الوصوليون في زمن المصالح والتلون! - أيمن الشعبان
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:لا يشك عاقل أو متابع أننا في زمن يطغى عليه كثرة التقلبات والتغييرات، في العديد من النواحي والمجالات، فعقديًا اضطرب بل ضعف جانب الولاء والبراء ، وأخلاقيًا انعدمت العديد من القيم، وسلوكيًا تقهقرت الكثير من المبادئ، وثقافيًا تبدلت واضطربت نسبة كبيرة من المفاهيم، حتى تكرست حالة أصبحت سمة ظاهرة في العديد من المجتمعات، وتفاقمت يومًا بعد يوم، وأخذت العديد من الصور والأشكال، لتكون كالنار التي تأكل الهشيم.
تكاد تكون "الوصولية" من أخطر وأفتك الأمراض، التي من شأنها تدمير الدول والمجتمعات والشعوب، وقبل الحديث عن تلك الحقيقة ومعناها ومظاهرها وأشكالها، لا بد من التنويه والتنبيه لحقيقة هامة جدًا، هي حصانة ووقاية وصمام أمان من هذه الآفة، كتوطئة لهذا الموضوع، واستحضارها بجميع شؤوننا ومراحل حياتنا.
وضح لنا ربنا سبحانه وتعالى في غير ما آية وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام بأكثر من حديث صحيح؛ ضرورة سلوك صراط مستقيم وطريق قويم، وعدم الانحراف والاعوجاج يمنة أو يسرة، والثبات على القيم والمبادئ والثوابت، وعدم التقلب والتأرجح والتلون، مهما كانت الظروف قاهرة والأمواج كبيرة، يقول سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
كم نحن بحاجة في زمن الفتن للثبات على المبدأ، والاستقامة على القيم، ورسوخ العقيدة ، ودوام النهج السديد، فهي الحصانة من التلون والانتكاس والمراوغة، فعن خالد بن سعد أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما حضرته الوفاة دخل عليه أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه فقال: "يا أبا عبد الله، اعهد إلينا فقال حذيفة: أو لم يأتـك اليقين ، اعلم أن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تـنكر ما كنت تعرف، وإياك والتـلون في دين الله، فإن دين الله واحد" (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائي رقم:107).
الوصولي: هو الإنسان الذي يسعى لتحقيق أهدافه، والوصول لغاياته ومصالحه، ولو كانت على حساب الآخرين، باستخدام جميع الوسائل القذرة والمنحطة والدنيئة، حتى لو وضع يده بيد الشيطان ، وشعاره القاعدة اليهودية: "الغاية تبرر الوسيلة"، الوصولي في علم النفس هو الشخص الفوقي الذي يضع نفسه بالمقدمة، بلا تردد أو حياء ولا خجل أو شعور، ولا يتراجع مهما كانت العواقب، ولا يكترث بأي رادع.
للوصولي العديد من المظاهر والأشكال والهيئات والتوصيفات، تختلف من بيئة لبيئة، ومن زمن لآخر، وبحسب الأحوال والمعطيات، واقتناص الفرص والمتغيرات، وقد يشترك بأكثر من مظهر ويفترق مع غيره بهيئات أخرى، يحدد ذلك طبيعة الوسائل والمصالح والمطامع المنشودة، وبحسب الطموحات وتسلق المناصب والوجاهات.
قد يتصف بالوصولية حاكم أو وزير أو مسؤول رفيع، وقد تشمل دولة أو مؤسسة أو تكتل أو فئة، وممكن التقاء مصالح عدد من المنتفعين والانتهازيين فيتصفوا بذلك، وقد يكون الوصولي إسلاميًا أو علمانيًا أو قوميًا أو يساريًا أو اشتراكيًا، وقد يكون أيضًا مثقفًا أو كاتبًا أو شاعرًا أو أديبًا أو فنانًا أو رياضيًا أو إعلاميًا، فجميع مفاصل المجتمع معرضة للسقوط في شباك هذا المرض الفتاك.
الشخصية الوصولية مستعدة للتخلي عن القيم والمبادئ، والتقولب بقوالب جديدة حتى لو تنافت مع مفاهيمه، والتأطر بإطار جديد، وبالتالي يتيح لنفسه استخدام أساليب النفاق والتملق والتزلف، لصاحب القرار والمعني بذاك الشأن وكسب وده، والإطراء والمبالغة بالمدح بما لا يستحق، وانتقاص الآخرين وخصومتهم وبغضهم، والتحريض ضدهم والاستعلاء عليهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: « الكبر بطر الحق وغمط الناس» ( صحيح مسلم )، "وبطر الحق دفعه وإنكاره ترفعًا وتجبرًا" (شرح النووي على مسلم).، وقيل هو: "أن يتجبر عند الحق فلا يراه حقًا، وقيل هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله" (تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي:6/138)، "والغمط هو الازدراء والاحتقار" (فتح الباري لابن حجر).
ومن أشكال الوصولية في زماننا، هو من يسعى لتحقيق أهدافه وغاياته ومصالحه، بأية صورة ووسيلة مشروعة أم لا، ويستثمر علاقته بالآخرين ونفوذه حتى لو كانت على حساب مبادئه، وعمقه المجتمعي حتى لو تعارض مع ثوابته وسلوكه، وبيئته الخصبة المتعاطفة حتى لو كانت على حساب الدين والقيم.
قد يستعمل البعض سياسة: "الأنا" الفرعونية وعدم الاعتراف بالآخرين، وسياسة: "على علم عندي" القارونية ونسبة الخير لنفسه وانتقاص جهود الآخرين، وهاتان السياستان المقيتتان من مظاهر الوصوليين في زمن الفتن والمصالح والتلون، أضف إلى ذلك سياسة التدليس والانتهازية للوصول إلى القمة على حساب جراحات وآلام الآخرين! وسياسة الوصاية وإقصاء الآخر واحتقار جهوده، بنظرة فئوية ضيقة، وتقريب البعيد وإبعاد القريب بمعايير غير مهنية، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (صحيح البخاري ).
من مظاهر الوصوليين عدم نكران الذات، وعدم الاعتراف بصاحب الفضل والبذل والعطاء، إما لأسباب شخصية أو فئوية، أو لأن إظهار الحقائق يتقاطع مع الوصول لأغراض وأهداف ضيقة، حتى لو كان من تم إقصائهم لهم باع وفضل على أولئك.
أعلمه الرماية كل يوم *** فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي *** فلما قال قافية هجاني
يقول عليه الصلاة والسلام: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة» قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» (صحيح الجامع رقم:5963)، وهو التافه من الرجال القاعد عن المساعي الكريمة (أساس البلاغة ، ص156).
الوصولي ليس له مبدأ ثابت ولا طريق واضح، يتلون كما تتلون الحرباء، مع تميزه باللعب في العبارات والتناقض في التصريحات، والاضطراب في المواقف والملمات، فهو مع الريح والسائد والغالب، موقفه متذبذب لا يستقر إلا وفق هواه ونظرته القاصرة.
من مظاهر الوصولي أنه مولع بالتقاط الصور، ويعشق تسليط الأضواء، ويهوى التصفيق من غير نقاش أو تحمل أي نقد بناء، ويسمح لنفسه بموعظة الناس، والضحك على الذقون بأنه منهم وهم منه، وهم جميعًا أخوة وأبناء، إلا أنه لا يقبل الموعظة من أحد والتوجيه، ويتيح لنفسه تصنيف الآخرين بما يحلو له من أوصاف، مع رفضه آراء غيره فيه!
مما لا يخفى أيضًا أن الشخص الوصولي قد ينتقص الآخرين في دينهم وعلمهم وخلقهم وسمتهم، في الوقت الذي لا يقبل أي كلمة ضده، لأنه معظم مبجل ومقدس في قرارة نفسه ولدى أتباعه، المزمرين المصفقين المطبلين الموافقين بكل شيء علموا أو لا يعلمون!
ليس لدى الوصولي الشجاعة الكافية لمواجهة الحقائق الدامغة والحجج البينة والبراهين الساطعة، ولا يتمكن من اتخاذ قرارات حازمة قوية حاسمة، حتى لا يفقد بعض المؤيدين من خلال مجاملتهم ومداهنتهم على حساب الحق وأهله، وبمجرد انكشاف مواقفهم الزائفة وتصدع صفوفهم، يبدؤون بالتظلم واختيار لين القول، وتغيير المواقف حتى لو اضطرهم الأمر التعامل مع شياطين الجن والإنس، محاولين إرضاء جميع الأطراف بالكلام المعسول والكذب والنفاق والتلبيس! والتقرب للآخرين وإيهامهم أنهم الأفضل.
