أرشيف المقالات

حديث: ما يلبس المحرم من الثياب؟

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2حديث: ما يلبس المحرم من الثياب؟   عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا تَلْبَسُوا الْقُمُصَ، وَلا الْعَمَائِمَ، وَلا السَّرَاوِيلاتِ، وَلا الْبَرَانِسَ، وَلا الْخِفَافَ، إِلَّا أَحَدٌ لا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلا الْوَرْسُ)). وفي رواية للبخاري: ((ولا تَنتَقِبِ المرأةُ المُحرِمةُ، ولا تَلبَسِ القُفَّازَين)).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ (وفي رواية: بعرفات) يَقُولُ: ((السَّرَاوِيلُ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ، وَالْخُفَّانِ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ))؛ يَعْنِي: الْمُحْرِمَ. وبنحوه عند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه.   تخريج الحديثين: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه مسلم (1177)، وأخرجه البخاري في "كتاب: الحج" "باب: ما لا يلبس المحرم من الثياب" حديث (1542)، وأخرجه أبو داود في " كتاب: الحج" "باب: ما يلبس المحرم"، حديث (1824)، وأخرجه النسائي في " كتاب: مناسك الحج" "باب: النهي عن لبس البرانس في الإحرام"، حديث (2673)، وأخرجه ابن ماجه في " كتاب: المناسك" "باب: ما يلبس المحرم من ثياب"، حديث (2929).   وأما رواية: ((ولا تَنْتَقِبِ المرأةُ المُحرِمةُ، ولا تَلبَسِ القُفَّازَين)) فهي رواية انفرد بها البخاري عن مسلم.   وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فأخرجه مسلم (1178)، وأخرجه في " كتاب: جزاء الصيد" "باب: لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين"، حديث (1841)، وأخرجه الترمذي في " كتاب: الحج " "باب: ما جاء في لبس السراويل والخفين للمحرم إذا لم يجد الإزار والنعلين"، حديث (834)، وأخرجه أبو داود في "كتاب: المناسك" "باب: ما يلبس المحرم"، حديث (1829)، وأخرجه النسائي في "كتاب: مناسك الحج" "باب: الرخصة في لبس السراويل لمن لا يجد الإزار"، حديث (2670)، وأخرجه ابن ماجه في " كتاب: المناسك" "باب: السراويل والخفين للمحرم إذا لم يجد إزارًا أو نعلين"، حديث (2931).   شرح ألفاظ الحديثين: "أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ": كان ذلك بالمدينة قبيل سفر النبي صلى الله عليه وسلم للحج، كما ذكر ابن حجر رحمه الله، وهذا ظاهر من السياق، فإنه سأل عما سيلبسه المحرم، وجاء في رواية للبخاري: "ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب إذا أحرمنا؟" بخلاف السائل في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فالسؤال كان في منطقة مكة؛ حيث جاء مصرحًا أنه في عرفات؛ [انظر: الفتح " كتاب: الحج" "باب: ما لا يلبس المحرم من الثياب"، حديث (1542)].   "مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟": المحرم: هو من عقد الإحرام بحج أو عمرة، والمقصود في الحديثين الرجل لا المرأة، وهذا بالإجماع، وجاء التصريح به في بعض الروايات: ((إلا أن يكون رجل ليس له نعلان)).   ((لاَ تَلْبَسُوا الْقُمُصَ)): بضم القاف والميم جمع قميص، ويجمع على أقمصة وقمصان كما ذكر العيني، والقميص هو الثوب ذو الأكمام.   ((وَلا الْعَمَائِمَ)): جمع عمامة، وهي ما يُلفُّ على الرأس. ((وَلا السَّرَاوِيلاتِ)): جمع مفرده سراويل، يُقال: تسرول؛ أي: لبس السراويل، وهو المعروف اليوم بأنواعه، مِئزر ذو أكمام، لباس يغطي ما بين السرة والركبتين غالبًا، ويحيط بكل من الرجلين على حدة وقد يشملهما.   ((وَلا الْبَرانِس)): جمع مفرده بُرْنُس: بضم الباء والنون بينهما راء ساكنة، وهو الثوب الشامل للرأس والبدن، فهو كل ثوب رأسه منه ملتزق به.   ((وَلا الْخِفَافَ)): جمع خف: وهو ما يلبس على القدم ساترًا لها من جلد، بخلاف النعل، فهو غير ساتر للقدم، فلا يُغطِّي ظهر القدم تمامًا.   ((إِلَّا أَحَدٌ لا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ))؛ أي: إذا أراد لبس الخفين لفقده النعلين فليقطع الخفين حتى يكونا أنزل من الكعبين، ليقربا بذلك من مشابهة النعلين، والكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم.   ((الزَّعْفَرَانُ)): نبات بصلي طيب الرائحة يستعمل طيبًا في الزمن السابق، ويُصبغ به. ((الْوَرْسُ)): بفتح الواو وسكون الراء، وهو نبات أصفر طيب الرائحة يحتوي على مادة حمراء يصبغ به.   من فوائد الحديثين: الفائدة الأولى: حديث ابن عمر رضي الله عنهما فيه دلالة على الفسحة التي يتمتع بها المحرم من المباحات، ووجه ذلك: أن الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما يلبسه المحرم من الثياب، فكأنه يقول: أعطني المباح للمحرم لبسه، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بما يحرم على المحرم لبسه؛ لأنه أقل، وما بقي فجائز من الألبسة، وهذا من جوامع الكلم وبلاغة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن جوابه.   قال النووي رحمه الله: "قال العلماء: هذا من بديع الكلام وأجزله، فإنه صلى الله عليه وسلم سُئِل عمَّا يلبسه المحرم، فقال: ((لا يلبس كذا وكذا))، فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات، ويلبس ما سوى ذلك، وكان التصريح بما لا يلبس أولى؛ لأنه منحصر، وأما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر"؛ [انظر: شرح النووي لمسلم، حديث (1177)].   الفائدة الثانية: حديث ابن عمر رضي الله عنهما دليلٌ على أن المحرم من الرجال ممنوع من لبس خمسة أنواع؛ وهي: (القميص، والعمامة، والسراويل، والبرنس، والخف)، ويُلحق بها ما شابهها، ولبيان ذلك نقول اللباس للمحرم على ثلاثة أقسام:   القسم الأول: ما ورد النص بالنهي عنه: وهي الأشياء التي جاءت في حديث الباب: (القميص، والعمامة، والسراويل، والبرنس، والخف) وأيضًا ما جاء في حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه - وسيأتي بعد حديثي الباب - (الجبة).   القسم الثاني: ما كان بمعنى المنصوص عليه: فما كان مماثلًا لما ورد به النص، فإنه يلحق به، فلا يلبس؛ لأن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات؛ فمثلًا: (الفانيلة، والكوت، والقباء: وهو ثوب واسع الكمين يلبس فوق القميص مفتوح من الأمام، ويُقال له: جُبَّة)، فهذه الأشياء لا يلبسها المحرم؛ لأنها في معنى القميص والجبَّة.   ولا يلبس (الطاقية) ونحوها مما يلبس على الرأس؛ لأنها في معنى العمامة، ولا يلبس (العباءة، والمشلح) فهو في معنى البرنس والجبة، ولا يلبس (الجوارب)، وهي ما يلبس بالقدم من قماش؛ لأنه في معنى الخف، وما تقدَّم ذكره من الألبسة المحظورة هي محظورة في حق الرجال دون النساء بالإجماع كما تقدَّم.   وضابط المحظور لبسه على الرجال هو ما خيط على قدر البدن أو على جزء منه أو عضو من الأعضاء، فالمحرم ممنوع منه، وهذا بالإجماع كما حكاه جمع من العلماء؛ كابن عبدالبر، والقرطبي، وابن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن هبيرة وابن بطال - رحمهم الله جميعًا - وغيرهم.   القسم الثالث: ما ليس في معنى المنصوص عليه: فالأصل فيه الحل والجواز؛ مثل: لبس الساعة، والنظارة، وسمَّاعة الأذن، والخاتم، وتركيبة الأسنان والحذاء، ولو كان فيه خرزٌ؛ كعامة الأحذية اليوم، والأحزمة، وكمن يضع على كتفه قربة أو مشدًّا على ركبتيه أو فخذه ونحو ذلك، فكل هذا، الأصل فيه الحل والإباحة.   تنبيهات: التنبيه الأول: ما تقدَّم ذكره من اللباس الذي يُمنع المحرم من لبسه؛ سواء كان منصوصًا عليه أو في معنى المنصوص عليه لا يُعدُّ محظورًا إلا إذا لُبس، فمن أخذ قميصًا ولفَّه عليه ليكون إزارًا فلا يضره، ولو أخذ قباء أو مشلحًا، ووضعه وضعًا دون أن يدخل كميه فلا يُعَدُّ لبسًا.   