أرشيف المقالات

تسكين كلمات الآذان وجواب الإقامة

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
وبدء السلام ورده (س9-12) من الشيخ محمد عبد الظاهر برمل الإسكندرية بسم الله الرحمن الرحيم حضرة أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) صدر من بعض السبكية إنكار على من لم يجب المقيم , ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الإقامة كالآذان , ولم يأتوا بدليل وقد رأينا فيه حديث أبي أمامة عند أبي داود ولكنه لم يصح؛ إذ فيه راو مجهول. (2) وأنكروا وصل المؤذن بين تكبيرتين من تكبيرات الآذان كما يفعل المؤذنون اليوم , ويقولون: السنة الفصل بين كل تكبيرة وأخرى وإفرادها بالوقف على كل واحدة , ولا يجوز قطعًا تحريك آخر التكبيرة الأولى لوصلها بالثانية.
ولم نعثر لهذا على دليل صريح. (3) وقالوا: لا سلام على الجالسين في درس علم , فإن العلم أولى وأفرض.
فعارضناهم بأن الأمر عام , والتخصيص لا دليل عليه , وقد سلموا على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فرد بالإشارة. (4) وقالوا: لا كلام على الوضوء , وزعموا أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ , فلم يرد عليه حتى أتم الوضوء , ولم نعلم صحة هذا الحديث ولم يعلموا هم أيضًا.
فهل عند سيدنا الأستاذ شيء ثابت في السنة على هذا كله؟ نرجو إفادتنا؛ لأجل العمل به ولكم الأجر والثواب على هداية السائل وإرشاد الحيران والسلام. *** إجابة الإقامة كالآذان (ج) لم يفتجر تلاميذ الأستاذ الشيخ محمود خطاب السبكي شيئًا من هذه المسائل؛ أي: لم يأتوا بها من عند أنفسهم , بل نقلوها عن الفقهاء، فأما استحباب إجابة المؤذن في الإقامة كالآذان فقد استدلوا عليه بحديث أبي أمامة ولم يروا ضعفه مانعًا من العمل به في مسألة من فضائل الأعمال على قاعدتهم المعروفة , ولو قالوا: إن سماع النداء في الأحاديث الصحاح الواردة في ذلك يشمل الإقامة؛ لأنها نداء كالآذان لم يكن بعيدًا وفي الحديث المتفق عليه: (بين كل آذانين صلاة لمن شاء) رواه الجماعة من حديث عبد الله بن مغفل , واتفق العلماء على أن المراد بالآذانين فيه الآذان والإقامة.
وكون هذا من باب التغليب لا ينافي ما قلناه من عدم البعد وإلا كان نصًّا في المسألة. *** تسكين كلامات الآذان وأما الجواب عن الثاني فهو أن للمسألة أصلاً من وجهين: (أحدهما) : ما نقل عن السلف في ذلك , ففي كتابي المغني والشرح الكبير للمقنع من كتب الحنابلة (التي تتحرى نقل أقوال الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المجتهدين وأدلتها) أن عبد الله بن بطة قال: إن في الآذان والإقامة لا يصل الكلام بعضه ببعض معربًا بل جزمًا.
وحكاه ابن الأعرابي عن أهل اللغة وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما: الآذان والإقامة.
قال صاحب المغني وصاحب الشرح الكبير: وهذه إشارة إلى جماعتهم؛ أي: الصحابة , فإن إبراهيم من أشهر علماء التابعين.
اهـ وهذه حجة لهم. (والثاني) - وهو معارض له - إن حديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في إجابة المؤذن , يدل على الوقوف عند كل كلمة (أي: جملة) من كلمات الآذان إلا التكبير , فإنه يقف عند كل تكبيرتين فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر.
فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر.
ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله.
قال: أشهد أن لا إله إلا الله إلخ ...
)
ففيه أنه جعل الوقف على تكبيرتين في أول الآذان وآخره , بخلاف سائر الجمل المقررة مثنى مثنى , فقد وقف على كل واحدة منها ورتب الجواب عليهما - ومن المعلوم أن الوقوف في لغة العرب يكون بالسكون والوصل بالتحريك - فظاهر الحديث يوافق ما عليه المؤذنون اليوم في أمصار الإسلام من الجمع بين كل تكبيرتين , وهو يقتضي أن تحرك كلمة أكبر بالرفع في الأولى على القاعدة العامة في هذه اللغة , وهو التحريك في أثناء الكلام , لكن بعض المؤذنين يصلون أكثر كلمات الإقامة فيقفون بعد التكبيرات الأربع، والشهادتين كلتيهما، والحيعلتين كلتيهما؛ لأنهم يحدرون في الإقامة فلا يمدون كلماتها الممدودة ولا يمدونها , وكذا ويرتلونها كالآذان وهو المنقول , فهؤلاء ينبغي الإنكار عليهم، وكذا من يصل التكبيرتين الأوليين بالأخريين فيقف عند الرابعة. *** السلام على المشتغل بالعلم وأما الجواب عن الثالث وهو عدم السلام على الجالسين في دروس العلم فلا نص فيه عن الشارع , ولكنه منقول عن بعض الفقهاء وله نظائر: كقارئ القرآن بالتدبر , والملبي في الحج , قالوا: لا يسلم عليهم؛ لئلا يشغلهما عما هما فيه. وقالوا: إنه إذا سلم عليهما وجب عليهما الرد.
فأمر الرد أعظم من البدء فقد قالوا: إن الإجماع قد انعقد على أن ابتداء السلام سنة , وأن رده فرض.
وهو ظاهر آية {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86) ولا يترك الواجب إلا بدليل قوي , فمن ترك السلام على المشتغل بالعلم والعبادة؛ لظنه أنه يتأذى بصرفه به عما شغل ذهنه وقلبه فله وجه وجيه , فإن السلام للتحاب والتواد , فإذا كان في حالة تنافي ذلك تركه , ولا يعد تاركًا للسنة المستفادة من عموم الأمر بإفشاء السلام؛ لأنه معارض في مثل هذه الصورة بما هو ثابت ومقطوع به من تحريم الإيذاء , ومنع الضرر والضرار المحقق، وكراهية ما كان مظنة له , وقد صرح بعضهم بأن السلام غير المشروع لا يستحق جوابًا. وترى تتمة بحثه في الجواب الآتي وهو: *** الكلام على الوضوء والسلام على المتوضئ وأما الجواب عن الرابع فهو أن الحديث الذي ذكروه هو ما رواه ابن جرير عن البراء بن عازب أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ , فلم يرد عليه حتى فرغ من الوضوء مد يده إليه وصافحه.
ونذكر بهذه المناسبة ما يتعلق بمحظورات السلام , وأوسعها ما جمعه في هذا الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في شرح كتابه (غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب) في التنبيهات المتعلقة بالسلام قال: يكره السلام على جماعة منهم: المتوضئ , ومن في الحمام , ومن يأكل أو يقاتل , وعلى تالٍ وذاكر وملب , ومحدث وخطيب وواعظ , وعلى مستمع لهم ومقرر فقه , ومدرس وباحث في علم ومؤذن ومقيم , ومن على حاجته ومتمتع بأهله أو مشتغل بالقضاء ونحوهم , فمن سلم في حالة لا يستحب فيها السلام لم يستحق جوابًا , وقد نظمهم الخلوتي وزاد عليهم جماعة فقال: رد السلام واجب إلا على ...
من في الصلاة أو بأكل شغلا أو شرب أو قراءة أو أدعيه ...
أو ذكر أو في خطبة أو تلبيه أو في قضاء حاجة الإنسان ...
أو في إقامة أو الآذان أو سلم الطفل أو السكران ...
أو شابة يخشى بها افتتان أو فاسق أو ناعس أو نائم ...
أو حالة الجماع أو تحاكم أو كان في الحمام أو مجنونا ...
فهي اثنتان قبلها عشرونا ورد النص في بعض هذه والبقية بالقياس على المنصوص , وإذا انتفى الوجوب بقي الاستحباب أو الإباحة , نعم في مواضع يكره الرد أيضًا كالذي على حاجته، ولعل مثله من مع أهله , ويحرم أن يرد وهو في الصلاة لفظًا وتبطل به، ويكره إشارة.
