أرشيف المقالات

كلمة عن سورة الفاتحة

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2كلمة عن سورة الفاتحة   الفاتحةُ (أمُّ الكتاب)، هي مِنحةٌ ربَّانية أخبرك بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، قال: مجَّدني عبدي، وقال مرة: فوض إليَّ عبدي، فإذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل))، (وفي رواية): ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي))[1].   • أي فضل، أي كرم، أي عطاء ذلك الذي بشرك به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ما أنزل الله في التوراة والإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل))[2].   ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾: الحمد لله: أمدحك ربي مع تقديسي ومحبتي وخضوعي لك وحدك. فالحمد هو مدح المولى سبحانه بكل جميل، ووصفه بكل كمال.   الحمد لله: الذي أقامني بين يديه مصلِّيًا خاضعًا ملبِّيًا النداء.   الحمد لله: على نعمة الإسلام، قالها العبد الصالح (شبلٌ): (الحمد لله الذي لم ينس شبلًا، وإن كان شبلٌ ينساه)[3]. والحمد لله على العافية، وعلى نعمة الأهل وعلى، وعلى...
إلخ.   ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ خالق الكون كله: أشجارًا وأزهارًا، نباتات وثمارًا، أسماكًا وبحارًا...
إلخ.   ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾: الرحمن: الذي وسعت رحمته الخلق كلهم (مؤمنهم وكافرهم). الرحيم: الذي يرحم عباده المؤمنين فقط بهدايتهم في الدنيا للخير، وإكرامهم بالجنة في الآخرة.   ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾: • يوم الحق الذي يقف عند حافته الأوهام والأحلام، وتتساقط عنده العروش والمناصب، فلا منصب، ولا جاه، ولا علم، ولا مال.   فيا أيها الكريم: يعجب المرء من عبدٍ فانٍ عاجزٍ يُنازع مولاه الحي في حكمه وملكه، وينسى ماذا فعل العزيز سبحانه بالملوك وأشباههم، آه لو تذكرنا قوله سبحانه وتعالى: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ [الدخان: 25 - 29].   ﴿ يَوْمِ الدِّينِ ﴾: - أخي - ما الذي ألهاك عن تذكره؟ أولم تقرأ قوله سبحانه: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [الزمر: 68]؟   • أولم يوقظك قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2]؟   • ﴿ يَوْمِ الدِّينِ ﴾: أولم تصلك نذره؟ ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾ [غافر: 18]؟   • ﴿ يَوْمِ الدِّينِ ﴾: استمع لخبره: ﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 69].   • أيها الكريم: أي شيطان صرفك عن هذا التدبر؟ تدبَّر يوم القضاء، القاضي فيه الملك سبحانه، ألا يستوجب استحضار هذا اليوم همة للخير، وصدقًا في مراجعة النفس وآفاتها، وإن لم نفعل هذا - هنا - في الصلاة...
فأين إذن؟!   أي جاه، أي منصب، أغواك بالتمرد على مولاك؟ أي مال، أي عمل شغلك عن تدبر مصيرك؟!   • ليتنا نصغي ونتدبر: كم من جبابرة وملوك، وقصور ومنازل كانتْ، ولكن أين ربيع هؤلاء؟ لقد أصابهم الخريف، فتهاوى شجرهم، وحقَّ عليهم قولُ ربنا: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].   ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾: آية هي مرجع الدين كله، وهي نصفان: أولهما تبرؤ من الشرك، وثانيهما تبرؤ من الحول والقوة، فلا علم ولا قوة ولا فهم لنا إلا بالله.   هنا: تذكر بيعة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم حين أوصاهم: ((ولا تسألوا الناس شيئًا))، قال عوف بن مالك رضي الله عنه: "فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه، فلا يسأل أحدًا يناوله إياه))[4].   ولعلك تسأل: لم الجمع ﴿ نَعْبُدُ ﴾ وأنت واحد تقرأ؟ كي تتذكر أنك جزء مِن كلٍّ، ومن ثم تقل أنانيتك، وتؤكد فاعليتك نحو أمَّتك، واستجابتك لهمومها وقضاياها، وأن الجماعة خير عظيم إن اعتصمت بربها وصدقت استعانتها به.   وكأنك تقول: إلهي، ما بلغت عبادتي شرف الوقوف بين يديك؛ لذا أتقدم بها محفوفة بحب الصالحين، ولم لا، ((وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم))[5]؟   ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾: جاءت العبادة أولًا: • لأنها الغاية من الوجود، وحق الله على العباد، ثم تأتي الاستعانة كوسيلة لهذه الغاية. • لأنها متضمنة الاستعانة، فكل عابد صادق في عبادته، فهو في الحقيقة مستعين بالله سبحانه. • لأنها عنوان صدق العبودية، أما الاستعانة وطلب العون والنصرة، فقد يطلب ذلك الصالح والفاسد.   • ﴿ إِيَّاكَ ﴾ هنا ضمير المخاطب عكس سياق الآيات، كأن القارئ قد اقترب من مولاه، فاستحضره ولم لا والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يُناجي ربه)) أو ((أن ربه بينه وبين القبلة...)) الحديث[6]؟   • هنا أسلوب قصر بتقديم المفعول به ﴿ إِيَّاكَ ﴾، وهذا فيه أدب مع الله، فهو الأولى بالذكر، والأحق بالتعظيم؛ لذا قدمته على سؤالك، وسألته قبل نفسك، ولعل التكرار فيه توكيد وتعظيم وتخصيص لله بما هو أهله. • ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾: فلا رياء، ولا كبر؛ إذ العبادة لله وحده.   • ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾: فلا حيلة لنا، ولا قوة لنا إلا بالله سبحانه. • آية تلخص لك الحقيقة المهمة: من أنت؟ ومن ربك؟ فيا أخانا ألا يستحق ربنا أن يتوجه إليه وحده بالعبادة؟ فما لنا وللتوسل بالأنبياء والصالحين ومن دونهم؟ ومن ذا الذي بيده العطاء والمنع؟!   وأسألك: أيها العبد الصالح: هذا الرب الكريم: ماذا صنع بنا حتى نكفره ونجحده؟! ما هذا التكبر؟ ولم هذا الإعراض عن أوامره؟ أهذا يليق بربنا الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين؟!   ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾: اعلم أن الهداية نوعان: أ - هداية البيان والتعريف والإرشاد، وهذه وظيفة الرسل عليهم السلام. ب - هداية التوفيق ولزوم الحق والعمل به، وهي من الله تعالى وحده.   فمَن هُدي في الدنيا إلى صراط الله الحق، هُدي في الآخرة إلى صراطه الموصل للجنة، وعلى قدر ثبوتك هنا يكون ثبوتُك هناك، وعلى قدر سيرك هنا يكون سيرك هناك.   • والصراط جاء معرفة؛ لأن صراط الحق واحدٌ، وهو صراط الله العزيز الحميد.   فاللهم اهدنا: • هداية: نبتعد بها عن الآثام، ونتخلص بها من الآفات، وتلزمنا الحق، وتمسكنا به. • ﴿ الْمُسْتَقِيمَ ﴾: هذا الطريق المستقيم فيه العلم النافع، والعمل الصالح، والخلق الطيب، ودعوة الآخرين لكل معروف.   ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾: • صراط الذين أنعمت عليهم بالهداية والإيمان، من الصحابة والتابعين، ومن سلك سبيلهم، الذين يعملون بما يعلمون.   • غير طريق اليهود ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ الذين يعلمون بلا عمل.   • وغير طريق النصارى ﴿ الضَّالِّينَ ﴾ الذين يعملون بلا علم؛ لهذا ضلوا في العبادة والمعاملة، والسلوك والخلق.   • آمِين: بتخفيف الميم لا بالتشديد؛ أي: (اللهم استَجِب)، هنا استحضر سعادتك بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أَمَّنَ الإمام فأَمِّنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه))[7].   • وبعد الفاتحة: اقطف من ثمرات القرآن ما شئت، وربك القائل: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ﴾ رغبةً في القرآن وحبًّا له، واستحضر الخطاب النبوي: ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق، ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها))[8].


[1] أخرجهما مسلم: (395).
[2] أخرجه الترمذي: (3125)، والنسائي: (914)، وأحمد: (21094)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (5560). [3] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء؛ لأبي نُعيم الأصفهاني: (12/161). [4] أخرجه مسلم: (1043).
[5] جزء من حديث: رواه البخاري: (6408)، ومسلم: (2689).
[6] أخرجه البخاري: (405) ومسلم: (551). [7] أخرجه البخاري: (780)، ومسلم: (410).
[8] أخرجه أحمد: (6799)، وأبو داود: (1464)، والترمذي: (2914) وقال: حسن صحيح.




شارك الخبر

مشكاة أسفل ١