أيام العشر : هلم يا بلال - محمد علي يوسف
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
يا بلالالتفت الرجل داكن البشرة إلى مصدر الصوت الذى يناديه فى ذلك اليوم المهيب
من ؟
إنه حبيبه وقرة عينه
هل مر اليوم بهذه السرعة ؟!
لقد كان ينظر إليه قبل قليل وهو فى وقفته المنكسرة بين يدى مولاه منذ الظهيرة يرفع يديه فى ضراعة المسكين ويبتهل ابتهال الخاضع الذليل طوال نهار ذلك اليوم العظيم فى ذلك الشهر الحرام فى هذا البلد الحرام
يوم عرفة
ها هى الشمس قد غربت أو كادت وهاهو يناديه
لبيك سيدى وقرة عينى وحبيبى
يا بلال أنصت لى الناس
انطلق مؤذن الحبيب لينادى الصحب والآل المنتشرين على صعيد عرفات ما بين مبتهل وباك وضارع إلى ربه يناجى
هلموا إلى إمامكم وأسوتكم وهاديكم وقدوتكم فهو لا شك يطلبكم لأمر عظيم
اجتمع الخلق من كل حدب وصوب ووقفوا جميعا بين يدى رسولهم صلوات ربى وسلامه عليه ينتظرون وقلوبهم متشوقة لماذا جمعهم وأنصتهم قبل الإفاضة إلى المشعر الحرام
" معشر الناس أتاني جبرائيل عليه السلام آنفا فأقرأني من ربي السلام؛
وقال : إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات؛"
الله أكبر الله أكبر
ياله من فضل ويالها من بشارة
ربهم الذى باهى بهم الملائكة اليوم وقال لهم فى تلك العشية المباركة : عبادي جاؤني شعثا من كل فج عميق ، يرجون جنتي ، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل ، أو كقطر المطر ، أو كزبد البحر ؛ لغفرتها .
أفيضوا عبادي مغفورا لكم ، ولمن شفعتم له (1)
الآن يذكرهم مرة أخرى ويبعث جبريل فى ذلك اليوم العظيم ليخبر سيد ولد آدم عليه السلام بتلك البشارة الجليلة
سبحانك ربى سبحانك ما أعظم شأنك
ما ألطفك وأكرمك وأحلمك
فشا السرور فى الجمع المبارك وتهللت الأسارير بالقول الحسن وصاح من بين الجمع رجل ...
إنه ليس أى رجل
إنه فاروق الأمة ووزير رسولها
إنه عمر رضى الله تعالى عنه
صاح مناديا يسأل ويطمئن على إخوان له لم يرهم
قال الفاروق مستفهما : يا رسول الله هذا لنا خاصة ؟
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل لكم ولمن جاء من بعدكم إلى يوم القيامة ما إن سمع عمر تلك الكلمات تخرج من الفم الشريف حتى صاح وقد تهلل الوجه وساد الانشراح: كثر خير الله وطاب كثر خير الله وطاب » (2)
نعم
صدقت يا عمر
كثر خير الله وطاب
و اشرأب الفضل وزاد
و تضاعف المن وفاض
كلمات يسيرة قالها الفاروق لخصت معنى من أهم المعانى التى ينبغى للناسك أن يعيها فى سيره إلى مولاه
كلمات تحمل أسرارا عظيمة وفضائل كريمة
كثر خير الله وطاب
كلما تأملت فى آيات المثوبة وأحاديث الفضائل والمكرمات تتأكد لديك تلك الحقيقة
تتأكد وتتيقن أكثر فأكثر أن ربك شكور كريم ذو فضل عظيم .
مع كل نفحة من نفحات ربنا لابد من تذكر هذا المعني
معنى شكر الله لعباده الطائعين وكثرة خيره وفيض ثوابه
إن شكر الله موضوع هائل لا يستطيع أحد الوفاء بحقه في أسطر قليلة
وإن المرء ليذهل حين يتأمل قدر الشكر فى مقابل العمل
الله يشكر علي العمل القليل بالجزاء الجزيل وهذا هو معني الشكر لغة وشرعا
في اللغة الشكر هو الزيادة يقال دابة شكور إذا أعطت النتاج الكثير الوفير مع العلف القليل وهو معنى لغوى يستقيم مع المعنى الشرعى الذى كثرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة كقوله تعالى {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌشَكُورٌ}
فالشكور جل وعلا من معانيه السامية أنه هو الذى يغدق على عباده الطائعين بالجزاء الجزيل على العمل القليل {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}
غالبا ما تجد معنى الشكر فى القرآن مصحوبا بالزيادة والمضاعفة { إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}
إن أقل الأعمال وأهون القربات تورث ما لا يسعنا وصفه من الخيرات والحسنات
و تلك الأيام التى نحن مقبلون عليها بعد قليل – أيام العشر الأول من ذي الحجة - لهي نموذج لذلك القدر العظيم
أيام يستطيع العامل فيها ويمكن للطائع من خلالها أن ينافس المجاهد فى سبيل الله
المجاهد !!
ذلك الذى ارتقى ذروة سنام الدين وعمل العمل الذى لم يجد النبى صلى الله عليه وسلم شيئا يعدله به لما سئل عن ذلك؟؟
نعم
تستطيع أن تنافسه بل تتفوق عليه إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشىء
هذا فقط من لا تستطيع أن تتخطاه بعملك فى تلك الأيام كما ثبت عن خير الأنام
إنها حقا أيام مختلفة
أيام فارقة
قال عنها حبيبك صلى الله عليه وسلم أنها أفضل أيام الدنيا
هكذا تفضيل بإطلاق يجعلك تفكر
هل معنى ذلك أنها أفضل من أيام رمضان ؟؟
فتجد فريقا كبيرا من أهل العلم يجيبك بثقة : نعم هى أفضل بنص ذلك الحديث محكم اللفظ
أيام أقسم الله جل وعلا بها فى كتابه فقال " و الفجر وليال عشر " والليالى العشر على قول جمهور المفسرين هى عشر ذى الحجة
بل فيها يوم يكفر صيامه عامين
يوم واحد بعامين !!
تخيل
إنه يوم عرفة الذى قدمت الكلام عنه والذي يقبل علينا إن شاء الله بعد ساعات
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صيام يوم عرفة: (يكفر السنة الماضية والسنة القابلة)» [رواه مسلم في الصحيح]
ما أعظم هذا الكرم وما أطيب نفحات الله
والله إن المرء لا يجد من الكلمات ما يعبر به عن هذا الفضل الكبير إلا قول الفاروق مرددا معه بكل جوارحه
كثر خير الله وطاب….
كثر خير الله وطاب
أليس هذا الحديث وما كان على شاكلته مدعاة للتفكر والتأمل والتساؤل
ما الذى فعله الصائم ليستحق كل هذا الفضل؟
تكفير سيئات عامين كاملين ببضع سويعات من الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة؟
هل بذل هذا الممسك مجهودا خارقا للعادة أو ضحى بنفسه أو ماله لينال هذا الفضل العظيم ؟
الجواب لا بل عمل عملا سهلا يسيرا أطلق عليه السلف الغنيمة الباردة
إن مجرد تذكر هذه الذنوب التي أقترفناها في عام كامل مضى أمر مرهق بل قد يكون مستحيلا علي بعض الناس عد ذنوبهم فما بالك بأنك لن تعد وحتي لن تتذكر
بهذه السويعات القليلة تنال مغفرة كل تلك الذنوب (عدا الكبائر التي تحتاج إلي توبة منفصلة).
لا شك أنه ليس من سبب لذلك والذى لا إله غيره إلا قوله سبحانه { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء}
أنا إن تبت مناني وإن أذنبت رجاني
وإن أدبرت ناداني وإن أقبلت أدناني
وإن أحسنت جازاني وإن قصرت عافاني
إن تذكر هذا المعني لابد أن يملأ القلب بالحماس والرغبة في المتاجرة مع الشكور جل وعلا
الشكور الذي يربحك أعلي الأرباح علي أقل الأعمال وليست فقط هذه الغنيمة الباردة هى ما يُنال به هذا الأجر الهائل بل مثلها كثير
فصيام يوم عرفة يكفر عامين عاما قبله وأخر بعده.
