يوم يعض الظالم على يديه
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِالجنَّةُ؛ أمنيةُ المؤمنين، ومآلُ الشهداء والصالحين، ودعوةُ الأنبياء والمرسلين، وسكنُ المتقين، ومنحةُ رب العالمين لعباده الموحدين الشاكرين الذاكرين، بُنيت لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، ملاطها[1] المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران.
من دخل الجنَّة ينعمُ فلا يبأس، ويخلدُ فلا يموت، ويسعدُ فلا يشقى، ويفرحُ فلا يحزن، لا تبلى ثياب ساكنها، ولا يفنى شبابه، يحلمُ بها الصالح والطالح، ولكنَّ الصالحَ يعمل لها، وأما الطالح فهو العاجز الذي يتمنى على الله الأماني.
في يوم القيامة وما بعده وبعد أن تُكتشف كل الأسرار، وتتبين الحقائق لمن كان في قلبه تردد أو شك أو أدنى ريب، أنه كان في وهم كبير، وأنه قد اقترف خطًا فادحًا لا يمكن تعويضه، حينها سيعضُّ على يديه ندمًا وحسرة وألمًا على حجم ما خسر، وعلى قيمة ما فرَّط به، يقول تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ [ الفرقان: 27].
سيعضُّ الظالم على يديه في يوم ليس كبقية الأيام، إنه يوم طويل مقداره خمسين ألف سنة، يحصل فيه الفرد على حصته المناسبة من الانتظار الطويل والمتعب، مثلما يحصل على نصيبه من العطش وشدة الحرِّ والخوف من المصير المجهول.
ومعظمنا قد مرَّ في حالات انتظار لأمور دنيوية صغيرة، كانتظار نتائج الامتحانات، أو انتظار مولود جديد، أو انتظار التبليغ بنتيجة مرض معين، أو انتظار نتيجة المقابلة من أجل عمل، هذه أمور صغيرة ولكنَّ تأثيرها يكون واضحًا علينا، فكيف بمن ينتظر ليعلم هل سيخلد في الجنة أم في النار؟
سيعضُّ الظالمُ على يديه يوم تُزلف الجنة للمتقين، الجنة التي عرضها السموات والأرض، والتي فيها ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم، كما روى رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- عن الله تبارك وتعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ [السجدة: 17]"[2].
سيعضُّ المفرط في حق الله تعالى على يديه، حين يرى أن نصف أهل الجنة هم من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، سيكون منهم إخوته وأقرباؤه وجيرانه وأصدقاؤه، الكثير منهم هو يعرفهم ويعرفونه، ينادَون ثم يُعلن على رؤوس الأشهاد أنهم من أهل الجنة.
أما هو فسيُبعد عن الجنة، ولن يكون من بين هؤلاء الفائزين، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أترضون أن تكونوا رُبعَ أهل الجنة" قلنا: نعم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أترضون أن تكونوا ثُلثَ أهل الجنة" قلنا: نعم، قال: " أترضون أن تكونوا شطرَ أهل الجنة " قلنا: نعم، قال: "والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر"[3].
سيعضُّ على يديه العطشان المحترق الأحشاء وهو ينظر إلى حوض الكوثر، والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يسقي منه المسلمين الموحدين المؤمنين، ذلك المشهد المثير لحوض الكوثر، والذي وصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شرابه بأنه: "أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، يغتُّ فيه ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب، والآخر من وَرِق"[4]، بينما سيُدفع هو ويبعد ولن يمنح تلك الشربة من هذا الحوض العظيم، الذي من شرب منه شربة لن يظمأ بعدها، لأنه لم يتبع سُنَّـةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان يزعم حبه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه ابتدع في دين الله تعالى ما لم ينزل به الله تعالى سلطانًا.
ليس ذلك فحسب، وإنما سيزداد ألمًا وهو ينظر إلى أهل الجنة وهم يشربون إضافة إلى ذلك من عينين، إحداها: عين الكافور: قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴾ [الإنسان: 5].
والثانية: عين التسنيم، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ﴾ [لمطففين: 22-27].
ويُقدِّم لهم ذلك الشرابَ الطهور أولادٌ صغار كاللؤلؤ المنثور، وهم يحملون كؤوسًا وأباريق من فضة، ليستمتع الشارب بالشراب ويُسرُّ بالنظر إليها وإلى المقدِّم، فهي ليست متعة الشراب ولذته فحسب، وإنما متعة ولذة نظر أيضًا.
سيعضُّ على يديه من سيرى حلاوة وجمال وبهاء الجنة، والحال السعيدة التي عليها أهل الجنة، وهم يلبسون الثياب الخضراء الجميلة من السندس والإستبرق، ويحلون بالأساور من الذهب والفضة، وهو الذي سيحرم من هذا الفضل، فعن سعد ابن أبي وقاص - رضى الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أن ما يقِّلُ ظُفُر مما في الجنة بدا، لتزخرفت له ما بين خوافق السماوات والأرض، ولو أن رجلًا من أهل الجنة اطَّلع فبدا سواره لطمس ضوؤه ضوء الشمس، كما تطمس الشمس ضوء النجوم"[5].
سيعضُّ المُسيءُ على يديه حين يُأمر به إلى النار، وقبل ذلك يَرى مقعده من الجنة لو كان قد عمل صالحًا، لتأكل الحسرة والندم قلبه مرة أخرى من حجم الشقاء الذي سيلاقيه في النار، ويتمنى لو أنه قدَّم عملًا صالحًا في حياته ليفوز بذلك المكان الرائع الذي أعد له هو في الجنة، ولكن هيهات، فإن أمنياته تأتي متأخرة وبعد فوات الأوان، فعن أبي هريرة - رضى الله عنه -، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل أحد الجنة إلا أُري مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكرًا، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن، ليكون عليه حسرة"[6].
