أرشيف المقالات

إصلاح القلوب - عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
اتقوا الله تعالى حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه، ثم اعلموا رحمكم الله أن من أهم ما ينبغي على المسلم إصلاحه والعناية به قلبه الذي بين جنبيه، فإن القلب عباد الله هو أساس الأعمال وأصل حركات البدن، فإن طاب القلب طاب البدن وإن فسد فسد، وقد كان صلى الله عليه وسلم يهتم بإصلاح القلب غاية الاهتمام، ويعتني به تمام العناية، ويوصي بذلك في كثير من أحاديثه الشريفة، ويضمِّن ذلك كثيرا من أدعيته المنيفة، فكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهم اجعل في قلبي نورا»، ويقول في دعائه: «اللهمّ إني أعوذ بك من قلب لا يخشع»، ويقول في دعائه: «اللهم نق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس»، ويقول في دعائه: «اللهم آت نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، ويقول في دعائه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، والنّصوص في هذا المعنى كثيرة جدا .
 
عباد الله:
إن الواجب على كل مسلم أن يهتم بتزكية قلبه وإصلاحه، وتنقيته مع العناية بإصلاح ظاهره، إذ لا عبرة عباد الله بصلاح الظاهر مع فساد الباطن، ومتى ما أصلح المسلم قلبه بالأعمال الزّاكية والإخلاص والصدق والمحبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، استقامت جوارحه وصلح ظاهره، كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:   «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»، فهذا الحديث عباد الله حديث عظيم، فيه أوضحُ إشارة بل أبين دلالة على أن صلاح حركة العبد الظاهرة بحسب صلاح حركة قلبه وباطنه، فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحب الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات جوارحه كلّها، بخلاف ما إذا كان قلبه فاسدا، قد استولى عليه حب الهوى واتباع الشهوات وتقديم حظوظ النفس ، فإن كان كذلك فسدت حركات جوارحه تبعا لقلبه لأنّها لا تتخلف عنه.
 
 
عباد الله:
القلب لا يخلو في كل أحواله من الفكر إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإمّا في الوساوس الباطلة والأماني الفاسدة والمقدرات المفروضة، ومن كان يريد إصلاح قلبه فعليه أن يشغل فكره بما فيه صلاحه وفلاحه المحقق.
ففي باب العلوم والتصورات يشغله بمعرفة ما يلزمه من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة أو النار ، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها .وفي باب الإرادات والعزوم يشغل قلبه بإرادة ما ينفعه إرادته، وطرح إرادة ما يضره إرادته، وبذلك يكون فكر المرء صحيحا، وقلبه سليما مطمئنا عامرا بالخير والصلاح .
 
 
عباد الله:
وإن أعظم عون للعبد على ذلك هو تكثير الشواهد النافعة في القلب لتقوى صلة القلب بالله، ويزداد يقينه ويكمل إيمانه، وتعظم صلته بربه سبحانه وتعالى، والشواهد في هذا الباب كثيرة جدا، ومن أهم ذلك أن يقوم في قلب المسلم شاهد من الدنيا وحقارتها وقله وفائها وكثرة جفائها، وخسة شركائها وسرعة انقضائها، فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد منها ترحَّل قلبه عنها، أي عن الدنيا وسافر في طلب الآخرة، وحينئذ عباد الله يقوم بقلبه شاهد من الآخرة ودوامها، وأنها هي الحيوان حقا، فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها، بل هي دار القرار ومحط الرحال ومنتهى السير، ثم يقوم بقلبه شاهد من النار وتوقدها، واضطرامها وبعد قعرها، وشدة حرِّها وعظيم عذاب أهلها، فيشاهدهم أي بقلبه وفكره، وقد سيقوا إليها سود الوجوه زرق العيون، والسلاسل في أعناقهم، فلما انتهوا إليها فتحت في وجوههم أبوابها، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع وقد تقطعت قلوبهم حسرة وأسفا، فإذا قام بقلب العبد هذا الشاهد انخلع من الذنوب والمعاصي واتباع الشهوات، ولبس ثوب الخوف والحذر، وعلى حسب قوة هذا الشاهد يكون بعده من المعاصي والمخالفات، ثم بعد ذلك يقوم بقلبه شاهد من الجنة وما أعد الله لأهلها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فضلا عما وصف الله لعباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من النعيم المفصل الكفيل بأعلى أنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والبهجة والسرور، فيقوم بقلبه شاهد دار قد جعل الله النعيم المقيم بحذافيره فيها، تربتها المسك، وحصباؤها الدر، وبناؤها لبنة الذهب والفضة وقصب اللؤلؤ،  وشرابها أحلى من العسل، وأطيب من رائحة المسك وأبرد من الكافور وألذ من الزنجبيل، ونساؤها لو برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرشهم مرفوعة، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون، وشرابهم عليه خمرة لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون، وشاهدهم حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متكئون، وفي تلك الرياض يحبرون، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون.
 
