أرشيف المقالات

امرأة عربية تقود النضال دفاعاً عن الدعوة السلفية

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
الباحث في تاريخ المرأة العربية دائماً يتجشم المشقة في بحثه، ويتعرض للعقبات الكأْداء التي لا يذللها إلا التنقيب في بطون الأسفار، سواء أكانت المطبوعة أم المخطوطة لعله يصل إلى حاجته.
وتاريخ غالية البقميّة[1] – تلك المرأة العربية التي خرجت في وقت المحن، تثير حَمِيَّة الرجال المدافعين عن وطنها، وتنفق الغالي والنفيس من أجل مواجهة قوات محمد علي الغازية لبلادها، لدرجة أنها كانت تثير الرعب والخوف بين صفوف هذه القوات عند سماعهم باسمها[2] – هذا التاريخ لهو جدير حقاً بالتعريف به، وإبراز دور صاحبته حتى يتعرف أبناء هذه الأمة حقيقة البطولات الضخمة والمواقف الحاسمة التي لم تقتصر على الرجال بل شملت النساء أيضاً.

وللتعريف بتلك السيدة نقول: إنها من عرب البقوم، من بادية ما بين الحجاز ونجد، كانت أرملة رجل من أثرياء البقوم، وأحد مشايخ سبيع[3] الذين كانوا أسبق أهل الحجاز إلى موالاة نجد، ومساندة للدعوة الإصلاحية التي قادها الشيخ محمد بن عبدالوهاب والذين كانت لهم مواقف معروفة في أثناء محاربة العثمانيين وقوات محمد علي للدعوة ورجالاتها[4].

وكانت غالية من سراة قومها أوتيت من الثروة حظاً كبيراً فكان لديها من الثروة ما يفوق ما لدى أسرة عربية في منطقتها، واشتهرت بالكرم حيث كان بيتها مقصداً للمحتاجين، فكانت توزع نقوداً ومؤناً على فقراء قبيلتها الذين كانوا على استعداد لقتال الغزاة الطامعين في بلادها.
كما كان بَيْتُها مَلْجأً لكل رجالات الدعوة المخلصين الذين يعقد زعماؤهم مجالسهم في بيتها[5].
وكانت هذه السيدة سديدة الرأي نافذة البصيرة، على معرفة بأمور القبائل المحيطة بها.

وبالرغم من أن البقوم كان لهم زعيم رسمي اسمه ابن جرشان[6] فقد كان صوت (غالية) مسموعاً في كافة المجالس تشارك أبناء وطنها في تصريف الأمور، كما كان لها في معظم الأحوال الكلمة العليا والرأي المطاع[7] لدرجة أن بَالَغَ أبناءُ بلدتها في تقديرها فَنَعَتُوها بالأميرة[8]، كما بالغ الأعداءُ في التَّشْهير بها فوصفوها بالساحرة الذين أصبح قادة الدعوة بفضل وسائلها لا يغلبون[9].
وعن قصة بطولة هذه السيدة نقول: إن اسمها ذاع في معظم أنحاء الجزيرة العربية بعد أنْ أنفذ طوسون باشا جيشاً بقيادة مصطفى بك أحد قواده لمهاجمة رجالات الدعوة الذين اتخذوا من تُربة[10] معسكراً لهم، وأحاطوها بالخنادق[11] وشاركت هذه السيدة المدافعين في الدفاع عن بلدتها[12] وضَاعَفتْ من هِمَمِهِمْ وأثارتْ فيهم الحمية والحماسة[13] وألهبتْ فيهم روح الانتقام من الغزاة مما زاد من مخاوف الجنود الأتراك، وثَبْط من هممهم، وزادت من ثقة الأهالي بأنفسهم[14] وانْتَهى الأمر بهزيمة قوات مصطفى باشا وقتل معظم أفرادها، وارتداد الباقين منهم على أعقابهم[15] بعد أن تركوا مدافعهم وذخيرتهم[16].

ونتيجة لفشل هذه الحملة صمم محمد علي على قِيام قواته بهجوم آخر في ذي الحجة 1228هـ/ نوفمبر 1813م فأرسل ابنه طوسون على رأس قوة مؤلفة من ألفي جُنْدِيٍّ من أجل الاستيلاء على تربة[17]، وغسل عار الهزيمة التي لحقتْ بقواته ولكنه لم يتمكن من ذلك بل مُنِيَتْ قواتُه بأفدح الخسائر.
وعن هذه الواقعة نعرض لما ذكره بعض المؤرخين.
يقول المؤرخ النجدي عثمان بن بشر: "أقبل طوسون ومن معه من العساكر والجموع، ونازلوا أهل بلدة تُرَبة وحاصروها نحو أربعة أيام، ونَصبوا على قُصورها المدافع والقنابر، ورموها رَمْياً كثيراً فلم يؤثر فيها شيئاً، وأنزل الله الرعب فيه وفي عساكره، ورحل عنها بعدما قتل من قومه قتلى كثيرة"[18].
ويقول المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي: "إن طوسون باشا وعابدين بك ركبوا بعساكرهم على ناحية تربة التي بها المرأة التي يقال لها غالية، فَوقَعتْ بينهم حروب ثمانية أيام ثم رجعوا منهزمين، ولم يظفروا بطائل"[19].

ويقول محمود فهمي المهندس: "ففي أوائل نوفمبر 1813م (ذي الحجة 1228هـ) سافر طوسون من الطائف ومعه ألفا نَفْسٍ، للغارة على تربة وأمر عساكره بالهجوم.
وكان العرب محافظين على أسوار المدينة بشجاعة ومستبشرين بوجود (غالية) معهم وهي المقدمة عليهم فَصَدُّوا طوسون وعساكره، واضطر هؤلاء إلى ترك خيامهم وسلاحهم وقتل منهم في ارتدادهم نحو سبع مَئة نفس، ومات كثيرون جوعاً وعطشاً"[20].
أما عن الرحالة السويسري بوركهارت فيقول: "إن طوسون أمر جنوده بمهاجمة البلدة فَوْراً، ولكن العرب دافعوا عن أسوارها ببسالة تشجعهم جهود غالية"[21].
ولما أصدر طوسون أوامره بإعادة الهجوم على تربة مرة أخرى أعلن جنوده صراحة أنهم يرفُضون محاربة غالية كما أعربوا عن خشيتهم من الهزيمة مرة أخرى، وحثوه على الانسحاب إلى الطائف.
وخلال انسحاب قوات طوسون خرج البدو الذين شعروا بالوضع الحرج للقوات المهاجمة، وهاجموها بِعُنْفٍ، واستولوا على الممرات التي في طريقها لدرجة أن هذه القوات اضطرت في نهاية الأمر إلى الهرب تاركة أمْتِعَتَها وخيامها وأقواتها ومدافعها[22].
ونتيجة لذلك أَرسل طوسون إلى أبيه يطلب النجدة فاعتزم محمد علي أن يسير بنفسه إلى الحجاز لمتابعة القتَال، وكان أول ما فعله أن اعْتَقَل الشريف غالب أمير مكة لارتيابه في اخلاصه، وعهد إلى ابنه طوسون أن يتخذ من الطائف مقرًّا لقيادته.

وعلى كل حال فإنه نتيجة للهزائم المتكررة التي لحقت بقوات محمد علي في تربة أرسل زعماء هذه المنطقة برسالة إلى محمد علي يتهكمون عليه ومضمونها: إنَّ أعقل خطة له هو أن يعود إلى مصر ، ويتمتع بِماء النيل، أما إذا رأى أن يعاود الكرة معهم مرة أخرى فينبغي عليه أن يأتي بجنود أفضل من أولئك الذين يقودهم الآن[23].
واستمر انتصارُ أهالي تُرَبة أَمام قوات محمد علي ماثلاً للعيان، وحافزاً لأهالي الجزيرة العربية على المقاومة والنضال حتى تمكنَتْ قواتُ محمد علي من الانْتصار في بِسْل[24] والوصول إلى تربة، ونتيجة لذلك لجأت (غالية) إلى البدو ولما كان محمد علي يطمع في القبض عليها وإرسالها إلى عاصمة الدولة العثمانية تذكاراً لانتصاره، فقد حاول إقناعها بالعودة إلى بلدتها، وبذل لها الوعود والأماني ولكنها لم تثق فيها عرض عليها من وعود[25]، وظَلَّتْ بعيدة عن أنظار محمد علي وقواته.
ومما سبق يتّضِحُ أن غالية البقمية قد نجحت في إثارة الحمية والحماسة في أبناء وطنها حتى نجحوا في رَدَّ مطامع القوات الغازية لبلادها، ورَدَّ كيدها إلى نحورها.
فقد خرجتْ في وقت المحنة تثير حمية الرجال، معرضة نفسها للموت، ولا سبيل أمامها سوى النّصر أو الشهادة ، مستعذبة في ذلك كل المشاق والمتَاعب.
ــــــــــــــــــــ
[1]  البقوم من القبائل العربية الكبيرة مقرها جبل حضن وأطرافه حتى تربة والخرمة وأصل البقوم من الأزد، وهم أهل قوة وبأس.
انظر.
فؤاد حمزة: في بلاد عسير، القاهرة، دار الكتاب العربي 1951 ص26.
[2]  جامعة الرياض: دراسات تاريخ الجزيرة العربية – مصادر تاريخ الجزيرة العربية جـ2، الرياض، مطابع جامعة الرياض 1399هـ/ 1979م ص460.
[3]  بيير كرابيتيس: إبراهيم باشا – ترجمة محمد بدران – القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر 1937 ص21 – 22.
[4]  عمر رضا كحالة: أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام، بيروت، الرسالة، الطبعة الخامسة 1404هـ/1984م، جـ4 (العرب: كيف يكون من البقوم وشيخاً لقبيلة سبيع؟!).
[5]  جوهان لودفيج بوركهارت: مواد التاريخ الوهابيين – ترجمة د.عبدالله الصالح العثيمين، الرياض، الطبعة الأولى 1405هـ/1985م ص141.
[6]  نفسه.
[7]  كرابيتيس: المرجع السابق ص22.
[8]  خير الدين الزركلي: الأعلام – قاموس تراجم، المجلد الخامس بيروت، دار العلم للملايين ص115.
[9]  بوركهارت: المرجع السابق ص141.
[10]  على مسافة 80 ميلاً من الطائف، وتعتبر مفتاح نجد إلى الشرق واليمن إلى الجنوب.
[11]  عبدالرحمن الرافعي: ((عصر محمد علي))، القاهرة، النهضة المصرية الطبعة الثالثة 1370هـ/1951م ص139.
[12]  كرابيتيس: المرجع السابق ص21 – 22.
[13]  عبدالرحمن زكي: ((التاريخ الحربي لعصر محمد علي))، القاهرة، دار المعارف 1950م ص50.
[14]  بوركهارت: المرجع السابق ص141.
[15]  للتفاصيل انظر، عبدالرحمن الجبرتي: ((عجائب الآثار في التراجم والأخبار)) جـ3، بيروت، دار الجبل، حوادث شهر صفر يوم الأحد 1229هـ ص447.
[16]  الرافعي: المرجع السابق ص140.
[17]  بوركهارت: المرجع السابق ص142.
[18]  انظر ((عنوان المجد في تاريخ نجد)) جـ1، الرياض، الطبعة الثالثة 1385هـ ص201.
[19]  الجبرتي: المصدر السابق جـ3 حوادث شهر جمادى الأولى 1299هـ ص453.
[20]  انظر ((البحر الزاخر في تاريخ العالم وأخبار الأوائل والأواخر)) جـ1 ص183.
[21]  بوركهارت: المرجع السابق ص142.
[22]  نفسه.
[23]  بوركهارت: المرجع السابق ص166.
[24]  تقع بين الطائف وتربةَ، وقد تمكنت قوات محمد علي من احتلالها في 28 من محرم 1230هـ الموافق 10 يناير 1815م وذلك بعد معركة عنيفة مع قوات الأمير فيصل بن سعود.
لتفاصيل ذلك انظر، عبدالرحمن الرافعي: المرجع السابق ص112.
[25]   بوركهارت: المرجع السابق ص176، ويذكر محمود فهمي المهندس أن محمد علي تكدر كثيراً من هرب غالية ونجاتها من يده لأنه في اشتياق زائد لإرسالها إلى القسطنطينية انظر ((البحر الزاخر)) وأيضاً مجلة ((العرب)) س15 رمضان شوال 1400هـ ص263.
___________________________________
الكاتب:  عبدالمنعم إبراهيم الدسوقي الجميعي

شارك الخبر

المرئيات-١