أرشيف المقالات

الرحلة من الضياع إلى اليقين

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
2الرحلة من الضياع إلى اليقين   قبل البدء في قراءة هذا المقال، لا بدَّ أنْ نتَّفق على مسألةٍ ما، وهي أنْ كثيراً منَّا مرَّ في مرحلة الضياع والتِّيه المنهجي والفكري، وإنَّني من خلال هذا المقال سأذكر قبساتٍ من قصتي في تلك الرحلة علَّها تكون عِظةً وعبرةً لي ولكم.   إنَّ التقلب الفكري والمنهجي أمرٌ غير مستبعدٍ أن يصاب به الفرد المسلم، لا سيما في ظلِّ الفتن الهوجاء والأمواج المتلاطمة من المحن والابتلاءات، ويزيد ذلك تعقيداً غياب الشريعة الإسلامية المطهرة عن حياة كثيرٍ من المجتمعات المسلمة، وانتشار البدع والمُحدثات.   في بداية أمري كنت شابّاً لا أعرف عن الإسلام سوى الصلاة والصيام وشيءٍ من الشعائر الظاهرة، ظآنَّاً بذلك أنَّني مُكتفٍ بما أنا عليه، حينها لم أكن أعلم شيئاً عن المنهجيات والأفكار اللازمة للفرد المسلم في اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا أنكر أنَّني كنت غارقاً في مستنقعات الأفكار الوطنية وشيءٍ من القومية التي نشأت عقولنا عليها منذ الصغر نتيجة التعبئة القصرية التي كنا نعاني منها، ولم أكن أعرف رابطاً يربطني بالبشر سوى ذلك الرابط الوهمي المصطنع حول البقعة الجغرافية التي أعيش فيها، تلك الرحلة التي كنت فيها ضائعاً لا أعرف نفسي ولا هدفي، تلك رحلة الضياع التي يكون الإنسان فيها تحت سكرة الأفكار والمناهج المعْوَجَّة الضيّقة التي لا تصلح أو ترتقي أنْ تكون مشرع أمَّة إسلامية كاملة. في تلك الرحلة غابت عني فطرتي السويَّة، أو دعني أقول غشَّاها ضباب تلك الأفكار، تلك الفطرة التي أودعها الله قلوبَ عباده المؤمنين، فيُعرفُ من خلالها الحقُّ من الباطل.   قليلاً قليلاً، حتى بدأَتْ تلك الغشاوة تنجلي، ولا أعرف سبباً مباشراً أو بارزاً، كلُّ ما أعرفه أنَّ الله عزّ وجلّ مَنَّ عليَّ بالصحوة ومعرفة حقيقة تلك السكرة التي كنت فيها، وربما ينصب الله لعبده من الأسباب الخفيّة ما لا يعلم حتى يهتدي ويعود إلى رُشده، وهذا من عظيم رحمة الله ولطفه والحمد لله.   في بداية أمري شعرت بشيء يجذبني نحو قضايا المسلمين حول العالم، بدأتُ أهتم بها شيئاً فشيئاً، بدأتُ أتابعها وأتأثر بها وأخوض مع زملائي في الجامعة الحديث حولها، بدأَتْ تلك الأفكار القديمة تتواهي في داخلي، حينها أدركت أنَّني واحدٌ من هذه الأمّة المسلمة التي شرّفها الله، شعرت بقيمة الرسالة العظيمة التي استودعنا اللهُ إيَّاها، هي رسالة من أشرف الرسالات، إنَّ الله استودعنا هذا الدين وأمرنا بتبليغه للناس وجَعَل الخيرية في الأمّة بهذا السبب، فقال: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ (آل عمران - 110).   بعد أن عرفت تلك الحقيقة التي غابت عني بدأتُ أبحث عن الطريق الصحيح الموصل للنتيجة المُرضية، عندنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف سأطبّق؟ كيف سأفهم؟ كيف سأدعو؟، كان لا بدَّ من منهج يضبط المسألة ويُحقق الغاية الحقيقية، فالكلَّ اليوم يدَّعي حَمْلَ الكتاب والسنّة، ولم يبق في ذلك إلا المفاضلة والبحث، فمَن أحقُّ الناس بفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟، أليسوا مَن ساروا على نهج مَن عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم، أولئك الذين عايشوا نزول الوحي في كل واقعةٍ ونازلة، نعم؛ لعلّك تعرف الآن من أقصد، إنّهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنّهم السلف الصالح.   ولكنّ السؤال؛ ما هي فضائل السلف حتى اخترتُ منهجهم؟، فأنا لن أطيل الإجابة، فقد كتبت ذلك في مقالي السابق [قضايا الأمّة بين منهج السلف وانحراف الخلف]، ولكنني سأضرب مثالاً بسيطاً وواقعياً، فلو أنَّنا سمعنا بحادثةٍ وقعت في بلدة من البلدان، ونحن الآن لا نملك الكمَّ الكافي من المعلومات عنها ولا نفهم تفاصيلها وأسبابها، والناس كلُّهم خاضوا في تلك الحادثة بين أخذٍ وردٍّ وافتراءات، فما الحل؟، أليس الحلُّ الذي يذهب إليه كلُّ عاقلٍ هو أن نأخذ التفاصيل من أهل تلك البلدة الذين عايشوا تلك الحادثة وعاصروا أسبابها وتفاصيلها، ولو نظرنا الآن إلى الصحابة رضي الله عنهم فهم كانوا الأقرب لنزول الشرائع مكاناً وزماناً، مكاناً حيث كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حلِّه وترحاله، في مسكنه ومهجره، وزماناً لأنّهم عاشوا في زمن النبوة ونزول الوحي، لذلك كان اختياري لهذا النهج، فهو مَعينٌ صافٍ لفهم هذا الدين، وهو الأسلم والأعلم والأحكم، وهو اختيار كلّ عاقلٍ سليم.   أذكر عند بداية تأثري بمنهج السلف حينما كنت في الجامعة كان بعض الزملاء يُمازحونني ويُنادونني بـ [السلفي]، والبعض كان يعتبرها تهمة!، ولكنني كنت أشعر بسعادة داخلية حينما يُنادونني بذلك الاسم، سواءً كانوا يُنادونني من باب المُزاح أو من باب الازدراء والاتهام، فتلك السعادة لا يعلم قدرها إلا من ذاقها، وما زلتُ أحفظ تلك الكلمة التي قالها أحد السلف، وما زلتُ أرددها دائماً، حيث قال: [لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف].   نعم حينها بدأتُ أواجه كثيراً من الصعوبات والعقبات، لا سيّما وأنَّ المجتمعات اليوم انتشرت بها كثيرٌ من العادات والتقاليد المخالفة، ولكنني كنت أتجاوزها بفضل الله، فقط لأنّني على يقين تامٍّ من هذه الطريق التي سلكتها خلافاً لكل تلك الأفكار السابقة الركيكة.   أنا لا أكتب هذه الكلمات لأجل تفريغٍ نفسيٍّ، ولا لأجل تسليةٍ أو إضاعةٍ للوقت، إنما أردت أن أوصل رسالةً أنَّ الحقَ على مرمى حجرٍ مِنّي ومنك، ولكن هناك غشاوة تمنعنا من الوصول إليه، فلا بدَّ للإنسان أن يبحث ويسعى في الوصول إلى الحق.   إنَّ الحقَ يا إخواني لا يحتاج إلى رخصة من أحد، ولا يحتاج حَمْلَ الحقِّ إلى شهادة خبرةٍ كتلك التي أرهقوا كواهلنا بها في بلادنا، إنّه يحتاج إلى تجردٍ وتوجهٍ لله عزّ وجلّ وبرآءةٍ من جملة العواطف والمصالح التي تكبّلنا، نحتاج إلى استسلامٍ لأمر الله ورسوله ورضًى وقناعةٍ بما قسم الله لنا.   واعلم أنّك في حملك لمنهج السلف والدعوة إليه تسلك أشرف السبل وأعلاها، ولا تظنُّ أنّك بذلك ستكون منبوذاً أو منعزلاً عن الناس، لا؛ بل حملك لهذا المنهج يُحتّم عليك العمل والمجاهدة والمزاحمة لنشر هذا الدين، لأنَّ ديننا ليس مجردَ شعائر تعبديةٍ نؤدّيها في المساجد ثم نتركها على عتبة المسجد ونخرج، بل ديننا منهج حياة بأكملها، هو في المسجد والمنزل، في السوق والعمل، في السياسة والاقتصاد، في السلم والحرب، وفي الحِلِّ والترحال.
وليس غريباً أنَّ هذا المنهج أخرجني الله به من العبودية الفكرية إلى إخلاص العبودية لله عزّ وجلّ، أخرجني إلى سِعة الطاعة والاتباع لأوامر الله وأحكامه.   وإنّني دوماً يُخالجني شعورٌ بالأسى والأسف على أولئك الذين عرفتهم وما زالوا غَرْقى في ظلمات الأفكار الباطلة والمناهج العوجاء، وإنّني لا أنساهم من دعوتي لهم ليتجرّدوا لله ولو مرّة، بأن يتفكروا ويستيقظوا من أوهامهم ويبصروا غايتهم وغاية كلَ مسلم موحد لله، ألا وهي حَمل هذه الرسالة العظيمة الشريفة التي أكرمنا الله سبحانه وتعالى بها، فلا رسالة ولا فكرة أعظم من رسالة الإسلام، ففيها سعادة الدنيا والآخرة.   ولو أجَلْنَا البصر قليلاً إلى البعض ممّن يُسخّرون جُلّ جهودهم وأوقاتهم في حمل رسالة دنيوية أو غاية مصلحية لوجدنا منهم تفانياً منقطع النظير في حمل تلك الرسالة والدعوة إليها وحرصهم على إدخال الناس فيها، أفلا تستحقُّ رسالة الله لعباده هذه الدعوة وهذا الحرص؟   لو نظرنا أيضاً إلى أيَّ مؤسسةٍ أو جمعيةٍ أو جماعةٍ لوجدنا عندها رسالةً وأهدافاً، ولوجدنا أصحابها يحفظون هذه الرسالة حرفاً حرفاً، بل ويحرصون كل الحرص على دعوة الناس إلى حمل تلك الرسالة وانضمامهم إليها، حتى إنّهم يَخشون من كلمةٍ تخدش سمعتهم أو سيرتهم، أفلا يستحقُّ هذا الدين العظيم أن نحمل أحكامه وأوامره؟، وأن نحرص على دعوة الناس إليه وحضِّهم عليه؟ وأن نخشى على ديننا أن تخدشه كلمةٌ من جاهلٍ هنا أو سفيهٍ هناك؟   لقد آنَ الأوان لكلٍّ منّا أن يقف مع نفسه وقفةً لله، وأن يضع حدّاً لتلك الرحلة الظلماء، التي أبعدتنا عن طريق الحقّ والنور، فليس الأمر مستحيلاً ولا هو ضربٌ من الخيال، بل هو الواقع الذي يجب علينا تحقيقه وإقامته بإذن الله تعالى؛ ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ (ق: 37).   وأختم مقالي ببراءتي إلى الله من كلّ اعتقادٍ أو قولٍ أو فعلٍ نصرت به منهجاً باطلاً أو فكراً زائغاً، أو عطّلت به خطوةً كانت تسير إلى الحقِّ وأنا لا أعلمها، والحمد لله رب العالمين.



شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