قتل العالم مطيع الرحمن، بنجلاديش ليست بعيدة عنا - أمير سعيد
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
لم يكن الخبر مفاجئاً للعالم، فلقد تم تسريب خبر الاستعداد لـ"إعدام" الأسير العالم الشيخ مطيع الرحمن نظامي فور تثبيت المحكمة العليا للحكم الصادر ضده، ولم يكن النظام البنجالي مرتعداً أو خائفاً من أي ردة فعل، بل يقيناً كان يعلن الخبر مزهواً بصرامته وبقدرته على اتخاذ قرارات كهذه دون خوف ردات فعل المسلمين حول العالم.في عالم اليوم يصبح ارتكاب جريمة كهذه مدعاة لتثبيت النظم الاستبدادية الفاشية، وشرعنة لحكمها في (المجتمع الدولي)، وبها تضمن استقراراً أطول، وديمومة على كراسي الحكم لسنوات مديدة.
الديكتاتورة حسينة مجيب الرحمن التي تحكم بنجلاديش بالحديد والنار وباسم المؤسسة العسكرية المتسلطة على الشعب المسلم بأوامر المحتل الذي لم يغب عن تحريك دمياتها يوماً منذ أوهم البنجال بأنهم قد "حصلوا على استقلالهم" في العام 1947م عن الهند ثم 1971م عن باكستان، تقدم خدمة جليلة للمحتل البريطاني الذي لم يزل يحكم بلادها من خلف عسكرها، بقربانها الدموي لخيرة علماء باكستان، مبرهنة على فرض نمطها الإقصائي من العلمانية المتشددة في تلك البلاد المنكوبة بحكامها.
بعد أربعين سنة من الجرائم المزعومة بقتل بنجال بالتعاون مع الجيش الباكستاني التي حكم بموجبها على ثلة من العلماء ، تنفذ السلطات البنجالية الحكم بسرعة البرق؛ فلم يكد يفصل التنفيذ بحق الشيخ نظامي عن حكم المحكمة العليا سوى أسبوع واحد؛ فهكذا هي (العدالة الناجزة) في بلاد المسلمين حين يتعلق الأمر بتصفية عالم أو مفكر أو سياسي مسلم، تنبش في بطون الماضي لتستخرج تهمة مزعومة سرعان ما يتم إصدار حكم مشدد بموجبها ثم يتم تنفيذه على عجل.
قتل الشيخ، برغم مناشدة الرئيس التركي أردوغان وعدد من الهيئات الإسلامية كالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وغيره..
قتل اطمئناناً إلى ضعف الفعل الرافض لهذا الإجرام السلطوي العلماني؛ فحسب التقديرات السياسية لقتل قادة الجماعة الإسلامية في هذا التوقيت؛ فإن تكلفة تصفيتهم أقل كثيراً من إبقائهم على قيد الحياة؛ فأكثر من عامل يرجح إقدام نظام حسينة على قتل العلماء والشيوخ، أحدها أنها تضمن (شرعية) أكبر لدى الغرب الذي يحرك جنرالات بنجلاديش، الحكام الفعليين للبلاد منذ إنهاء (الاحتلال) اسمياً، وثانيها أن من شأن تصفية قادة الجماعة الإسلامية أكبر حزب (إسلامي) في البلاد وفي القارة الهندية كلها إضعاف غريمتها القوية خالدة ضياء التي تنافسها وتبادلها منصب رئيس الحكومة بالتوالي، حيث تحالفت الأخيرة مع الجماعة الإسلامية في حكومتها السابقة وضمت وزيرين من الجماعة منهم الفقيد نظامي، وثالثها كبح جماح الممانعة التي تبديها الأحزاب الإسلامية حيال (أتاتوركية) حسينة التي لا تود حكومتها إعارة الإسلام اعتباراً في بنجلاديش.
وإذا كان من اعتقاد لدى كثيرين أن هذا السلوك الذي اتخذه نظام حسينة هو سلوك طبيعي من نظام يؤمن بنسخة متشددة من العلمانية المناهضة للإسلام؛ فإن مثل هذه السياسة الإقصائية هي أصل تلجأ وستلجأ إليه نظم عديدة في العالم، ترى الظرف مهيئاً جداً لاتخاذ إجراءات أكثر "جرأة" وتطرفاً؛ ففي قلب العالم العربي المقارب جغرافياً لأوروبا أمكن تمرير الكثير من المذابح ضد "الإسلاميين"، والمسلمين بوجه عام، والتي غدت تشجع الطغاة على قتل واضطهاد وسجن الطوائف المسالمة من "الإسلاميين"، لحد جعل وزيرة الدفاع الإيطالية -على سبيل المثال- تعلن على نحو عارٍ عن كل حياء أن نظام "بشار الأسد يحارب الإرهاب نيابة عن العالم" (لم تقل الإسلام صراحة).
إذن الظرف مواتٍ بكل تأكيد، فلم يبحث العالم الذي أشاح بوجهه عن الجريمة على نحو مغاير تماماً لنموذج الإرهابي نمر النمر الذي أعدم بالسعودية فأفاض العالم كأس الإدانة، وبرر ردة فعل إيران الفوضوية على إعدامه، لم يبحث العالم، عن وسيلة لوقف تنفيذ الحكم، بل ربما ارتاح إلى حصوله.
وهذا الظرف هو الذي مكن حكام دكا من أن يحكموا على عديد من قادة الجماعة الإسلامية البنجالية بالإعدام، كالشيخ مطيع الرحمن نظامي الوزير والبرلماني السابق، والشيخ علي أحسن محمد مجاهد الأمين العام للجماعة الإسلامية والوزير السابق، وصلاح الدين قادر تشودري البرلماني السابق، وعبد القادر ملا رئيس حزب الجماعة الإسلامية، ومحمد قمر الزمان الزعيم الثاني للحزب، ومير قاسم علي ، وأزهر الإسلام، وعبد السبحان.
علاوة على تصفية وسجن عدد كبير من كوادر الجماعة..
من دون أن يكترثوا لردة فعل العالم الإسلامي الهزيلة، فهزالها هذا له ارتباط وثيق بضعف الأوراق التي بات الراغبون في وقف تلك المجازر يملكونها.
فالهيئات العلمائية التي ناشدت السلطات البنجالية وقف تنفيذ الحكم ثم أدانت تنفيذه بعد هذا لم تعد تملك في حافظتها السياسية ما يمكنها من تفعيل بياناتها؛ فلا الحكومات تكترث لمناشداتها تلك، وهي من بعد غير مستعدة مطلقاً لتبني مواقف العلماء هذه وتحريكها في الصعيد السياسي الدولي، ولا الجماهير تلتفت في غمار ما تعانيه لمثل هذه الأحداث التي غدت بفعل الإعلام والتدجين الاجتماعي والثقافي بالنسبة لها مجرد "ترف" معرفي، وفي غمار ما تعانيه من أهوال في محيطها العربي وحياضها الإسلامية..
والمخلصون منها قد اتسع الخرق عليهم فلم يعودوا قادرين على ترفيع مواقفهم وتصعيد احتجاجاتهم.
والحكومة الوحيدة التي اتخذت موقفاً مناهضاً لتلك المجزرة بحق العلماء، وهي تركيا ليست قوية بما يكفي وحدها للاضطلاع بدور الدولة العثمانية في قرون مجدها أو حتى في عقود اضمحلالها، وإجراءاتها التي اتخذتها عن طريق رئيسها بالإدانة للمحكمة الجائرة، والخارجية، وإجراءاتها الدبلوماسية مع بنجلاديش، وصلوات الغائب التي أقامها شعبها في كثير من مدن تركيا، كلها وإن كانت جهوداً مشكورة إلا أنها لا تقوى على إيقاف مثل هذه الجرائم، وهي العاجزة لحد الآن عن وقف مجازر حلب التي لا تبعد عن حدودها أكثر من 60 كيلو متراً.
نستطيع أن نخلص مما تقدم لا إلى مزيد من البكاء والتحسر، وإنما الانتباه إلى أن ما يحصل في بنجلاديش هو ما يحصل قريباً من بيوتنا، ومساجدنا، وأن الخطر المحدق بالأمة الإسلامية واحد في معظم بلادها، وأنه متى كان الخطر واحداً؛ فإن التداعي إلى دفعه لابد أن يمر عبر عمل أممي إسلامي واحد، هو وحده القادر بعد الله سبحانه على إيقاف جرائم كهذه لا تستند إلى قوة حكومة دكا الهزيلة جداً، وإنما إلى الركن القوي الذي تؤوي هذه الحكومة وتلك إليه..
أي إلى ركن الوحدة العالمية ضد الإسلام وأهله ككل..
هذه هي المعادلة، لا غير.
فإذا كان تصفية قادة الجماعة غرضه توجيه ضربة قاصمة لأكبر حزب سياسي (إسلامي) في بنجلاديش، وهو كذلك أكبر حزب في شبه القارة الهندية؛ فإن تأثير ذلك لابد أنه متعدٍ إلى ما هو أبعد بكثير..
هو يقترب حثيثاً من كل بلدان المسلمين، تلك التي تعاني بالأصل، فالهم واحدٌ، والأزمة واحدة، والمشكلة كبيرة بحجم العالم الإسلامي الفسيح.