الوصوليون يهابون من يتفوق عليهم ويخشونه ويحسبون له الحسابات، مع تربصهم به ومحاولة تشويه سمعته وتدميره، بكل الطرق والوسائل حتى التي تتنافى مع أبسط الأخلاق والقيم والمبادئ، للوصول لأهدافهم وتحقيق مآربهم.
يقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن
الوصولي ينطلق من منطلق الإحساس بالنقص وعدم الثقة بالنفس، إذ يحاول الإثبات بأنه الناجح دون سواه، وأنه الصواب دون غيره، لذلك يحاول دائمًا الحديث على خصومة والترصد لهم وتتبع العثرات، مع سوء الظن وتحميل مواقفهم وسلوكهم ما لا تحتمل، لأن مبادئهم مطاطية هلامية تتغير حسب الظرف والضرورة.
ليس عيبًا أن يتراجع الإنسان عن خطأ ارتكبه، أو انحراف تلبس به فترة من الزمن، أو الاعتراف بالذنب وتصويب مسار معوج سابق، بل هذا واجب ومطلوب إذ يقول عليه الصلاة والسلام «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (صحيح الجامع رقم:4515)، لكن من المعيب الإصرار على الذنب وعدم الاعتراف به، ومن الطامات البقاء على مسار منحرف أو فهم خاطئ أو معتقد فاسد أو نهج معوج أو سلوك مشين والإصرار عليه، بعد معرفة الحق والصواب وطريق النجاة.
ما يحصل الآن من تغييرات جذرية، يجسد العديد من مظاهر الوصولية، فكم من إنسان كان يحمل فكرًا معينًا وينتهج نهجًا واضحًا، فسرعان ما انسلخ من ذلك وتأقلم وتغير مع واقع جديد، والدافع هي تلك الوصولية المقيتة والانتهازية المتجذرة، فهل نشهد ركوب موجات تقلبات الأحداث، وتغييرات أيديولوجية إلى البراغماتية التي تعتمد على مقياس المصلحة في الحركة والسكون، والتقدم والتراجع، أم أن موجات متلاطمة من بيع الذمم وتقمّص القيم، أصبحت كالتسونامي اخترقت القلوب والعقول والأفهام، قبل أن تغرق البلدان والأجسام؟!
ويكاد يكون الحال كما قال عليه الصلاة والسلام: «لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع» (صحيح الجامع رقم:7431)، تافه غر غبي أحمق مغرور مفتخر على الناس بخرق يلبسها ومال يبذله أو يفتخر به على الناس، فيكون هو أسعد الناس حظًا وأعلاهم منزلة، وهو في الحقيقة تافه لا قيمة له في ميزان الله سبحانه وتعالى (مهلاً يا أهل المظاهر ص19)، نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
من أبرز الأسباب المؤدية لانتشار الوصوليين إلى أن يصبحوا ظاهرة وإشكالية في المجتمعات:
1- قلة العلم الأصيل والاستعاضة عنه بعلم طارئ دخيل.
2- كثرة الفتن والقلاقل وأهلها وبروزهم وتصدرهم للمشهد، وضمور أهل الصلاح وخفوتهم.
3- ضعف الإيمان وقلة التقوى وانعدام الصدق في القول والإخلاص في العمل.
4- طغيان الحياة المادية واستحواذها على تفكير غالبية الناس، إلا من رحم الله وقليل ما هم.
5- انعدام التوعية وقلة الثقافة الصحيحة، والابتعاد عن وسطية الإسلام.
6- ضعف بناء الشخصية الإسلامية وتخلخل الأسس والقواعد الرصينة.
7- كثرة النفاق الاجتماعي والفصام النكد، ومخالفة الفعال والأعمال للأقوال.
8- الانهزام النفسي الداخلي، وضعف الثقة بالنفس.
9- الابتعاد عن تشخيص الأمراض ووضع علاج وحلول ناجعة جذرية.
10- كثرة المجاملات والمحاباة والمحسوبيات على حساب الدين والمنهج والسلوك والقيم.
11- عدم وجود رادع فعلي حقيقي والفوضى في التصرفات والعشوائية.
25/3/2011