 
عباد الله:
فإذا انضم إلى هذا الشاهد شاهد يوم المزيد، والنظر إلى وجه الرب جلّ وعلا، وسماع كلامه منه بلا واسطة، فهناك يكون سير القلب إلى ربه، أسرع من الرياح في مهبها، فلا يلتفت في طريقه يمينا ولا شمالا، عباد الله فهذه الشواهد العظيمة إذا اعتنى العبد بها في حياته، وأعمل فكره فيها، كانت أعظم عون له على تطهير قلبه، وتنزيهه من الأوصاف الذميمة، والإرادات السافلة وعلى تخليته وتفريغه من التعلق بغير الله سبحانه، وكانت أعظم باعث له على العبادة والمحبة والخشية والإنابة والافتقار إلى الله والسعي في مرضاته تبارك وتعالى، وإنا لنسأل الله جلّ وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يأتي قلوبنا تقواها، اللهم آت نفوسنا تقواها زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم نق قلوبنا من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، اللهم اجعل في قلوبنا نورا، واشرح صدورنا لطاعتك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
 
 
أما بعد: عباد الله:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى، ومراقبته في السر والعلانية، وأن يهتم كل واحد منا بإصلاح قلبه، والعناية بنفسه حتى يقدم على الله تبارك وتعالى يوم يقدم عليه بقلب سليم، عامر بالخير والمحبة والطاعة والإنابة والإقبال على الله تبارك وتعالى، لاسيما عباد الله ونحن نعيش زمانا فيه الفتن كثيرة، والمحن عديدة، والصوارف عن طاعة الله تبارك وتعالى متعددة، جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تُعرض الفتن على القلب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب إلى قلبين، قلب أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، فقسّم صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث قلوب الناس عند عرض الفتن عليها إلى قسمين، قلب إذا عُرضت عليه فتنة أشربها القلب كما يشرب الإسفنج الماء، فتنكت فيه عندئذ نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس والعياذ بالله، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم كالكوز مجخيا أي مكبوبا منكوسا، فإذا اسود وانتكس عرض له بسبب ذلك آفتين عظيمتين ومرضين خطيرين.
 
أحدهما اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يبلغ به الحال فيعتقد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلا والباطل حقا .
 
والمرض الثاني تحكيمه هواه على ما جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون دائما متبعا لهواه معرضا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصراطه المستقيم، هذا قسم.
 
والقسم الثاني قلب أبيض، وأسأل الله جلّ وعلا أن نكون وإياكم جميعا كذلك، والقسم الثاني قلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان ، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردّها، فازداد نوره وإشراقه وقوي إيمانه وثقته بالله، ويكون بإذن الله في حفظ وسلامة وأمان وعافية.
 
عباد الله:
إن الواجب على كل مسلم أن يهتم بسلامة قلبه، ولاسيما عندما تشرئب الفتن، وتكثر البدع ويعظم الجهل بدين الله تعالى، والله جلّ وعلا يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [ الحج : 78]، وحقيق بكل مسلم عباد الله أن يأخذ بنفسه إلى أسباب سعادتها وسلامتها وصلاحها في الدنيا والآخرة، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وصلوا وسلموا على إمام المتقين وسيد الأولين الآخرين محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم : من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن