ.
 
((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ)).
 
كأنَّ الحاجَّ إذْ يقولُها، يتجمَّع كيانُه كُلُّه؛ شعورُه ولا شعوره، عقلُه وقلبُه، حِسُّه وعاطفتُه، مداركُه ومطامحُه، ليكونَ له من ذلك وبسبب ذلك مِثْلُ هذا التوجُّه الضارع؛ لَبَّيْكَ يا رب، سوف نُسرِع إلى تلبية ندائك، ونُهْرَعُ إلى التزام أوامرك، ونُصِيخُ السَّمْعَ لكُلِّ ما تطلُبُه مِنَّا، فنُسارع إلى إنفاذه، سوف نُجدِّد التوبةَ والعَهْدَ والميثاقَ، والإنابةَ الصادقةَ، والإخباتَ الخاشِعَ، سنُجدِّد في أنفسنا ذكرياتِ المجدِ والغلبةِ لفوزِ الإسلامِ وظهُورِه، تلك الذكريات الأثيرة الغالية التي شاءَتْ إرادتُك يا ربَّاه أن تنطلق بادئ ذي بَدْءٍ من عند بيتك الحرام، ثم تمضي تجوب البلدان، تحمل الخيرَ والنورَ للناسِ جميعًا، الناسِ كل الناسِ، في الأرضِ كل الأرضِ.
 
وسنزور المسجدَ النبويَّ الشريفَ في المدينة المنورة، طيبة الطيبة الحبيبة، ذلك المسجد الذي شَهِد ولادةَ المجتمعِ المسلمِ الأوَّلِ بقيادة الرسولِ الكريمِ صلى الله عليه وسلم، لنتذكَّر الدرس الكبير في قيامه، ونستشعر خطورةَ التكليف، وجدِّيَّةَ المسؤولية، وعظمةَ الأمانةِ، ونُجدِّد العَزْمَ أن نسير على المنهج الذي سار عليه الرسولُ الكريمُ صلى الله عليه وسلم، ونقتدي بما كان عليه أصحابُه الأطْهارُ الأبرارُ، ونعقِد العزمَ على حمل اللِّواء المسلم الذي عُقِدَتْ رايتُه أوَّلَ ما عُقِدَتْ في رحاب الحرم الطهور في المدينة المنورة، إبَّان الأيام الغالية الأولى لقيام دولة الإسلام، وسنظل نحن- معشر المسلمين- نفعل ذلك حتى ننقُلَ الرايةَ إلى الجيلِ الذي بَعْدَنا ليُواصِلَ مسيرةَ الإسلامِ المؤمنةِ المباركةِ، وسنُحاوِل أن نتأسَّى بذلك الجيلِ الربَّانيِّ القُرْآني الفريد الذي صاغَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهذَّبه وربَّاه، ونمشي كما مشى، ونفعل كالذي فعل، عسى أن نُدرِكَ شيئًا من الأُفق السامي الذي حلَّق فيه، والمطامح الكِبار التي استطاعَ أنْ يُحقِّقَها في واقعِ الناسِ.
 
إنَّه النداءُ الربَّانيُّ السماويُّ الجليل ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) هو الذي جاء بهذه الأعدادِ الهائلةِ إلى ظِلالِ أوَّلِ بيتٍ وُضِع للناس، لتُلبِّي كلُّها، لتطوف كلُّها، لتسعى كلُّها، وتقِف بعرفة كلُّها، لتتحرَّك في السَّهْل والجبل، والبَرِّ والبَحْرِ والجوِّ، لَهِجَةً بالتلبية، ناطقةً بالدعاء، خاشعةً لله، ذليلةً بين يديه، ضارعةً منيبةً إليه.
 
إنه النداء الإيماني العظيم ((لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ)) الذي جاء بهذه الأعدادِ الهائلةِ المؤمنةِ جميعًا إلى مَهْدِ الإسلامِ الأوَّلِ ومَأْرِزِهِ ومُنْطَلَقِه، هو النداءُ نفسُه يحدُوها اليوم لأنْ تُصيخ السَّمْعَ إلى كلمة الإسلام من جديد، فتتذكَّر واقعَ المسلمين في كل صُقْعٍ من وطنها الكبير، وتضع كُلَّ طاقاتِها في خدمة العقيدةِ التي اجتمعت عليها الأمةُ، والمنهجِ الذي على هَدْيِها سادَتْ حضارتُها في العالمين، وهو النداءُ نفسُه الذي يدعوها لأن تعقِد العَزْم على أن تكون وفيَّةً لعهد الإسلام، صادقةً مع بني الإسلام، مستجيبةً لدعوة القرآن.
 
وهو النداءُ نفسُه الذي يدعو حشودَ الحجيج الهائلة هذه، أن تخلَع عن نفسِها كُلَّ ألوان الجاهليات المعاصرة، والمبادئ الدخيلة، والأفكار المستوردة، وأن يكونَ جميعُ ولائها للإسلام وحدَه، تدعو إليه، وتُجاهِد من أجلِه، وتسعى لإقامةِ دولتِه، وبِناءِ مجتمعِه، ورفْعِ رايتِه خفَّاقةً عاليةً في رُبُوع العالمينَ.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن