أفظع المناظر
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
أفظع المناظرروى الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح من حديث عثمانَ بنِ عفانَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((والله ما رأيت منظرًا قطُّ إلا والقبر أفظع منه)).
ونحن نقرأ هذا الحديث نستحضر المواقف التي مرَّت به -صلى الله عليه وسلم- من مشاهد لرؤوس مقطوعة وأعضاء مَبتورة: مشهد مقتل عمِّه حمزة بن عبدالمطلب وهو مبقور بطنُه ومأكول كبدُه، بل ومشاهد من عذاب أهل النار حين كُشِف له من الغيب في رحلة الإسراء والمعراج، لكنه -صلى الله عليه وسلم- يُقسم -وهو الصادق المصدوق- بأن القبر أفظع المناظر بلا منازع.
القبر منظر فظيع؛ لأنه بيت يَنزله الأولون والآخرون، الأغنياء والفقراء، الأتقياء والأشقياء، الكبار والصغار، الرجال والنساء، الأُمراء والحُقراء، الملوك والعبيد، وكلٌّ سيدخل هذا الباب.
الموتُ بابٌ وكلُّ الناس داخلُهُ
يا ليتَ شِعْريَ بعْد البابِ ما الدارُ؟
الدارُ دارُ نعيمٍ إن عَمِلت بما
يُرضي الإله وإن خالَفت فالنارُ
القبر منظر فظيع؛ لأنك ستنتقل فيه من بيت إلى بيت، فلكل إنسان بيتان: أحدهما ظاهر الأرض، والآخر في باطنها، فالميِّت سينتقل من بيته الظاهر الذي عمَّره إلى بيته الباطن الذي خرَّبه، (وذلك غالب أحوال الناس).
القبر منظر فظيع؛ لأنك بين ليلتين: إحداهما عند أهلك وبين أحبابك، ووسط خَدمك، والأخرى تبقى فيها وحيدًا فريدًا، لا أنيس ولا جليس، ولا صاحب ولا حبيبة.
القبر منظر فظيع؛ لأنها اللحظة التي ستُفارق فيها الأحياء، وتَركَن إلى الحياة الطويلة مع الأموات.
ظلمة طويلة، ووحشة قاتلة، فسَلِ الأموات عنها، سلْهم عن محاسن وجوههم: كيف فعَلت بها الديدان؟ وسلهم عن رقَّة جلودهم: كيف فعَل بها التراب؟ وسَلْهم عن طِيب روائحهم: كيف تغيَّر إلى النتن؟
سلهم عن العظام: كيف تهشَّمت؟ سلهم عن الليل والنهار: أما يتساوى عندهم؟ سلْهم وسَلْهم!
القبر أفظع المناظر؛ لأن فيه ضمَّة لا ينجو منها أحد؛ قال -صلى الله عليه وسلم- والحديث عند النسائي بسند صحيح عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال عن سعد بن معاذ -رضي الله عنه-: ((هذا الذي تحرَّك له العرش وفُتِحت له أبواب السماء، وشهِده سبعون ألفًا من الملائكة، لقد ضُمَّ ضمَّة، ثم فُرِّج عنه عذاب القبر))، وقال -عليه الصلاة والسلام- أيضًا من رواية عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((للقبر ضغطة لو نجا منها أحدٌ، لنجا منها سعد بن معاذ))، والحديث أخرجه ابن حبَّان وغيره بسند صحيح.
القبر أفظع المناظر؛ لأن فيه فتنة؛ كما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن العبد إذا وُضِع في قبره، وتولَّى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرْع نِعالهم، أتاه ملكان، فيُقعدانه، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل (لمحمد -صلى الله عليه وسلم-)، فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدَلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا.
وكما أخرج النسائي بسندٍ صحيح أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يُفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: ((كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنةً)).
القبر أفظع المناظر؛ لأنه بيت الظُّلمة، والحديث في الصحيحين عن أبي هريرة أن امرأة سوداء كانت تَقُمُّ المسجد - أو شابًّا - ففقَدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها أو عنه، فقالوا: ماتت، فقال: ((أفلا كنتم آذنتموني؟))، فكأنهم صغَّروا أمرها أو أمره، فقال: ((دُلُّوني على قبره))، فدلُّوه، فصلى عليها، ثم قال: ((إن هذه القبور مملوءةٌ ظُلمةًً على أهلها، وإن الله يُنوِّرها لهم بصلاتي عليهم)).
القبر أفظع المناظر؛ لأنه أكبر واعظٍ، ولو وقَفت على القبور وكُشِف عنك الحجاب، ورأيت سُكانها، لخرَج لك من كل قبرٍ واعظٌ يعِظ.
وقف علي -رضي الله عنه- على القبور، فنادى أصحابها: أتخبرونا أخباركم؟ أم نُخبركم أخبارنا؟
أمَّا أخبارُنا، فإن الأموال قد قُسمت، والنساء تزوَّجت، والمساكن قد سُكنت، فما هي أخباركم؟ ثم التفت إلى أصحابه، فقال: أما إنهم لو تكلَّموا، لقالوا: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197].
بأبي أنت وأمي يا رسول الله؛ فالقبر أفظع المناظر!