أرشيف المقالات

تحصينات الإنسان ضد الشيطان: الاستعاذة

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
تحصينات الإنسان ضد الشيطان
الاستعاذة

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى، والالتصاق بجنابه من كل ذي شر، ومعنى «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»؛ أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني، أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أُمرت به، أو يحثني على فعل ما نُهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله، ولهذا أمر بالاستعاذة من شيطان الجن؛ لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه؛ اهـ ملخصًا[1].
 

مواضع الاستعاذة:
أولًا: عند الإحساس بنزغات الشيطان ووساوسه:
قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 200].
 
ثانيًا: عند تلاوة القرآن:
قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98]، ويُبين ابن القيم رحمه الله الحكمة في ذلك فيقول:
1- منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب ما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمره فيها الشيطان، فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلي منه القلب؛ ليصادف الدواء محلًّا خاليًا، فيتمكن منه ويؤثر فيه، فيجيء هذا الدواء الشافي إلى القلب وقد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه.
 
2- ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان يحرق النبات أولًا فأولًا، فكلما أحس بنبات الخير من القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه؛ لئلا يفسد عليه ما يحصل له القرآن.
 
والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.
 
3- ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته، كما في حديث أسيد بن حضير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح، فقال عليه الصلاة والسلام: «تِلْكَ المَلَائِكَةُ»[2]، والشيطان ضد الملك وعدوه، فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه، حتى يحضر خاص ملائكته، فهذه منزلة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين.
 
4- ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورَجْله حتى يشغله عن المقصود بالقرآن وهو تدبُّره وتفهُّمه، ومعرفة ما أراد به المتكلم سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحولَ بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله عز وجل منه.
 
5- ومنها: أن القارئ يناجي الله تعالى بكلامه، والله تعالى أشد أذنًا للقارئ حسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة[3] إلى قينته، والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء، فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاة الله تعالى، واستماع الرب قراءته.
 
6- ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
 
7- فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم السلام فكيف بغيرهم، ولهذا يُغَلِّط القارئ تارة ويخلط عليه القراءة، ويشوشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوش عليه ذهنه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا، وربما جمعهما له فكان من أهم الأمور الاستعاذة بالله منه.
 
8- ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير ويدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفي «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ شَيْطَانًا تَفَلَّتَ عَلَيَّ البَارِحَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي...
»
[4]، كلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر.
 
وفي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي فاكهٍ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ»[5].
 
فالشيطان بالمرصاد للإنسان على طريق كل خير، فأمر سبحانه العبد أن يحارب عدوَّه الذي يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله تعالى منه أولًا، ثم يأخذ في السير، كما أنَّ المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه ثم اندفع في سيره؛ اهـ، مختصرًا[6].
 
ثالثًا: الاستعاذة عند دخول الخلاء:
فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبائِثِ»[7] متفق عليه.
 
رابعًا: الاستعاذة عند الدخول في الصلاة:
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قال: «اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثَلَاثًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَهَمْزِهِ»[8]، رواه أبو داود، وصححه الألباني[9].
 
(نفخه): الكبر، و(نفثه): الشعر، و(همزه): الموتة، «الخنق أو الجنون».
 
وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها عليَّ، فقال صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ: خَنْزَبٌ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلَاثًا»، ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني[10].
 
ولكن بعض الناس يقولون: إنا نتعوذ بالله من الشيطان في الصلاة، ومع ذلك يظل يوسوس لنا ويشغلنا فيها.
والجواب: أن هذا يختلف من إنسان لآخر، فالمؤمن التقي بمجرد الاستعاذة يطرد الشيطان، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]، هؤلاء هم المتقون الذين يطردون الشيطان بمجرد الذكر.
 
أما ضعفاء الإيمان قليلو التقوى الذين شحنت قلوبهم بحب الدنيا، والانشغال بها، ولم يعد في قلوبهم مكان لذكر الله، لا يمكن أن يطردوا الشيطان بمجرد الاستعاذة كيف وقد باض الشيطان، وفرخ في قلوبهم، فلا بد أولًا من تطهيرها من قوت الشيطان ودنسه، وقوت الشيطان هو حب الدنيا.
 
