int(26) array(0) { }

أرشيف المقالات

المفهوم الأكمل في فقه أساليب الدعوة على الوجه الأفضل

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
المفهوم الأكمل في فقه أساليب الدعوة على الوجه الأفضل

تعلمنا منذ الصغر أن الله تعالى خَلَقَنا لعبادته؛ والدليل قول الله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، ثم نشأنا على مفهوم العبادة الشامل؛ الذي يقوم على مراقبة الله وطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به، والانتهاء عمَّا عنه نهى وزجر، وكمال توحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، واجتناب إشراك غيره من خَلْقِهِ في أي عبادة من قولٍ، أو عملٍ، أو فكر، أو حتى خواطر النفس، وسلامة الروح من تدنيسها بين خفايا الاغتراب بالتعظيم والإجلال والإكبار لغير الله تعالى، وأن تَنْبِضَ قلوبنا بذكره ومحبته، ورجائه والخوف منه وخشيته، وترجمة هذه النبضات باليقين أن ما هو كائن وما سيكون، وما كان قبل أن يكون بعلم الله وقَدَرِهِ، وحكمته وقدرته المطلقة، وبعض هذه المعاني خطَّها نبيُّ الله إبراهيم عليه السلام لقومه، وهو يدعوهم إلى الله تعالى في أكثر من موقف سجَّله القران الكريم؛ نذكر بعضًا منها:
المشهد الأول: في تحطيمه الأصنام ومحاججتهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 51 - 67].

فانظر كيف استطاع أبو الأنبياء عليه السلام تَعْرِيَةَ الوثنية وبيان هشاشتها، وبيان أبرز ما يفتقده المعبود المستحق للعبادة؛ وهو جلب المنفعة لنفسه، ودفع المضرة عنها، في هذه الأصنام التي عكفوا على عبادتها من دون الله تعالى، وبهذا الذكاء التي آتاه الله لنبيه إبراهيم عليه السلام وضع لهم معيارًا لحسن اختيارهم للإله الحق؛ وهو القدرة على النطق والكلام، ودفع الضر والأذى عن نفسه، فضلًا عن غيره، وسجل القرآن هذا المشهد لنتعلم أسلوب الدعوة المؤثر الذي يقوم على البصيرة والحجة والبراهين، واستخلاص العِبَرِ والدروس منها، التي نذكرها إجمالًا لا حصرًا؛ وهي كما يلي:
1- أن يعري الداعية للمدعوِّين فساد عقائدهم أو عباداتهم بأساليب عدة، يبتدئ فيها بالبيان والتوجيه والإنكار والنقد، والأمر والنهي؛ ﴿ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 52]؟! ﴿ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنبياء: 54]؛ ثقة وقوة فيما يدعو إليه، ﴿ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 56]؛ تعزيز ثقته في دعوته، ﴿ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴾ [الأنبياء: 57]؛ تحدي وتأكيد عجز آلهتهم في الدفاع عن أنفسهم، ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأنبياء: 58]، لعلهم يعودون فيرَون ما حلَّ بآلهتهم، فيذكرون توعدي بها، فيستدعونني ليحاكموني؛ فأُقيم الحجة عليهم، وتمَّ له ما أراد، ﴿ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 59]، وهذا من حسن التخطيط وحسن التدبير، ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء: 60]؛ أي يتوعدهم، ﴿ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 61].
 
2- توضيح وتجلية وَهنِ وضعفِ وعجز ما يعبدون من دون الله: ﴿ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 62، 63]؛ استخفاف وتحقير آلهتهم ومعبوداتهم التي تعجز حتى في النطق والكلام والشكاية بمن فعل بها ما فعل، فضلًا عن الدفاع عن نفسها ورد الاعتداء عنها، وبهذا تمكَّن إبراهيم عليه السلام من إرباكهم وإثارة مراجعاتهم لأنفسهم؛ ﴿ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنبياء: 64]، أفْقَدَهم توازنهم، وأفقدهم الثقة في معتقداتهم وما يعبدون، ووصلوا إلى مرحلة التصريح بحقيقة وَهنِ وتفاهة آلهتهم، والإقرار بحقيقة دعوى إبراهيم في فساد وبطلان معبوداتهم؛ ﴿ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 65]، وهنا غيَّر إبراهيم أسلوبَ الخطاب، فأعلن حكمه الحازم الحاسم الصارم؛ ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ﴾ [الأنبياء: 66]، ثم شنَّع وحقَّر عقولهم ومنطقهم؛ ﴿ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 67]، ختم المحاكمة التي أقاموها ليجرِّموه، بأن أثبت فساد محاكمتهم له، وانتصار دعوته وقضيته، وعلَّم دعامة الإسلام والحنيفية فنونَ وأساليب ممارسة الدعوة إلى الله، بحسن التخطيط والإعداد، والتحضير للمواقف والأحداث، وحسن التنفيذ، وإقامة الحجج والبراهين.
 
