شهر رجب وما قيل فيه
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
مقدمةلقد فضل الله بعض الأيام والليالي والشهور على بعض، وذلك حسبما اقتضته حكمته البالغة، وقد اختار الله من بين الشهور أربعه حُرُمًا، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّـهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّـهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [ التوبة :36].
والأشهر الحُرُم الأربعة هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب، وهو الشهر الرابع من الأشهر الحُرُم، وترتيبه في شهور السنة السابع.
فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع، وقال في خطبته: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحر، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (رواه البخاري [4662]).
قال ابن كثير : "إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سرد، وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل شهر الحج شهر، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحرّم شهر ذي الحجة؛ لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر، وهو المحرّم ليرجعوا فيه إلى نائي أفصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يقدم إليه من أفصى جزيرة العرب فيزوره، ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا" ( تفسير ابن كثير [4/148]).
وقد ذهب بعد العلماء إلى أن شهر رجب تعظم فيه المعاصي؛ لأنه من الأشهر الحرم، ومن ذلك الظلم ، سواء كان ظلم الإنسان لنفسه بالمعاصي، أو ظلمه للآخرين؛ لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّـهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّـهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة:36] وقد يكون المقصود الاثني عشر شهرًا، وليس الأشهر الأربعة الحرم.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}: "يحتمل أن الضمير يعود إلى الاثني عشر شهرًا، وأن الله تعالى بيّن أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تعمر بطاعته، ويشكر الله تعالى على منّته بها، وتقييضها لمصالح العباد، فلتحذروا من ظلم أنفسكم فيها.
ويحتمل أن الضمير يعود إلى الأربعة الحرم، وأن هذا نهي لهم عن الظلم فيها خصوصًا، مع النهي عن الظلم كل وقت، لزيادة تحريمها، وكون الظلم فيها أشد منه في غيرها".
تسميته برجب:
سمّي برجب؛ لأنه كان يُرَجّب، أي: يُعَظّم.
فقد كانوا يعظّمونه في الجاهلية، وما كانوا يستحلّون القتال فيه.
سبب تسميته برجب مُضَرَ وبالأصمّ:
قيل: إن سبب نسبته إلى قبيلته مضر، أنها كانت تزيد في تعظيمه واحترامه، فنُسب إليهم لذلك.
وقال ابن كثير في قوله: ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان: "فإنما أضافه إلى مضر؛ ليبين صحة قولهم في رجب: إنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما كانت تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال، وهو رمضان اليوم، فبين عليه الصلاة والسلام أنه رجب مضر، لا رجب ربيعة" (تفسير ابن كثير [4/148]).
وسمي الأصم: لأنه ما كا تسمع فيه قعقعة السلاح.
هل خُصّ رجب بعبادة؟
لم يرد في رجب عبادة تخصّه عن غيره من الشهور، وقد روي فيه صلوات وأذكار، وكلها لا تصح كما سيأتي توضيحه، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيامه، ولا في صيام شيء منه – معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ" (تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، لابن حجر، ص 23).
وقال: "وأما الأحاديث الواردة في فضل رجب، أو فضل صيامه، أو صيام شيء منه صريحة؛ فهي على قسمين: ضعيفة، وموضوعة" (تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، لابن حجر، ص33).
أعمال بدعية في رجب:
انتشر بين الناس وفي كثير من البلاد الإسلامية بعض البدع المتعلقة بهذا الشهر، ومن هذه البدع:
أولاً: صلاة الرغائب:
وهي صلاة بدعية منكرة، قال النووي رحمه الله: "هي بدعة قبيحة، منكرة أشد الإنكار، مشتملة على منكرات، فيتعين تركها والإعراض عنها، وإنكارها على فاعلها" ( فتاوى الإمام النووي، ص 63).
وقال ابن تيمية : "وأما صلاة الرغائب فلا أصل لها، بل هي محدثة، فلا تستحب لا جماعة ولا فرادى" (مجموع الفتاوى [23/132]).
