أرشيف المقالات

لا أدري حائر - أحمد كمال قاسم

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
السؤال:
أنا في طريق اللا أدرية وأرجوا ألا أدخل هذا الطريق، لماذا خلقنا الله دون أن يخيرنا؟ ستقول لي أنه فعل، أنا لا أتذكر أني خُيرت، وهل هذا عدل؟ نُجلب إلى حياة لم نختارها، ونتصارع فيها من أجل القوت، ومن أجل الجنة ، وهربًا وخوفًا من النار ، ومن العذاب، وقد كنا في العدم، لا نشعر بشيء، لنأسف على مثل هذه الحياة ونحن في غنى عنها!
الإجابة:
يا صديقي، دعني أصدقك القول، إنك لم تكن لتخلُ من حالتين قبل ميلادك:
1- أن تكون عدما:  وفي هذه الحالة، هل تزعم أنه يتصف بأي معنى منطقي أن يُؤخَذُ رأي العدم في أن يُوجَد أم لا؟!


2- أن تكون وجودًا، صورةً ما من صور الوجود، وهذا الحالة لم تكن لتخل من احتمالين:
أ-  ألا يكون الله قد أخذ رأيك في أن تُوجَد، وأنه قد أخرجك من الوجود في عالم الإمكان، إلى الوجود في إحدي طبقات وجود عوالم الواقع، أخرجك من كونك لست شيئًا مذكورًا، أو شيئًا لست بمذكور،  إلى خليفة له في الأرض، وكرمك بالاتصاف ببعض صفاته، من حريةٍ للإرادة وقدرة، وجمال، وإبداع، ونفخ فيك من روحه، لتخوض تجربة الخلافة هذه وأمامك ثلاثة سبل: أولاهم، أن تطيعه فتُخَلَّد في الجنة، وثانيهم، أن تعصيه فتخلد في النار، وسبيلٌ ثالثٌ، هو مزيج بين السبيلين،  فنظرت أنت لهذه السبل نظرة الناكر للجميل الظالم لنفسه، فرأيت سبيلك هو من "وجود ليس بشيء مذكور هو أشبه للعدم منه إلى الوجود"، إلى شقاء في الدنيا وكد ونصب، إلى عذاب في الآخرة لست بمنتهٍ، وأهملت، أو نسيت، أو تناسيت، أن هناك سبيل أخرى بيدك، سبيل هي الأصل، سبيل يتخذها الكل إلا من أبى أن يدخل الجنة، وهي سبيل الانتقال من "وجود ليس بشيء مذكور"، إلى صبر ومكابدة في الدنيا، تنصر بهما الحق وتهديه لغيرك من الناس سببًا للخلود الكامل، إلى نعيم مقيم بجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للمتقين".

أهملت هذا السبيل ولم تُظهِر نفسَك لنفسِك إلا بمظهر الضحية العاجز، الذي أُرغم لينتقل من عالم عدمي يستوي عنده الشقاء والنعيم، إلى عذاب في الدنيا، ومن ثم إلى عذاب أكبر، وأمد وأغلظ وأحوط في الآخرة،  أهملت أنك صُيّرت خليفةً مُكرَّما بيده أن يختار إتمام التكريم ليكون له أجرًا غير ممنون، في رضا من الرحمن، وكرم منه، يحيى مكرما بعد أن كان قد استوت له الحياة والعدم في حين من الدهر، فأصبحت تصديقًا مثاليًا لقول القائل
"إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، وإن أنت أكرمت اللئيم تمرد"

ب- أن يكون الله قد خيرك في أن تتحمل الأمانة، فاخترتها لتعود فتتهم ربك أنه حملها لك رغمًا عنك، بظلمك لنفسك وجهلك.
{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب: 72]
ثم ليؤكد عرضه وتؤكد اختيارك ورضاك بربك ربًا عندما:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}[الأعراف: 172]
لكنك قلت حتى قبل أن تدرك يوم القيامة {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} ، قلت: "لا أتذكر" على الرغم أن حياتك كلها هي ذكرى موروثة في أعماق كيانك، ذكرى التكريم والخلافة، ذكرى الرضا بالله ربا، هي ذكرى من العبث أن تنكرها بحجة أنك لا تتذكر تفاصيلها، ولا زمانها لتتنصل من تكريمه لك، ولتختزل حياتك في دور ضحية، ولتتهم ربك بالظلم، وهو أعدل العادلين، بل هو أكرم الأكرمين، ولتكون له خصيمًا مبينًا بإنكارك كلَ جميل والزعم بأن الجميل هو ظلم، رغم أنك لم تتعلم كيف تفرق بين العدل والظلم إلا منه، تعلمت منه أنه تعالى هو العدل وأن ما يحيد عن كمال صفاته هو الظلم ، وأن من ينكر عدل الله الذي هو المرجع في العدل إنما يحارب ربه بسيف هو أكرمه به ليحارب به ظلم نفسه لنفسه، فلم يكن منه إلا أن افترى ظلمًا من ربه له ثم أخذ يحارب ربه فكان هو البهتان العظيم.

هدانا الله وإياك إلى وضوح الرؤية، والإذعان للحق، والتخلص من منطق الضحية، والتمسك بالمنطق الأصلي الذي ارتضاه ربنا لنا وهو منطق الخليفة المكرَّم.
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء : 70]
 

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