حسرة أهل الجنة
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
حسرة أهل الجنةأُدرك ذاك الاستنكار الذي بدَا على وجهك حين قرأت عنوان المقال..
وتلك التساؤلات التي جالت في خاطرك، سواء باتهامي بالجنون، أو بكيفية زلتي وقول مثل هذا القول.
كنت مثلك تمامًا، ومشاعري مقاربة لمشاعرك حين كنت أسمع عناوين مشابهة لهذا العنوان، حتى أكرمني الله واطَّلعت على هذا الحديث النبوي الشريف:
((ليس يتحسَّر أهلُ الجنة على شيء إلا على ساعة مرَّت بهم لم يذكروا اللهَ عز وجل فيها))؛ رواه الطبراني والبيهقي عن معاذ.
نعم..
أهل الجنة الذين قيل فيهم: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185] يتحسرون!
أهل الجنة الذين أحلَّ الله عليهم رضوانَه فلا يسخَطُ عليهم أبدًا، وأتم لهم الحسنى وزيادة برؤية وجهه الكريم، وكتب لهم الخلود المقيم في خيرات النعيم..
يتحسرون!
والتحسر ليس متنوعَ الأسباب كما تَحسُّر أهل الدنيا على دنياهم الفانية الذي تتنوع أسبابه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حصر ولخص تحسرهم في معنى واحد وسبب واحد وبكل وضوح، هو: ((ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها)).
إنه ليس تحسُّرًا على فقدِ مال، أو موت حبيب، أو فوات شهرة، أو ضياع منصب، أو أي شيء دنيوي لا قيمة له بعد موت من سعى وراءه..
إنه ارتقاء بمشاعر التحسر، وتوبيخ النفس إلى درجات سامقة، ارتفاع وتنزه عن وحول الأرض وشهواتها الطينية، تحسر على فوات ساعة - والساعة هنا كناية عن أقل وقت - مرت في الحياة دون ارتقاء بالنفس إلى معيةِ الله الذي يقول سبحانه في الحديث القدسي: ((أنا مع عبدي إذا ذكرني))، يتحسرون على ساعة مرت لم يكتُبْ فيها ملَكُ الحسنات على كتفهم الأيمنِ الشيء الكثير في دفاترهم التي سيقرؤونها يوم القيامة، يتحسرون على ساعة مرت نسوا فيها الموت، وأخلدوا إلى الأرض، وغرَّتهم الدنيا بزخرفها الفاني، وشهواتها المؤقتة، ولذاتها المنصرمة.
إن دخول الجنة هو محض فضل ورحمة من الله، ولكن تقاسم الدرجات فيها حسب الأعمال؛ فلا عجب أن يطمع أهل الجنة في درجات أعلى مما هم فيه، ولا عجب أن يكون أهل الجنة في نعيمهم هذا يتحسرون على كل لحظة كانت من الممكن أن تكون عائقًا أمام وصولهم لهذا النعيم، ويتحسرون على كل ساعة أخَّرتهم عن درجات عالية في الجنة.
إن هذا الحديث يخبرنا بتحسُّر أهل الجنة - بعد ضمانهم الجنة - على فوات ساعة دون طاعة أو ذكر لله، أو عمل في الدنيا يقربهم للجنة، فما بالنا نحن ونحن لا زلنا في هذه الدنيا لا ندري بما يُختم لنا في الدنيا من أعمال، ولا بما نلقى في الآخرة من جزاء؟
فما بالنا نحن وذنوبنا محيطة بنا، وأهواؤنا تحكمنا، وعباداتنا يعتريها التقصير، ويشُوبها الرياء، ويلاحقها العُجب والغرور؟
إننا بحاجة إلى أن نعيد صياغة مفهوم "التحسر والحزن" في حياتنا، ونضعه في موضعه الصحيح، ونتحسر على ما يتحسر عليه أهل الجنة لعل الله يُدركنا برحمتِه ويدخلنا جناتِه.