التنبيه الثاني: جرى عرف الناس اليوم وكذلك بعض كتَّاب الفقهاء أن يُعبروا عن لفظ المحظور بـ(لبس المخيط) وهي تسمية أحدثت عند الناس لَبْسًا وإشكالًا، فظنوا أن كل لباس فيه خيط، فهو محظور، فصاروا يسألون عن كل لباس؛ كالأحزمة، والأحذية، وهي ليست محظورة، وهذه التسمية لم ترد في السنة، وإرجاع الناس إلى اللفظ النبوي أفضل وأحكم، ويُقال: إن أول من أطلق هذه التسمية وهي (لبس المخيط) التابعي إبراهيم النخعي رحمه الله، وهو من فقهاء التابعين، وقيل: إنما أطلقه مَنْ قبله، ثم تناقله الفقهاء إلى عصرنا هذا، والتعبير بما وردت به السنة أحكمُ وأبعدُ عن الإيهام.   الفائدة الثالثة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما دليلٌ على منع المحرم من الثياب المطيبة بزعفران أو ورس، ويُقاس عليهما أنواع الطيب الأخرى.   الفائدة الرابعة: حديثا الباب فيهما دلالة على جواز لبس الخفين لمن لم يجد النعلين، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِلَّا أَحَدٌ لا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ))، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَالْخُفَّانِ، لِمَنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ)).   واختلفوا؛ هل يجب قطع الخفين أسفل من الكعبين على قولين: القول الأول: يجب على من لم يجد النعلين ولبس الخفين أن يقطعهما أسفل من الكعبين، وبه قال جمهور العلماء رحمهم الله، واستدلوا: بحديث ابن عمر مرفوعًا: ((إِلا أَحَدٌ لا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ، وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ)).   قالوا: ويحمل حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي لم يأت فيه الأمر بالقطع على حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأن حديث ابن عباس مطلق، وحديث ابن عمر مُقيَّد، ويحمل المطلق على المقيَّد.   والقول الثاني: أنه لا يلزم قطع الخفين أسفل من الكعبين، وهو قول الحنابلة على المشهور.   واستدلوا: بحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الباب. ووجه الدلالة: أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان في حجة الوداع في عرفات في جمع عظيم، لعل أكثرهم لم يسمع بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، والناس في أمس الحاجة للبيان [ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة].   ولو قيل بحمل المطلق على المقيد، لكان في ذلك تأخير للبيان عن وقت يحتاج الناس البيان فيه، ولما لم يبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم، دلَّ على أن القطع ليس بلازم، وهذا القول هو الأظهر، والله أعلم.
الفائدة الخامسة: رواية البخاري في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا تَنتَقِبِ المرأةُ المُحرِمةُ، ولا تَلبَسُ القُفَّازَين)) فيها دلالة بالمفهوم على أن المرأة تحرم بما شاءت من الثياب من غير تقييد بلون معين كما يظن البعض بشرط، ألا تلبس ملابس زينة تلفت النظر إليها، وتتجنَّب المرأة شيئين دلت عليهما الرواية:   الأول: النقاب: وهو ما يُنقب فيه للعينين، ويدخل فيه (البرقع).   والثاني: القفازان: وهو لباس يُعمل لليدين، يدخلان فيه، يسترهما، وهما مفصَّلان على العضو بمقدار الأصابع واليد، وأما شراب القدمين، فلا حرج؛ بل الأفضل لبسهما؛ لأنه أستر لهما.   الفائدة السادسة: حديث ابن عباس رضي الله عنهما دليلٌ على جواز لبس السراويل لمن لم يجد الإزار؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((السَّرَاوِيلُ، لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الإِزَارَ))؛ لأن الأصل للمحرم من الرجال أن يلبس رداءً وإزارًا، الرداء في الأعلى يلقى على الكتف، والإزار يُشدُّ على الوسط من السرة فما دون، وسيأتي في حديث جابر رضي الله عنه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه))؛ لكن إذا لم يجد الإزار، فلا بأس أن يلبس السراويل كما دلَّ على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الباب.   مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الحج)



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١