وصيام يوم عاشوراء يكفر العام الذى قبله.
والصلاة إلي الصلاة كفارة لما بينها.
والجمعة إلي الجمعة ورمضان إلي رمضان والعمرة إلي العمرة كذلك يكفرون.
وكم عمل بسيط وذكر يسير يكفر أعتي الذنوب
فها هي مئة تسبيحة بحمد الله تكفر ذنوبك ولو كانت كثل زبد البحر
وها هو استغفارك للمؤمنين والمؤمنات تنال به أكثر من " مليار " حسنة بكل مؤمن حسنه
وذكرك في السوق موطن الغفلات ومرتع الشهوات تنال به "مليون" حسنة ويحط عنك "مليون" خطيئة وترفع به مليون درجة ويبني لك بيتا في الجنة نعم والله مليون كما صرح بذلك النبى بلفظ ألف ألف.
وصلاتك ووضوءك وعيادتك للمريض وغير ذلك من الأعمال اليسيرة التي لها من الفضائل ما لا نستطيع حصره فى هذه السطور ومكانها كتب الفضائل وإن شئت فانهل ولاتبخل على نفسك بالعشرات بل المئات من أسباب المغفرة التى لاتقل إن لم تزد عن فضائل تلك الأيام الحاسمة التى نحن مقبلون عليها .
إن كل ما ذكرته من النعم والفضائل والنفحات ليملأ القلب بالفرح بالله والاعتزاز بهذا الدين “قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون”
و كلما مرت الساعات ازداد الاشتياق وتضاعف اللهفة لتلك اللحظات الغالية التى لا أكون مبالغا لو قلت أنها لحظات مصيرية فى حياة المسلم ومستقبله
أما أشد ما يحزن المرء أن يجد كثيرا من الناس لا يقدرون هذه الأيام حق قدرها ولا يتعاملون معها من منطلق الفرصة الذهبية والصفقة الرابحة وتجد أن علاقتهم بالعمل الصالح فيها لا تدانى علاقتهم به فى رمضان رغم أنها أيام كما سبق وأوضحت لا تقل عنه فضلا إن لم تزد
إن من الأدب مع الله جل وعلا أن يتعرض العبد لنفحاته ويقبل عطياته وهباته ومن تلك النفحات هذه الأيام التى نحن مقبلون عليها
المؤمن الذى يوقن باسم الله الشكور ويرجو أن يتعبد لمولاه بمقتضاه ويعلم علم يقين أن خيره قد كثر وطاب لابد أن يحاول جاهدا أن ينهل من هذا الخير ويدرك هذا الفضل
هذه أيام عمل إن حرم العبد فيها أعظم أعمالها وهو حج بيت الله فليس أقل من أن ينافس الحجيج والعمَّار فى نفسياتهم المتوقدة وإقبالهم الجميل الذى يرفعون فيه شعار " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك "
ألا فليلبى الماكث بقلبه وليرفع شعار الكليم عليه السلام وإن كان فى قعر بيته قائلا " وعجلت إليك رب لترضى "
فليكن العمل الصالح بكل أنواعه سبيلك ومعقد عزمك فى تلك الأيام القليلة المتبقية تتنقل بين واحات الصيام والقيام والقرآن وتنهل من عيون التحميد والتكبير والتهليل وتتنسم عبير الصدقات وصنائع المعروف ولا تحرم نفسك من باب من أبواب الخير تلقى فيه بسهمك إن استطعت إلى ذلك سبيلا
و لتكن دوما كلمات الفاروق نصب عينيك فى تلك الأيام بلغنا الله إياها
كثر خير الله وطاب
فيا مريدي الخيرهلموا إلي عظيم الأجر وجزيل الثواب فقد كثر خير الله وطاب
________________________________________
(1) (حسنه الألبانى فى صحيح الترغيب من حديث عبد الله بن عمر)
(2) ( أصل الحديث رواه أبو يعلى وبن عبد البر وصححه الألبانى فى صحيح الترغيب