أهل الجنة يدخلهم الله تعالى إليها وأعمارهم ثلاث وثلاثون سنة، قمة الشباب، وقمة النشاط، طلعتهم بهية ووجوههم كالقمر، على أحسن ما يكون من الجمال، فعن معاذ بن جبل - رضى الله عنه -، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يدخل أهل الجنة الجنة جردًا مردًا مكحلين، أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة"[7]، فحين يرى الخاسرون من أهل النار حال أهل الجنة وهم متنعمون، وينظرون لحالهم وهم محترقون متفحمون، يندمون على كل شيء، وسيعضون على أيديهم، ويتمنون لو أنهم ما اتخذوا فلانًا وفلانًا قدوات، واقتصروا على اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
سيعضُّ العاجز المفرِّط على يديه حين يرى أن الكثير من المؤمنين حجزوا لهم قيعان عظيمة في الجنَّة، وزرعوها بالغِراس وهم ما زالوا في الدنيا، بكلمات عظيمة القيمة، سهلة على اللسان، غرسوها بـ (سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر)، رددوها كثيرًا، ومع كل كلمة تغرس لقائلها غرسة في الجنة.
أما ذلك الخاسر فقد قصَّر كثيرًا، وكان قصير النظر، هل من المعقول أنه كان عاجزًا أن يقولها، وهو يمشي، وهو جالس، وهو مستلقٍ، ولكن فاته الأوان، فعن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه -، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"[8].
سيأتي أقوام ربما ظنوا أنهم من أهل الجنة، ولكنهم يُصدمون حين يبلغون أنهم ليسوا من أهلها، إنهم من أهل الكبائر، هم لم يزنوا، ولم يقتلوا النفس التي حرم الله، ولم يتعاملوا بالربا ولا بالسحر، ولم يأكلوا أموال اليتامى، فأي شيء فعلوه إذًا؟
لقد عقّوا والديهم، لم يبرّوهم، تعاملوا معهم كندٍّ لند، سيعضون على أيديهم عند ذلك، إنهم لم يقترفوا كبيرة فحسب، بل اقترفوا أمرًا من أكبر الكبائر وهو (عقوق الوالدين).
وذلك الإنسان الذي ترك الصيام نكرانًا، أو نسيانًا، أو عجزًا، أو تهاونًا، سيعضُّ على يديه، يوم ينادى يوم القيامة نداءً خاصًا على الصائمين، فيفتح لهم بابًا خاصًا هو باب (الرَّيان)، لا يدخل منه إلا الصائمون، وهو ليس منهم، ويتمنى أنه لو صام رمضان وستًا من شوال وعاشوراء، بل سيتمنى لو قضى عمره كله صائمًا، فكل ذلك لا يوازي قيمة هذا الموقف العظيم، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة بابًا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد"[9].
سيعضُّ على يديه ذلك الذي تقاعس عن الجهاد في سبيل الله حين يرى ما يُعطى للشهيد من عطايا عظيمة، فعن عن المقدام بن معديكرب - رضى الله عنه -، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "للشهيد عند الله ستُّ خصال: يُغفر له في أول دفعة من دمه، ويُرى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويُأمن من الفزع الأكبر، ويُحلَّى حُلَّة الإيمان، ويُزوج من الحور العين، ويُشفَّع في سبعين إنسانًا من أقاربه"[10].
سيعضُّ الكثير من أولئك الذين تمنوا لو كانوا أخرجوا من النار وأدخلوا الجنة على أيديهم، بعد أن يروا أن رجلًا يخرجه الله تعالى من النار إلى الجنة، وهذا آخر من يدخل الجنة، وهو يعتقد أن لا مكان له فيها من فرط جهله، لأنها يعتقد أنها قد امتلأت، فيتمنون وقتها أن لو كانوا هم هذا الرجل، فعن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه -: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولًا، رجل يخرج من النار كبوًا، فيقول الله: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها (أو: إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا)، فيقول: تسخر مني (أو: تضحك مني) وأنت الملك، "فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحك حتى بدت نواجذه، وكان يقول: "ذاك أدنى أهل الجنة منزلة "[11].
أما أكبر درجات عضُّ اليد والندم والحسرة والتي تفوق كل ما تكلمنا عنه، ذلك حين يكشف الله جلَّ في علاه الحجاب بينه وبين أهل الجنة، فيرون ربهم لا يظامون في رؤيته، وتلك أعظم لذة يحصل عليها المؤمن، وأكبر خسارة يخسرها الكافر، فعن صهيب بن سنان - رضى الله عنه -، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتُنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل"[12].
فقدم قبل أن لا تقدم، وقدم فالفرصة مواتية، قبل أن تعضَّ على يديك.
[1] الملاط: الطين .
[2] صحيح البخاري - كتاب بدأ الخلق - باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة.
[3] صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب : كيف الحشر.
[4] صحيح مسلم - كتاب الفضائل - باب إثبات حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفاته.
[5] مسند أحمد - مسند العشرة المبشرين بالجنة - مسند باقي العشرة المبشرين بالجنة - مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص - رضى الله عنه -.
[6] صحيح البخاري- باب الرقاق- باب صفة الجنة والنار.
[7] سنن الترمذي الجامع الصحيح - أبواب صفة الجنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب ما جاء في سن أهل الجنة.
[8] سنن الترمذي الجامع الصحيح - الذبائح - أبواب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب ما جاء في فضل التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد.
[9] صحيح البخاري - كتاب الصوم - باب : الريان للصائمين .
[10] سنن ابن ماجه - كتاب الجهاد - باب: فضل الشهادة في سبيل الله.
[11] صحيح البخاري - باب الرقاق- باب صفة الجنة والنار.
[12] صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى.