أرشيف المقالات

هل تسامح؟

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2هل تسامح؟
بادرة طيبة وخلق رفيع في أن يطلب الإنسان السماح والعفو من الناس عن خطأ أو تجاوز، أو مظلمة أو إيذاء صدر منه ضد الآخرين، فكم من أواصر تقطَّعت وعلاقات انتهت، وأُسر تشتت، وعداوات حصلت، ومشاحنات وخصومات سادت بين أحبة وأصحاب وأقارب وأرحام، بسبب أن المخطئ حين يخطئ يتعالى على الاعتذار، ويأنف من طلب العفو والمسامحة، فكلمة آسف ليست في قاموسه وثقافة الاعتذار غريبة عليه، لذا من امتلك شجاعة الاعتذار فقد امتلك أهم خطوات التصحيح، ومحو الخطأ وتصحيح المسار، ومع هذا فإن الأجود والأجمل والأولى من الاعتذار، ألا يقع فيما يحتاج فيه للاعتذار وطلب المسامحة، الأولى هو ألا يقع في إيذاء الآخرين ابتداءً، ثم يطلب منهم المسامحة والعفو، وألا يتسبب في ظلمهم غيره أو أذيَّتهم، ثم هو يطلب منهم الصفح والعفو والمسامحة، وهذا منهج نبوي دلنا عليه وأوصانا به نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد روى الحاكم والبيهقي في الزهد، واللفظ له عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أوصني، قال: عليك بالإياس مما في أيدي الناس، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر، وصلِّ صلاتك وأنت مودع، وإياك وما يعتذر منه)، قال الحاكم: صحيح الإسناد، كذا قال وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الترغيب والترهيب عند حديث 825: حسن، وذكره بلفظ (ولا تكلم بكلام تعتذر منه غدًا) في السلسلة الصحيحة حديث 401 ( ج1 / 687 ).   (إياك وما يعتذر منه)، (ولا تكلم بكلام تعتذر منه غدًا)، يجعل العبد يقف مع نفسه كثيرًا قبل أن يقول أو يعمل ما ينوي فعله أو قوله، فلا تعمل عملًا، أو تقول قولًا يدعوك بعده إلى الاعتذار وطلب المسامحة، ولا تخطئ فتحتاج إلى أن تعتذر.   وهذا يحفظ لك ودَّك بين الناس، ويحفَظ من كرامتك ويعلي من منزلتك، فلا تكثر من السقطات والزلات، ثم بعدها تطلب العفو والسماح، ومغفرة الأخطاء والهفوات، ومن وصايا الأولين: إياك وتكرير العذر فإنه تذكير بالذنب.   وبعضنا يوقع نفسه في مواقع غير مناسبة، فيحتاج إلى أن يعتذر لنفسه، وقد يستخدم أسلوب التورية، وأحيانًا يكذب قصدًا، أو من غير قصد.   وليكن لاعتذاراتنا وزنٌ وأهمية وقيمة، بحيث لا نخرجها إلا لسبب خارج عن إرادتنا أو دون قصد منا.   حياتنا وعاداتنا وعلاقاتنا فيها من الأخطاء الكثيرة ضد الآخرين، منها الصغيرة ومنها الكبيرة الجسيمة والأليمة، وتتكرر منا الأخطاء، وبعضنا يكثر طلب العفو والسماح، وآخرون لا تعني لهم أخطاؤهم شيئًا، فالاعتذار عندهم لا يعدو سوى كلمات يقولونها؛ ليبرروا موقفهم فقط.   من أخطاء الناس الصغيرة والشهيرة والكثيرة، هو ما يتعلق بقيادتهم للسيارات، فكم ممن يأتي ويغلق بسيارته على سيارات الآخرين؛ لينجز مصلحة له أو غرض، ثم يأتي بعد أن ينهي غرضه، فيجد صاحب السيارة التي أغلق عليها في شطط وغضب، فربما أخَّره أو فوَّت عليه مصلحة، أو تسبَّب له بأي نوع من أنواع الضرر، ثم يأتي وبكل سهولة وبساطة ويقول: آسف سامحني!   هذا خطأ يتكرر كل يوم من كثير منا، ويراه الكثير أنه خطأ يسير تكفي فيه كلمة (معليش)، آسف.   وهناك أخطاء جسيمة وأليمة يرتكبها الكثيرون منا تتكرر وباستمرار، تخطئ على إنسان بكلمة تندُّر وسخرية واستهزاء، ثم بعدها تقول: آسف، وتظن أن الأمر قد انتهى...   هل تعتقد أن هذه الكلمة قد أنهت الأمر وغسلت الخطأ؟ تعتدي على إنسان في ماله أو عرضه أو ولده، ثم إذا تحرك فيك الضمير أتيت إليه أو أرسلت له رسالة، وقلت له: آسف سامحني! هل تضمن أنه سيسامحك؟   تتسبب لشخص بعاهة نفسية أو بدنية تستمر معه فترة من الزمن، أو ربما عمره كله، ثم إذا جاءت مناسبة قلت له: آسف سامحني! فالخوف كل الخوف ألا يسامح..   زوجة مظلومة مهضومة من زوجها، تسمع منه كل عبارات الإهانة والشتم والتعيير والتنقيص، حتى سببت لها تلك العبارات وتلك المعاملة بعقد وندبات نفسية، ثم إذا احتاج الزوج منها مصلحة أو أرادها لفراشه، أتى وطلب منها العفو والمسامحة! ففي النفس شيء من ألا تسامح حقيقة.   أخ مظلوم من أخيه أومن إخوته، أكلوا ماله خدعوه، آذوه في نفسه وشوَّهوا سمعة أولاده كذبًا وزورًا، سخروا منه وشوَّهوه ظلمًا عند والديه، وسبَّبوا له عللًا نفسية وبدنية، قهروه تسببوا في خسارة تجارته، وتحمُّل الديون، ثم هم بعد زمن قرروا أن يطلبوا منه أن يسامحهم فقط، يسامحهم دون أن يردوا مظلمته، أو يصلحوا ما أحدثوه من ظلم وجُرم وعاهات!   أخت مظلومة أكل أخاها ميراثها، أو جعلها تتنازل عن بعض حقوقها بسيف الحياء أو بسيف الخوف، ثم إذا جاءت مناسبة رمضان أو الأعياد، اتصل بها وقال لها: سامحيني يا أختي؟ دون أن يكون على يقين أنها قد سامحته، وعفت عنه من طيب نفس.   كم تسببت لإنسان من آلام وحكت له من مكائد، هل تتوقع إن جئت تطلب منه السماح غدًا أن يسامحك، وقد تسببت له بتلك الندبات في قلبه والجراح في نفسه؟
فقد وظيفته بسببك أو فقد تجارته بسببك، شوَّهت سمعته سخرت منه، تعاليت عليه، أهنته أمام الناس، تطاولت عليه وعلى أهله وقبيلته وبلده، ألا يتطلب منك أن تصلح ما أفسدت وتعيد المظالم، وتطيب الخواطر؛ لتبقى على يقين أن من أخطأت في حقه أنه قد سامحك؟   والناس في المسامحة والعفو على مراتب، فأعلى المراتب من يسامح ويعفو ويصفح، وأدنى المراتب من لا يسامح ولا يعفو، ومنهم من يسامح، ولكن بسبب الخجل أو الوجل، ومنهم من يسامح ولكن يبقى في نفسه شيء، وبعض النفوس مُلئت بالحقد، وبعض القلوب مدافن للأحقاد، فهي لا تسامح ولا تعفو ولا تغفر، وخاصة إن كانت قد ظلمت وعانت العنت والألم والعاهات النفسية والبدنية.   وبعض الناس إن كانت بينه وبين قرابته مظالمُ، ظلموه في ماله أو عرضه، أو نفسه أو ولده، فإنه ربما يسارع إلى صلتهم، ولكنه لم يسامحهم في حقه، إنما وصلهم خشية أن يقع في إثم القطيعة والهجر، فيظن من ظلموه حين وصلهم أنه سامحهم، بينما هو قد خبَّأها لهم ليوم الدين وعند الله تجتمع الخصوم.   إذًا فالحذر من الوقوع فيما يطلب منه المسامحة والعفو غدًا، وإن حصل الخطأ وارتكب الذنب، واعتدى على الحقوق، فالمبادرة المبادرة برد الحقوق لأهلها، وطلب السماح منهم، وفداء النفس بالنفيس، فوالله لا يقبل يوم الدين ملء الأرض ذهبًا، فإنما هي الحسنات والسيئات عن أبي هريرة رضى الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أتَدرونَ ما المُفلِسُ؟ إنَّ المُفلسَ من أُمَّتي مَن يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ، وزكاةٍ، ويأتي وقد شتَم هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيُعْطَى هذا من حَسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حَسناتُه قبلَ أن يُقضَى ما عليهِ، أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحَتْ عليهِ، ثم طُرِحَ في النارِ)؛ [صحيح الجامع].   فما أشد حسرته في ذلك اليوم؛ حيث يقف بين يدي الله وهو مفلس، مهين لا يستطيع أن يظهر عذرًا ولا يطلب عفوًا؛ قال تعالى: ﴿ لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التحريم: 7].   أما المسامح الذي يعفو ويصفح، ويغفر الزلات ويقبل الأعذار، ويقيل العثرات - فإنه قد تخلق بخلق الأنبياء، واتَّصف بصفات العظماء، وقد امتدَحَ الله العافِين عن الناس، فقال في صفات أهل الجنةِ: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].   وما صفح عبد وسامح إلا جعل الله له في قلب من عفا عنه محبة ومودة: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].   ونصره وأيَّده وأعزه في الدنيا والآخرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله))؛ رواه مسلم.   قال القاضي عياض: (وقوله: ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، فيه وجهان: أحدهما: ظاهره أنَّ من عُرف بالصفح والعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عزه. الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزته هناك. (...
