الانتكاس في الدين
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الانتكاس في الدينالحمد لله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وبعد، فأيها الإخوة الكرام، إن حديثنا إن شاء الله عن ظاهرة خطيرة على مستقبل الدعوة، شرخٌ بالغ في أمل الأمة المتجهة إلى الله، داء الانتكاسة الفتاك: لا يعني خسارة المستقيمين لفرد ٍ فقط، بل يعني خسارتنا لجهود متواصلة في الدعوة والهداية والتعليم والتربية، وتصدع البنيان الداخلي للدعوة وتآكل في جذروها.
إخوتي الأفاضل: إن حديثي لكم اليوم عن هذا المرض لست أرجو من ورائه زيادة أعداد هذه الجموع المتكاثرة، لا، بل غاية ما أؤمله أن أحافظ مع الغيورين على رأس المال، أخي المبارك: كثر حديثنا عن قوافل العائدين إلى الله، ولهجت مجالسنا بالجميل من أحاديث التوبة، ونسينا أو تناسينا أعدادًا كثيرة تستغيثنا من لجة الغرق ومن هاوية الانحراف، أخي المبارك: بقي أن تعلم أن عزائي بعدهم فيك كلما أرى من حولك يتساقطون، أعجب لصمودك وأتخوف عليك العواصف، أيها المبارك: لعلك تفطنت أني لا أخاطب أولئك الذين سبقت عليهم الانتكاسة ولن أعرج على علاج الانحراف، لا، فحديثي هذه الليلة إنما هو لك أنت أيها المتآخم على ثغور الثبات!!
والعين تعرف من عيني محدثها ♦♦♦ إن كان من حزبها أو من أعاديها
وقبل أن أسبقك بجواب أسئلة كثيرة، تخطر لك عند تنبهك لمثل هذا الموضوع، فإني لا أجد مردًا من أنبهك على أمور مهمة، فارعني لها سمعك، وأعرني لأجلها قلبك الطاهر:
• تنبه بداية أن الحديث ليس عن أعداد محدودة، بل كما سبق لك حديثي عن ظاهرة متزايدة، لست بمبالغ، وأظنك متيقظ لمثل هذه النصوص، يروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى 3/ 120 عن أنس رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا عليكم أن لا تعجبوا بأحدكم حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زماناً من عمره، أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملاً سيئاً، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ، لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملاً صالحاً، وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله قبل موته، قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه" وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فوالله إن أحدكم - أو الرجل - ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غيرُ ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" رواه البخاري 6594 ومسلم 2643، وتذكر قول الله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 74، 75] وفي موضع آخر يقول سبحانه: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].
• وثانيًا: أن تعلم أن خوف سوء الخاتمة أو الضلالة بعد الهدى من سنن الصالحين من قبلك، بل وأنبياء الله عليهم صلاة الله وسلامه، ألم تسمع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء يدعو بحرقة: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام)، ويوسف عليه الصلاة والسلام العفيف ينادي بلا حول ولا قوة: (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين)، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال رواه مسلم (1343) من حديث عبد الله بن جرجس رضي الله عنه، قال الترمذي رحمه الله بعد أن أخرج هذا الحديث 5/ 498: "ومعنى قوله الحور بعد الكون أو الكور - وكلاهما له وجه - إنما هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، إنما يعني الرجوع من شيء إلى شيء من الشر"، وقال ابن القيم في روضة المحبين 1/ 41: أي الرجوع عن الاستقامة بعد ما كنت عليها، قال صاحب اللسان 4/ 217: "وأصله من نقض العمامة بعد لفها، مأخوذ من كور العمامة إذا انتقض ليها وبعضه يقرب من بعض"، أخي الفاضل كان كثيراً عليه الصلاة والسلام ما يدعو الله أن يثبته على دينه روى أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان كثيراً ما يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" رواه الترمذي 2140، قال ابن أبي جمرة في شأن الخاتمة: "هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يختم لهم" فتح الباري 11/ 597.
• وثالثًا: أن تعلم - أخي المبارك - أن أمنك من مكر الله أول مراحل الخذلان، قال بعض السلف: من أمن على دينه طرفة عين سلب منه، وعن سبرة بن فاكهة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه" رواه ابن أبي عاصم في السنة220 وصححه الألباني، وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقلب ابن آدم أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً" رواه أحمد6/ 4 وغيره، وقال عليه الصلاة والسلام: " مثل القلب مثل الريشة تقلبها الريح بفلاة" رواه أحمد 4/ 219وابن ماجه88 وهو في صحيح الجامع.
• وأخيرًا: تذكر مصير أولئك الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، الذين بدلوا نعمة الله كفرًا، واستغنوا واستغنى الله والله غني حميد، يقول عز وجل: ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 211] ويقول سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 25].
وقبل أن أتنقل معك في أخبار المنتكسين فيما حدثنا به التاريخ، أطلب منك أن تعيد النظرة في كل قصة لأولئك على هذا السنن: يقول ابن القيم رحمه الله:
واجعل لقلبك مقلتين كلاهما
بالحق في ذا الخلق ناظرتانِ
فانظر بعين الحكم وارحمهم بها
إذ لا ترد مشيئة الديانِ
وانظر بعين الأمر واحملهم على
أحكامه فهما إذاً نظرانِ
واجعل لقلبك مقلتين كلاهما
من خشية الرحمن باكيتانِ
لو شاء ربك كنت أيضاَ مثلهم
فالقلب بين أصابع الرحمنِ