أرشيف المقالات

احتساب أخت على أختها

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
من رحمة الله -تعالى- بخلقه ولطفه ورأفته بهم أن بيَّن لهم طريق الخير والهداية وطريق الشر والغواية: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)[الأنفال: 42]، وذكر الله -جل وعلا- في كتابه الكريم قصصاً كثيرة، وأحداثاً مثيرةً، لنأخذ منها العظات والعبر: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[يوسف: 111]، فأخذ العبرة من القصص من أهم أسباب ورودها، كما أن إضافة التجارب الناجحة والأساليب الجميلة من قصص غيرنا من جملة الفوائد التي نأخذها من تلك القصص.
وفي مبحثنا هذا سنتناول قصة امرأة احتسبت عليها أختها وأمرتها بالمعروف ونهتها عن المنكر، ثم منَّ الله عليها بالتوبة وها هي تروي لنا قصتها فتقول:
"أنا طالبة في المرحلة الثانوية، أعيش في دولة الإمارات العربية ولها معَزَّة خاصة عندي، ففي هذا البلد اختار الله لي طريق الهداية.
منذ قدومي إلى هذه البلد الشقيق وأنا قد عقدت حلفاً مع حضرة الأستاذ الموقر!! (التلفزيون)...
كنت لا أفارقه لحظة..
لا أترك مسلسلاً ولا برنامج أطفال ولا أغنية ولا تمثيلية إلا وأشاهدها، فإذا ما جاء برنامج ثقافي أو ديني فسرعان ما أغلق الجهاز، فتسألني أختي: لِمَ فعلتِ ذلك؟! فأجيبها بخبث محتجة بكثرة الواجبات المدرسية والمنزلية، فتقول لي: الآن تذكرتِ الواجبات!! أين كنت عند مشاهدتك لتلك المسلسلات والأغاني والبرامج التافهة؟! فلا أرد عليها.
أختي هذه كانت بعكسي تماماً..
منذ أن علمتها أمي الصلاة لم تتركها إلا لعذر شرعي، أما أنا فلا أحافظ عليها، بل لا أكاد أصليها إلا في الأسبوع مرة أو مرتين..
لقد كانت أختي تتجنب التلفاز بقدر الإمكان، وقد أحاطت نفسها بصديقات صالحات يساعدنها على فعل الخير، وقد بلغ من صلاحها أن خالتي لما أسقطت طفلها وهي في المستشفى وكانت في غيبوبة؛ رأت أختي وهي تلبس ملابس بيضاء جميلة وهي تطمئنها، فاستيقظت خالتي وهي سعيدة مطمئنة القلب .
كانت دائماً تُذَكِّرني بالله وتعظني، فلا أزداد إلا استكباراً وعناداً، بل كانت ساعات جلوسي أمام التلفاز تزداد يوماً بعد يوم، والتلفاز يتفنن في عرض أنواع من المسلسلات التافهة والأفلام الهابطة، والأغاني الماجنة التي لم أدرك خطورتها إلا بعد أن هداني الله - عز وجل -، فله الحمد وله الشكر.
كنت أفعل ذلك كله وأنا في قرارة نفسي على يقين تام من أن ذلك حرام، وأن طريق الهداية واضح لمن أراد أن يسلكه، فكانت نفسي كثيراً ما تلومني، وضميري يعذبني بشدة، لاسيما وأن الأمر لم يكن مقتصراً على ارتكاب المعاصي بل تعداه إلى ترك الفرائض..
لذا كنت دائماً أتجنب الجلوس بمفردي، حتى عندما أخلد إلى النوم والراحة فإني أحاول أن أشغل نفسي بكتاب أو مجلة حتى لا أدع مجالاً لتوبيخ النفس أو تأنيب الضمير.
وظللت على هذه الحال مدة خمس سنوات حتى كان ذلك اليوم الذي اختاره الله لي فيه طريق الهداية.
كنا في إجازة نصف السنة، وأرادت أختي أن تلتحق بدورة في تحفيظ القرآن الكريم بإحدى الجمعيات الإسلامية، فعرضت عليَّ أن أذهب معها، فوافقت أمي، ولكني رفضت..
بل رفضت بشدة، وأقمت الدنيا وأقعدتها، وقلت بأعلى صوتي: لا أريد الذهاب..
وكنت في قرارة نفسي عازمة على العكوف أمام ذلك الجهاز الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتي العابثة..
فما لي ولحلقات تحفيظ القرآن..
وحضر أبي..
فشكوت له ما حدث، فقال: دعوها، ولا تجبروها على الذهاب واتركوها على راحتها..
وكانت لي عند أبي معزة خاصة لأني ابنته الوسطى فليس لي سوى أختي الكبرى، وأخي الذي يصغرني بكثير، وقد قال ذلك وهو يظن أني محافظة على صلاتي، ولم يكن يعلم بأن الأمر مختلف جداً..
صحيح أني لم أكن أكذب عليه حينما يسألني (أصليتِ؟) فأقول: نعم...
فقد استطاعت أختي أن تخلصني من داء الكذب ، ولكن كنت أقوم فأصلي أمامه عندما يكون موجوداً، فإذا ذهب إلى عمله تركت الصلاة، وكان أبي يمكث في عمله من 3- 4 أيام.
وذات يوم، طلب مني أبي بلطف أن أرافق أختي ولو مرة واحدة، فإن أعجبني الحال وإلا فلتكن المرة الأولى والأخيرة، فوافقت لأني أحب أبي ولا أرد له طلباً..
وانطلقت إلى روضة القرآن..
وهناك..
رأيت وجوهاً متوضئة مشرقة بنور الإيمان ، وأعيناً باكية لم تدمن النظر إلى الحرام مثل ما كنت أفعل، فتمالكني شعور فياض لا أستطيع له وصفاً..
شعور بالسعادة والرهبة، يخالطه إحساس بالندم والتوبة، وأحسست بأني قريبة من الله - عز وجل -، فرقَّ قلبي، وانهمرت دموعي ندماً على الأوقات التي ضيعتها في غير مرضاة الله..
أمام شاشة التلفاز، أو في مجالس اللغو مع رفيقات السوء اللاتي لا هم لهن إلا القيل والقال...
نعم..
لقد هداني الله - عز وجل -..
وقد كنت أبارزه بالعصيان، وأقدم ما يرضي نفسي على ما يرضيه - سبحانه - وما يأمرني به الشيطان على ما يأمر به الواحد الديان.
باختصار؛ لقد كنت غافلة فأيقظني القرآن..
أتوب إليك ربي، وأستغفرك، إنك أنت التواب الرحيم"[1].
هذه القصة تبين لنا تجربة ناجحة واقعية مؤثرة، وهي احتساب أخت محافظة على أختها المقصرة، وتعطينا هذه التجربة أهمية الاحتساب في البيت من قبل جميع أفراده، ولنا أن نأخذ من هذه القصة دروسا نافعة تفيدنا في حياتنا وخاصة داخل بيوتنا مع أبنائنا وبناتنا وآبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا ومن هذه الدروس ما يلي:
الدرس الأول: التلفاز سلاح ذو حدين فإما أن يستخدم في الأمور النافعة وإما أن يستخدم في الأمور الضارة، ومستخدمه مخير بين أن يختار ما ينفعه في دينه ودنياه من البرامج النافعة أو يختار ما يفسد عليه قيمه وأخلاقه من البرامج الضارة، وما أكثر تلك البرامج التي تبثها كثير من القنوات الفضائية التي تهدم القيم وتمسخ الأخلاق وتطمس هوية الأمة، ومن وقع في شراك تلك القنوات فإنه لا ينجو من شرها إلا برحمة من الله، ولذا وجب على رب البيت أن يحافظ على رعيته.
الدرس الثاني: عدم السكوت عن المنكر، وترك فاعله بدون إنكار عليه؛ لأن المسلم يجب عليه أن يغير المنكر حسب استطاعته، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)[2].
فهذه الأخت كانت دائما تعظ أختها وتأمرها بالمحافظة على الصلاة ومشاهدة البرامج الدينية وحضور حلقات التحفيظ وتنهاها عن مشاهدة الأفلام السيئة والمسلسلات وسماع الأغاني، وتعاتبها عندما تترك التلفاز أو تقفله عندما يأتي فيه برنامج ديني وتتعذر بواجباتها المدرسية، ولكن أختها تقول لها: الآن تذكرتِ الواجبات!! أين كنت عند مشاهدتك لتلك المسلسلات والأغاني والبرامج التافهة؟!.
الدرس الثالث: نتيجة هذا الاحتساب الجميلة، تبين لنا مدى أهمية احتساب جميع أفراد الأسرة على كل من وقع في منكر، أو حاد عن الطريق المستقيم أو سلك غير سبيل المؤمنين، وكم من البيوت التي تعاني من ضياع أفرادها وتشكو من عصيان أولادها.
فيا أيها الصالحون في تلك البيوت، أين دوركم في إعادة هؤلاء إلى جادة الطريق؟ فلا يكفي أن تكونوا صالحين في أنفسكم وتتركون أبناءكم أو إخوانكم يضيعون الصلوات ويقترفون المنكرات، فهذه ليست من صفات المؤمنين الذي حثهم الله على وقاية أنفسهم وأهليهم من النار بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
الدرس الرابع: قلوب العباد بيد الله يقلبها كيف يشاء، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك))[3]، فقلب تلك الفتاة كان مائلا للشر محبا له، كارها للخير، معرضا عنه، ولكن رحمة الله بها هداها للحق وحببه إليها بعد حياة طويلة من الضياع والتفريط.
هذا الأمر -وهو التسليم بأن الهداية بيد الله- لا يجعلنا نترك الأسباب التي ندافع بها الشر والأشرار؛ اتكالا على هداية الله، بل نبذل ما كلفنا به ونؤدي الواجب الذي نقدر عليه مقتدين بحبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في دعوته وتبليغه لهذا الدين.
الدرس الخامس: أهمية الرفقة الصالحة، يتبين ذلك من صلاح تلك الفتاة المحتسبة التي تقول عنها أختها أنها أحاطت نفسها برفقة صالحة، وهذا يؤكد لنا أهمية هذا الأمر، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة))[4].
ويقول الشاعر:
واخترْ قرينَكَ واصطفيه تفاخراً *** إِن القرينَ إِلى المقارنِ يُنْسَبُ
وفي المثل: قل لي من صديقك أقل لك من أنت.
فهذه الفتاة الصالحة صاحبت رفقة صالحة من بنات جنسها في رياض القرآن بين حلقات التحفيظ ونعم المحاضن التربوية أماكن حلقات القرآن الكريم.
الدرس السادس: تنويع أساليب الاحتساب، فقد يكون أسلوب الوعظ والأمر والنهي غير مُجدٍ في البعض، ولذا فالمحتسبة ينبغي أن تتخذ أسلوبا آخر، فهذه الفتاة المحتسبة لو نظرنا إليها نجد أنها قد استمرت فترة طويلة تعظ أختها وتأمرها بالمعروف وتنهاها عن المنكر ولكن لم يؤثر ذلك فيها تأثيراً بالغا، وعندما اتخذت أسلوبا آخر وهو اصطحابها إلى رياض القرآن بين تلك الفتيات التي أنار الله بصائرهن وشع نور الوحي بين جوانحهن، فتهللت وجههن بشرا، ما أن رأتهن حتى قذف الله في قلبها الهداية وحب العبادة، فرجعت تلك العاصية إلى فتاة صالحة تكره المعاصي وتقدم مرضاة الله على هواها، فسبحان مقلب القلوب.
نسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا لما يرضيه ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه، والحمد لله رب العالمين.
 
 [1] العائدات إلى الله (ص 16) محمد بن عبد العزيز المسند.
[2] رواه مسلم (1/69) رقم (49).
[3] رواه مسلم (4 / 2045) رقم (2654).
[4] رواه البخاري (5/2104) رقم (5214) ومسلم (4/2026) رقم (2628).


منصور صالح حسين الجادعي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