قدمها في الرعاية , وقيل: لا كراهة؛ للعموم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رد على ابن عمر إشارة وعلى صهيب كما روى الإمام أحمد والترمذي وصححه. وإن رد عليه بعد السلام فحسن؛ لوروده في حديث ابن مسعود , وإن لقي طائفة فخص بعضهم بالسلام كره , وكره السلام على امرأة أجنبية غير عجوز وبرزة , فإن سلمت شابة على رجل رده عليها , وإن سلم لم ترد عليه.
قال ابن الجوزي: المرأة لا تسلم على الرجال أصلاً.
وروى من الحلية عن الزهري عن عطاء الخراساني يرفعه (ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام) وكره الإمام السلام على الشواب دون الكبيرة، وقال شيخ الإسلام: لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي ولا يجيب دعوته.
اهـ ولنذكر ما اطلعنا عليه في كتب السنة مما يصلح دليلاً لما أورده أيضًا أو قياسًا عليه أو معارضًا له فنقول: روى أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم أن رجلاً - هو المهاجر بن قنفذ- سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول , فلم يرد عليه ثم قال له: (إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تُسَلِّم عليّ , فإنك إن فعلتَ ذلك لم أردّ عليك) وفي بعض الرويات أنه رد عليه بعد أن تسمح , وفي أخرى: بعد أن توضأ.
وتعليل عدم الرد بأنه كان على غير طهارة. وروى الشافعي في سننه، والبيهقي في المعرفة، والخطيب عن ابن عمر: (أن رجلاً مرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول , فسلَّم عليه فردَّ عليه وقال: إنما حملني على الرد عليك مخافة أن تذهب إلى قومك فتقول: إني سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي.
فإذا رأيتني على هذه الحالة فلا تسلمن , فإنك إن سلمتَ لم أرد عليك)
وروى ابن جرير عن أبي جهم أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فلم يرد عليه حتى فرغ، ثم جاء إلى حائط فتيمم ثم رد عليه السلام.
وروي عن ابن عمر مثله مرفوعًا فيمن سلم عليه وهو مقبلٌ من الغائط. وأما حديث: (ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام) الذي احتج به السفاريني , فقد أشار السيوطي في الجامع الصغير إلى ضعفه , وهو من مراسيل عطاء الخراساني وهو مدلس لا يحتج بمراسيله من يحتج بالمراسيل , فكيف بمن لا يحتج بها كالجمهور ومنهم الشافعية وهو معارض لأحاديث صحيحة. عقد البخاري في صحيحه البخاري بابًا في مشروعية (تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال) قال الحافظ ابن حجر: في شرح ترجمة الباب من الفتح: أشار بهذه الترجمة إلى رد ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير: بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء والنساء على الرجال. وهو مقطوع أو معضل.
والمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة , وذكر في الباب حديثين يؤخذ منهما الجواز , وورد فيه حديث ليس على شرطه وهو حديث أسماء بنت يزيد: مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا.
حسنه الترمذي اهـ. ثم ذكر الحافظ حديث واثلة عند أبي نعيم في عمل اليوم والليلة مرفوعًا (يسلم الرجال على النساء ولا يسلم النساء على الرجال) قال: وسنده واه.
ومن حديث عمرو بن حريث مثله موقوفًا وسنده جيد.
وثبت في مسلم من حديث أم هانئ: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فسلمت عليه اهـ. أقول: تسليم الرجال على النساء يوافق آداب الإفرنج ومقلديهم في هذا الزمن وأما حديثا الباب في البخاري , فأحدهما: حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أنه كان لهم عجوز , تطبخ كل يوم جمعة أصول السلق بدقيق الشعير , وكانوا إذا صلوا الجمعة ينصرفون فيسلمون عليها، فتقدمه إليهم، فيفرحون به. والثاني: تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم عائشة سلام جبريل فترد عليه السلام , وكان يجيء بصورة رجل. وحديث أم هانئ حجة على من منع السلام على من في الحمَّام , وفي الصحيحين وغيرهما , أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الصبيان. وعقد البخاري له بابًا للرد على من قال: لا يشرع.
كالحسن البصري , وقيده الفقهاء بما قيدوا به السلام على المرأة التي يخشى الافتتان بها , وأما الفاسق فاحتج الجمهور في ترك السلام والرد عليه بمنع النبي صلى الله عليه وسلم الناس من الكلام عن المتخلفين في غزوة تبوك.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١