ثانيًا: تخصيص رجب بصيام أو اعتكاف:
مما ابتدعه بعض الناس في شهر رجب تخصيصه بصوم أو اعتكاف؛ وذلك استنادًا منهم إلى بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
قال ابن رجب: "وأما الصيام فلا يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه" (لطائف المعارف ص: 118).
وقال ابن تيمية: "أما تخصيص رجب وشعبان جميعًا بالصوم أو الاعتكاف، فلم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، ولا عن أصحابه، ولا أئمة المسلمين" (مجموع الفتاوى [25/290]).
تنبيه:
كونه لم يرد في فضل صيام رجب بخصوصه شيء، لا يعني أنه لا صيام تطوع فيه، بل يُتطوع فيه بالصيام كغيره من الشهور مما وردت فيه النصوص، فهي عامة في رجب وغيره، وإنما الذي يُمنع صومه، إذا كان على ثلاثة أوجه:
1- إذا خصه المسلمون بالصوم في كل عام.
2- اعتقاد أن صومه سنّة ثابتة خصّه الرسول صلى الله عليه وسلم بالصوم كالسنن الراتبة.
3- اعتقاد أن الصوم فيه مخصوص بفضل ثواب على سائر الشهور.
ثالثًا: الاحتفال بيوم الإسراء والمعراج
من أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم: الإسراء به ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم العروج به إلى السموات السبع فما فوقها، وقد انتشر في بعض البلاد الاحتفال بذكراها في ليلة السابع والعشرين من رجب، ولا يصح كون ليلة الإسراء في تلك الليلة، قال ابن حجر ناقلًا عن ابن دحية: "وذكر بعض القصّاص أن الإسراء كان في رجب، وقال: وذلك كذب" (تبيين العجب بما ورد في شهر رجب، ص 23).
وقال ابن تيمية: "ولم يقم دليل معلوم، لا على شهرها ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يُقطع به، ولا شُرِع للمسلمين تخصيص الليلة التي يُظَن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره" (زاد المعاد، لابن القيم [1/58]).
رابعًا: الذبح في رجب (العتيرة) أو (الرجبية):
العتيرة: هي ذبيحة كانت تُذبح للأصنام في العشر الأول من رجب، فيصب من دمها على رأسها، وهي من أفعال أهل الجاهلية، وكان بعضهم إذا طلب أمرًا، نذر لئن ظفر به ليذبحن من غنمه في رجب كذا وكذا.
وقد أبطل الإسلام العتيرة، كما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: «لا فرع (أول النتاج من إبلهم، كانوا في الجاهلية يذبحونه لطواغيتهم) ولا عتيرة» (رواه البخاري [5473]).
قال الحسن: "ليس في الإسلام عتيرة، إنما كانت العتيرة في الجاهلية، كان أحدهم يصوم رجب ويعتر فيه" (لطائف المعارف، لابن رجب، ص: 118).
وقال ابن رجب: "ويشبه الذبح في رجب: اتخاذه موسمًا وعيدًا، كأكل الحلوى ونحوها، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يكره أن يُتّخذ رجب عيدًا" (لطائف المعارف، لابن رجب، ص: 118).
لكن مطلق الذبح في رجب ليس بممنوع، وهو كالذبح في غيره من الشهور.
خامسًا: العمرة في رجب:
بعض الناس يحرص أن يؤدي العمرة في رجب؛ وذلك اعتقادًا منهم أن للعمرة فيه مزيد أجر، وهذا لا أصل له، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما اعتمر في رجب قط" (رواه البخاري [1775]).
قال ابن العطار: "ومما بلغني عن أهل مكة –زادها الله تشريفاً- اعتيادهم كثرة الاعتمار في رجب، وهذا مما لا أعلم له أصلًا" (مساجلة علمية بين الإمامين الجليلين العز بن عبد السلام وابن الصلاح، ص:56).
سادسًا: هل هناك حوادث حدثت في هذا الشهر؟
قال ابن رجب: "وقد روي أنه في شهر رجب حدثت حوادث عظيمة، ولم يصح شيء من ذلك، فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلِد في أول ليلة منه، وأنه بُعِث في السابع والعشرين منه، وقيل: في الخامس والعشرين، ولا يصح شيء من ذلك" (لطائف المعارف، لابن رجب، ص: 121).