أرأيت لو أن إنسانًا أحب امرأة وعشقها أتراه ينساها؟ لا، بل يفكر فيها دائمًا فتراه جالسًا معك بجسمه، وعقله هناك، كذلك عشاق الدنيا وسكارى الهوى لا يفارقهم ذكرها، ولو كانوا أمام ربهم وخالقهم في الصلاة، لا يفيق أحدهم إلا إذا اصطدم رأسه بجدار القبر، هناك تكون الصحوة الكبرى، واليقظة العظمى، نعوذ بالله من الغفلة.
 
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ، وَلَهُ ضُرَاطٌ، حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قُضِيَ النِّدَاءُ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ المَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا، اذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى»[11].
 
خامسًا: عند الغضب:
فقد استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن أحدهما ليتمزع أنفه من شدة الغضب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ»، فقالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: «أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»[12] متفق عليه.
 
سادسًا: عند نباح الكلاب ونهيق الحمير:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الحِمَارِ فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ رَأَى شَيْطَانًا»[13]، متفق عليه.
 
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَمِعْتُمْ نُبَاحَ الْكِلَابِ، وَنَهِيقَ الْحُمُرِ بِاللَّيْلِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ يَرَيْنَ مَا لَا تَرَوْنَ»[14] رواه أبو داود، وقال الألباني: صحيح بطُرُقِه[15].

[1] تفسير ابن كثير (1/ 15).

[2] متفق عليه: رواه البخاري (5018) في «فضائل القرآن»، باب نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، ومسلم (796) في صلاة «المسافرين»، باب نزول السكينة لقراءة القرآن.

[3] القينة: المغنية.

[4] متفق عليه: رواه البخاري رقم (461) في «الصلاة»، باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد، ومسلم رقم (541) في «المساجد»، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة.

[5] صحيح: النسائي (6/ 21، 22) في «الجهاد»، باب ما لمن أسلم وهاجر وجاهد، ورواه أحمد في «المسند» (3/ 483)، وابن حبان في «صحيحه» (1601) «موارد الظمآن»، وهو في «صحيح الجامع» (1652).

[6] إغاثة اللهفان (1/ 94).

[7] متفق عليه: رواه البخاري رقم (142) في «الوضوء»، باب ما يقول عند الخلاء، ومسلم رقم (375) في «الحيض»، باب ما يقال إذا أراد دخول الخلاء.

[8] صحيح بشواهده: أبو داود رقم (764) في «الصلاة»، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، وفي سنده عاصم بن عمير العنزي؛ قال الحافظ في «التقريب» (3074): مقبول، ولكن للحديث شواهد بمعناه يرتقي بها إلى الصحة فلأوله شاهد عند مسلم رقم (601)، ولأخره شاهد عند أبي داود (775).

[9] تخريج الكلم الطيب (55).

[10] صحيح: أخرجه مسلم رقم (2203) في «السلام»، باب التعوذ من شيطان الوسوسة.

[11] متفق عليه: رواه البخاري رقم (608) في «الأذان»، باب فضل التأذين، ومسلم رقم (389) في «الصلاة» باب فضل الأذان.

[12] متفق عليه: رواه البخاري رقم (3282) في «بدء الخلق»، باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم رقم (2610) في «البر والصلة» باب فضل من يمسك نفسه عند الغضب.

[13] متفق عليه: رواه البخاري رقم (3303) في «بدء الخلق»، باب خير مال المسلم، ومسلم رقم (2729) في «الذكر والدعاء» باب استحباب الدعاء عند صياح الديك.

[14] صحيح: أبو داود (5103) في «الأدب»، باب ما جاء في الديك والبهائم، ورواه أحمد في «المسند» (3/ 306)، ورواه البخاري في «الأدب المفرد» رقم (1234)، وابن خزيمة في «صحيحه» رقم (2559) وهو في «صحيح الجامع» (620).

[15] تخريج الكلم الطيب (164).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