المشهد الثاني: قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 74 - 79]؛ قال العلماء رحمهم الله تعالى: قول نبي الله إبراهيم عليه السلام عند رؤيته الكواكب أو القمر أو الشمس: ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾، لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربَّه، وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربَّه، وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام؛ إذ كان الكوكب والقمر والشمس أضْوَأَ وأحسن وأبهج من الأصنام، ولم تكن مع ذلك معبودة، وكانت آفلة زائلة غير دائمة، والأصنام التي هي دونها في الحسن، وأصغر منها في الجسم أحقُّ ألَّا تكون معبودة ولا آلهة، وإنما قال ذلك معارضة.
 
والمستخلص من هذه الآيات ما يلي:
1- أن نبي الله إبراهيم عليه السلام أراد أن يصرف قومه عن عبادة الأصنام إلى عبادة الكواكب والنجوم والقمر والشمس، ليس لذات العبادة، وإنما ليُعْمِلوا عقولهم بالتأمل والتفكُّر، ووضع القرائن والمقارنات بين أصنام جامدة ليس فيها وليس لها من حركة الحياة، وأبسط مقومات النفع والانتفاع، إلى كائنات حيَّة فيها من القوة التأثيرية من توهُّج وأنوار، وإضاءة ووضاءة، وحسن وجمال، وحرارة وحجم ومعالم الحياة، هذه بعض المؤهلات للإله الذي تبحث عنه، ويستحق منا أن نعبده، هكذا بدأ إبراهيم عليه السلام في نقل قومه ووضع لهم معالم البحث العقلي للبحث عن مواصفات الإله الذي يستحق أن نتخذه إلهًا نعبده.
 
2- أشْعَرَهم أنه يشاركهم البحث، وبدأ يتطلع إلى السماء ناظرًا متأملًا، وهذه أولى خطوات الداعية في التأثير على المدعوين، فاختار الكوكب، وأشار ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾، ولم يقل هذا ربنا، أو هذا ربكم؛ ليضفي في دعوته جِدِّيَّة وفاعلية المتأمل الباحث عن الحقيقة، فلما ذهب ضوء الكوكب آفلًا، أشعرهم بخيبة أمله في إلهٍ يأفُل ويذهب، فليس حاضرًا على الدوام، فكيف نعبد إلهًا قد نطلبه في وقت لا يكون فيه حاضرًا؟ وهذا الدرس الأول: الإله الذي يستحق عبادتنا له يجب أن يكون حاضرًا دائمًا، لا يغيب ولا يذهب.
 
3- أن يكون للإله الذي يستحق العبادة القدرةُ على وضع الدلالات والعلامات التي يهتدي بها عباده إليه: ﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾ [الأنعام: 77].
 
4- أن يتصف الإله الذي يستحق العبادة بعظم حجمه، وضخامته، وكبريائه، وعظيم سلطانه وقدرته، وعظيم صفاته: ﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 78]؛ أي: هذه الكائنات لم تتوفر فيها مؤهلات الألوهية التي بها تستحق أن نعبدها، ثم أعلن تبرُّؤَه من التخبُّط وضلالات العبودية لكائنات تأفُل وتذهب، وتجري عليها متغيَّرات تقلبات ظروف الزمان والمكان والأحوال، ثم أعلن عن الإله القوي الكبير الحاضر والمؤثِّر، الذي نستدل عليه من خلقه لكل هذه الكائنات وغيرها، وليس شرطًا أن يظهر لعباده عيانًا، لكنه يظهر بتأثيره وحَولِهِ وقوته وتدبيره: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79]، يؤكد لقومه أن خالق هذا الكون الواسع بسماواته وما فيها؛ من كواكب ونجوم، وشمس وقمر، والأرض بما فيها من جبال وسهول ووديان، وبحار وأنهار، ودواب وزوع وثمار ونبات، وغير ذلك، هذا الإله الذي له القدرة والتأثير في إحداث النفع ودفع الأذى والضر، هذا هو الرب والإله الذي يستحق إفراده، والإخلاص في عبادته، دون الإشراك به غيره.
 
هكذا كان أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وكل الأنبياء والمرسلين عليهم وعلى نبينا محمد أفضل وأكمل وأتم الصلاة والتسليم - في اتباع أرقى وأسمى أساليب التربية والتعليم، والتوجيه والدعوة والإرشاد.

شارك المقال

ساهم - قرآن ٣