أرشيف المقالات

البيوع: قواعد وحكم وفوائد (1)

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
2البيوع: قواعد وحكم وفوائد (1)   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: «فإن البيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع، والنظر الصحيح، قال الله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة:275].   وأما السنة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَكَانَا جَمِيعًا»[1].
وغيره من الأحاديث.   وأما الإجماع، فمعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأما النظر الصحيح فلأن الإنسان يحتاج لما في يد غيره من متاع الدنيا، ولا وسيلة إلى ذلك إلا بالظلم، وأخذه منه قهرًا أو بالبيع»[2].   قال ابن قدامة: «وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة والحكمة تقتضيه؛ لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه، وصاحبه لا يبذله بغير عوض، ففي شرع البيع وتجويزه وصول كل واحد منهما إلى غرضه ودفع حاجته»[3].   قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «البيع في اللغة أعم من البيع شرعًا، فهو أخذ شيء وإعطاء شيء حتى لو كان على سبيل العارية أو الوديعة، فإذا مددت إليك شيئًا أُعيرك إياه، فهو بيع في اللغة؛ لأنه مأخوذ من الباع، إذ أن كل واحد من المتعاطين يمد باعه إلى الآخر»[4].   «وفي الاصطلاح: هو مبادلة مال بمال ولو في الذمة، أو منفعة مباحة على التأبيد غير ربا وقرض، فقولهم: مبادلة مال بمال، والمراد بالمال هنا كل عين مباحة النفع بلا حاجة، كالذهب والفضة والشعير والبر والتمر والملح والسيارات..
وغيرها.   وقولهم: أو منفعة مباحة، أي مبادلة مال بمنفعة مباحة، واشتراط كونها مباحة احترازًا من المنفعة غير المباحة، وقولهم: ولو في الذمة، لو هنا ليست إشارة خلاف، ولكن المعنى أن المال الذي يقع العقد عليه قد يكون حاضرًا، وقد يكون في الذمة، فالبيع يشمل هذا وهذا»[5].   وينقسم البيع إلى قسمين: حلال وحرام: أما الحلال كبيع الطعام، واللباس غير المحرم، والحيوانات، والسيارات...
وغيرها، والحكمة منه حاجة الناس إلى ذلك، والله تعالى لم يبح شيئًا إلا وفيه منفعة للعباد.   الحرام كبيع المعازف، والخمور، والدخان، والخنزير، والأصنام..
وغير ذلك، والحكمة من تحريمه، إن هذه الأشياء حرمها الله، والله لا يحرم شيئًا إلا وفيه ضرر على العبد في دينه أو دنياه، أو يشغل عن أداء عبادة واجبة.   من القواعد في البيع: الصدق والبيان: لما جاء في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»[6].
فقوله: «فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا» أي بين كل واحد لصاحبه ما يحتاج إلى بيانه من عيب ونحوه في السلعة والثمن، وصدق في ذلك[7]، ومعنى قوله «بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا» أي كثر نفع المبيع والثمن، ومعنى قوله «مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» أي ذهبت بركته وهي زيادته ونماؤه.   تحريم الغش: فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنالَتْ أصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قَالَ: أصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «أفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»[8].
قال ابن حجر الهيتمي: «الغش المحرم أن يعلم ذو السلعة من نحو بائع أو مشتر فيها شيئًا لو اطلع عليه مريد أخذها ما أخذها بذلك المقابل[9].   ويكون الغش بمحاولة إخفاء العيب في السلعة، ويكون بطرق أخرى كالغش في ذاتية البضاعة، أو عناصرها، أو كميتها، أو وزنها، أو صفاتها الجوهرية، أو مصدرها، كأن يكذب ويكتب عليها صنعت في البلد الفلاني وهو مشهور بجودة بضاعته، وهي قد صنعت في بلد آخر، لكي يغري المشتري بشرائها.   «تحريم الغرر: فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر، والأصل في النهي التحريم ما لم يصرفه صارف، وبيع الحصاة له صور، فمن ذلك: أن يقول: ارم هذه الحصاة، فعلى أي شاة من هذا القطيع وقعت فهي لك بكذا، فرمى الحصاة وسقطت على شاة هزيلة جدًّا، فاشتراها بمئة وهي لا تساوي عشرين فخسر، وجاء عقد آخر فقال: بعت عليك الشاة التي تصبها هذه الحصاة إذا رميتها، فرمى الحصاة، وقد اشترى الشاة بخمسين فوقعت على شاة تساوي مئة، فغنم والبائع خسر، عكس الأولى، إذن هذا غرر؛ لأن كل عقد دار بين الغُنم والغُرم فهو مَيْسِر لا يجوز، وعلى هذا قس، وبهذا يتبين أن بيع الحصاة داخل في النهي عن بيع الغرر، ويؤخذ مما تقدم قاعدة: أن كل بيع فيه غرر فهو محرم.   