ولا يَعفو عبدٌ عن مَظلمةٍ، إلا زادَه اللهُ بِها عزًّا يومَ القيامةِ)؛ صحيح الترغيب.   وعادة الله فيمن يسامح أن يظهره على من ظلمه، فهذا يوسف عليه السلام أخذه إخوته من عند أبيه؛ ليرتع معهم ويلعب على حد زعمهم، وما إن غابوا بأخيهم عن ناظري أبيه، حتى قلبوا لأخيهم وجهًا آخر، فنهروه ثم ألقوا به في البئر، وهو يتوسل بين أيديهم ويقلب ناظريه في وجوههم، علَّ رحيمًا منهم يحن عليه ويخلِّصه من بين أيديهم، ولكن قلوبهم كانت حينها كأنما قُدَّت من صخر، فرموه في غيابة الجب، ثم عادوا بعدها فباعوه بثمن بخس، وبيع بسببهم عبدًا رقيقًا لعزيز مصر بعد أن كان حرًّا طليقًا، وأصبح خادمًا مملوكًا بعد أن كان مخدومًا، ثم لَمَّا شبَّ ابتُلي في عرضه وسجن ومكث في السجن بضع سنين، فلما كانت العاقبة له وأصبح عزيز مصر، ودخل عليه إخوته منكسرين ذليلين، قال لهم بعد كل تلك الآلام التي سبَّبوها له: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92].   وما أجمل ما قاله المقنع الكندي: وَإِنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِي وبَيْنَ بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا أَرَاهُمْ إِلَى نَصْرِي بِطَاءً وإنْ هُمُ دَعَوْنِي إِلَى نَصْرٍ أَتَيْتُهُمُ شَدَّا فَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومَهُمْ وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا وَإِنْ ضَيَّعُوا غَيْبَي حَفِظْتُ غُيُوبَهُمْ وإنْ هُمْ هَوُوا غَيِّي هَوِيتُ لَهُمْ رَشْدَا وَلاَ أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيمَ عَلَيْهِمُ وَلَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الحِقْدَا   وللعفو ضوابط ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار، فليس في كل المواضع والحالات يكون فيها عفو ومسامحة، بل إن في بعض المواضع يكون العفو خورا وذلة. إذا قيل حلم قلت للحلم موضع *** وحلم الفتى في غير موضعه جهلُ   فالعفو إذا كان يؤدي إلى تمادي المعفى عنه، فإن العفو في هذه الحالة حمق وقلة فَهمٍ، وبعض الناس يخطئ ويتمادى في الخطأ، ولأجل أنه يجد المسامحة والعفو في كل مرة، يظن أن مسامحته حق مكتسب، فيجهل ويظلم ولسان حاله: إذا مرضنا أتيناكم نعودُكم *** وتذنبون فنأتيكم ونَعتذر   بينَ الذل والعفو شعرة، فما من فضيلة إلا وهي بين رذيلتَيْنِ، والعفو منزلةٌ بينَ الكِبْرِ والذلة، والاعتذار صفة الشجعان، والعفو والمسامحة خُلق الكرماء، والعزيز من ترفَّع عن كل ما يُعتذر منه. والحمد لله رب العالمين.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١