والغرر كل ما فيه جهالة، واحتمال للغنم أو الغرم، لأن ذلك من الميسر، فإن حقيقة الميسر هي أنها معاملة تقع بين متغالبين يكون أحدهما إما غانمًا أو غارمًا، فبيع الغرر من الميسر، والحكمة في النهي عنه ظاهرة جدًّا؛ لأنه إذا كان غانمًا أداه ذلك إلى الجشع، والطمع، والانسياب وراء المادة والدنيا لأنه كسب، فيريد أن يستمر هذا الكسب، فنجده يلهو بدنياه عن دينه، وإن كان الأمر بالعكس بأن كان غارمًا ألحقه من الندم والحزن وكراهة صاحبه الذي غلبه ما يوجب العداوة بينهما، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ ﴾ [المائدة: 91]»[10].   قال النووي رحمه الله: «النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة، كبيع المعدوم، والآبق، والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لا يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن، وبيع ثوب من الأثواب، وشاة من الشياه، ونظائر ذلك، وكل ذلك باطل لأنه غرر كبير من غير حاجة»[11].   والغرر أنواع، فمنه: بيع المعدوم: كبيع حبل الحبلة، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، قال ابن عمر: وهو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة، ويلد ولدها[12].   ومنه بيع المعجوز عن تسليمه: كالجمل الشارد، أو العبد الآبق.
والنوع الثالث: بيع المجهول المطلق، أو المجهول الجنس، أو المجهول القدر.   ومن صوره بيع الملاقيح: وهو ما في ظهور الذكور يلقحها الفحل في بطن الأنثى، بأن يقول صاحب الفحل: أبيع عليك ضراب فحلي من ناقتك، فيضربها هذه المرة، فأبيع عليك هذا الضراب، فلا يجوز لأنه أجهل من بيع الحمل، فإن هذا اللقاح قد يكون صحيحًا، وقد يكون فاسدًا، فإذا منع الحمل فهذا من باب أولى.   ومنه بيع المضامين: وهي الحوامل، والمراد ما في بطونها، وقد ورد النهي عن بيع الحمل حتى تضع كما تقدم، ومنه بيع الثمار قبل بدو صلاحها، خوفًا من تلفها، أو حدوث عيب بها قبل أخذها، روى البخاري ومسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ، بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ»[13].   وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع[14]، ويعرف بدو صلاحها باحمرار ثمار النخيل أو اصفرارها، وفي العنب أن يَسْودَّ وتبدو الحلاوة فيه، وفي الحب أن ييبس ويشتد، ونحو ذلك في بقية الثمار[15].   ومنه بيع الملامسة والمنابذة، والملامسة أن يقول: بعتك ثوبي هذا على إنك متى لمسته فهو عليك بكذا، أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا.   وبيع المنابذة: هو أن يقول أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة، وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة، والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه[16].   تنبيه: مما اشتهر اليوم عند البعض قولهم: القانون لا يحمي المغفلين، ويلزمون الشخص بالتقيد وإن كان مخدوعًا ومغرورًا به، وللأسف سرت هذه المقولة الباطلة إلى بعض المسلمين، وأحكام الدين الإسلامي الحنيف تبطل هذه المقولة، فهو يحمي المغفلين، ويدفع عنهم في الوقت الذي يعلن فيه أصحاب القوانين أنها لا تحميهم، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كَانَ رَجُلٌ يُخْدَعُ فِي البَيْعِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ»، فَكَانَ يَقُولُهُ»[17].   والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] صحيح البخاري برقم 2112، وصحيح مسلم برقم 1531. [2] الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (8/ 92-93). [3] المغني (6/ 6). [4] الشرح الممتع على زاد المستقنع (3/ 511). [5] الفقه الميسر لمجموعة من المشايخ (6/ 9)، طبعة مدار الوطن بتصرف. [6] صحيح البخاري برقم 2110، وصحيح مسلم برقم 1532. [7] شرح النووي لصحيح مسلم (4/ 176). [8] برقم 101. [9] الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 396). [10] فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (9/ 145-147) بتصرف. [11] المجموع شرح المهذب للنووي (9/ 257). [12] صحيح البخاري برقم 2143، وصحيح مسلم برقم 1514. [13] صحيح البخاري برقم 2198، وصحيح مسلم برقم 1555. [14] صحيح البخاري برقم 2194، وصحيح مسلم برقم 1534. [15] الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة لمجموعة من المشايخ، طبعة وزارة الشؤون الإسلامية ص218. [16] صحيح البخاري برقم 2144، وصحيح مسلم برقم 1512. [17] برقم 2414.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١