الانتفاضة الثالثة، سرَاجُـها الفلسطيني الجديد
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
تتواصل عمليات الطعن والدهس في الأراضي المحتلة ضد المستوطنين والجنود الصهاينة على حد سواء، وتتسع أماكن هذه العمليات إلى مناطق تجاوزت مدينة القدس المحتلة، وجعلت معها حكومة نتنياهو تفقد سيطرتها الأمنية ويعلن مسؤولوها على رؤوس الأشهاد بأنهم لا يستطيعون فعل أي شيء جدّي لمواجهة حرب السكاكين.مجلس الحكومة المصغر -الكابينيت- ما زال يجتهد في كل لقاء يعقده إقرار إجراءات عقابية جديدة ضد ما يسمونهم بالمخربين، علّ هذه القرارات توقف هذا الطوفان الفلسطيني المُقبِل غير المُدبِر على المواجهة، وفي نفس الوقت ربما مثل هذه الإجراءات تعيد الثقة المفقودة إلى نفوس المستوطنين. حزمة العقوبات التي فـُرضت على منفذي العمليات وأهاليهم لم يكن لها تأثير على الأرض، واستدعاء 1400 من الاحتياط وغلق الضفة والقدس المحتلة ومحاصرة المناطق العربية هي إجراءات لم تؤتي أكلها بعد، فعمليات الدهس والطعن لا تزال مستمرة، ولا أفق إلى حد الآن لنهاية هذا الكابوس المرعب.
على ضوء ما سبق هناك أسئلة من حقنا طرحها، على سبيل المثال، لماذا وقفت الحكومة الصهيونية عاجزة أمام هذه العمليات؟ لماذا يبدو الصهاينة متفاجئين من الروح القتالية لدى الفلسطينيين في الضفة والقدس المحتلة؟ ألم تكن حكومة نتنياهو تتوقع مثل هذه الهبة في يوم ما؟ وتتراكم الأسئلة أكثر فأكثر لتجعل اللبيب حيرانًا.
بدايةً، عجز الحكومة الصهيونية في ملفها الأمني يبدو منطقيًا، فلا يمكن لأي جيش أو قوة في العالم محاربة جيش خفي من حاملي السكاكين، لكن ما ساعد الفلسطينيين أكثر هو خوف وجبن المستوطنين الذين يخشون المواجهة ويفضلون الهرب ويولون الأدبار؛ ما يجعلهم فريسة سهلة أمام غضب منفذي العمليات وسكاكينهم، ونحن هنا نتحدث مرة أخرى عن الجبهة الداخلية وأهميتها في مثل هذه المواجهات، فنتنياهو يتربع على عرش جبهة داخلية ضعيفة وواهنة وهذا ما أكدته الوقائع بالأرقام، فحسب استطلاعات رسمية أيد 66 بالمائة من المستوطنين فكرة الانسحاب بشكل كامل من أحياء القدس الشرقية وقال 88 بالمائة بأنهم لا يُحسون بالأمان حينما يكونون خارج بيوتهم، وذكرت معلومات بأن المؤسسات الصهيونية سجّلت تأخرًا لموظفيها لم يشهده الكيان منذ 30 سنة، ما يؤكد عمق تأثير ثورة السكاكين في الأراضي المحتلة، رغم تشكيك بعض ذوي القربى.
ثانيًا: حالة الذهول التي ظهر بها المسؤولون الصهاينة رغم محاولة إخفائها، تبدو مشروعة، والسبب انهيار الخطة الأمنية التي اجتـُهد العمل عليها منذ اتفاق أسلو بمساعدة واشنطن والسلطة الفلسطينية في رام الله، وهنا نحن نتحدث عن مشروع دايتون، والذي سمي تيمنا بالجنرال دايتون؛ حيث كرس عصارة تجاربه "الأمنية" و"العسكرية" و"الاستخباراتية" من أجل إنتاج جيل جديد من الفلسطينيين يركـُن إلى السِّلم بدل المواجهة والمقاومة ويقضي حياته كلها يركض وراء لقمة العيش، هذا المشروع الذي سخرت له الولايات المتحدة الأمريكية ملايين الدولارات، بل وصلت إدارة جورج بوش الابن الاستجداء بالكونغرس عدة مرات من أجل طلب المزيد من الأموال لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حلم دايتون.
لم ننتظر كثيرًا، لنشهد بأن الفلسطيني الجديد جاء عكس ما توقع دايتون وزبانيته في رام الله وواشنطن، وأظهر شجاعة وبسالة لم يتوقعها إلا من آمن بقدراته، الفلسطيني الجديد فرض على حكومة نتنياهو المتطرفة تقسيم مدينة القدس المحتلة بقوة السكين بعدما فـُرض على الصهاينة حظر التجوال في الشطر الشرقي للمدينة، وهذا أمرٌ فشل في تحقيقه أصحاب المفاوضات رغم مرور عدة عقود.
بعكس مَنْ عوّل على أحلام دايتون، الفصائل الفلسطينية المسلحة كرّست جهدها بشكل كبير في تطوير فكرة المقاومة لدى الأجيال المتعاقبة، فما فتأت تؤكّد على أن رأس مالها هو العامل البشري، وهذا الأخير هو من سيعمل ذاتيا على تطوير أساليب المقاومة ووسائلها، فكانت النتيجة جيل آخر يتفنّن في كتابة مرحلته بالسكاكين على صفحات تاريخ الاحتلال، ما يؤكد لنا بأن الجيل الجديد قذف بمشروع دايتون إلى مزبلة التاريخ وأفشله كما فشل اتفاق أسلو من قبل.
نعم، النتيجة كانت الفلسطيني الجديد، الفلسطيني الذي أعاد الكيان الصهيوني إلى نقطة الصفر، فلا مكان آمن على طول وعرض الأراضي المحتلة والجميع دون استثناء معرض للقتل في أي لحظة. الفلسطيني الجديد استطاع فرض واقع جديد سيتطلب الكثير من الوقت حتى يتعود عليه المستوطنون الذين ظنوا بأن حكومتهم المتطرفة قادرة على حمايتهم من كل شرّ. الفلسطيني الجديد، أرعب المحتل وأزعج الغرب وأهان العرب وجعل الجميع يبدون مثل الأقزام أمام إقدامه وإصراره على انتزاع حقوقه المسلوبة. الفلسطيني الجديد الذي أصبح يراه الصهاينة مثل الشخصية الخرافية المسماة بـ "الغول"، فترتعد فرائسهم حينما يمر من أمامهم، ويحسب له الجندي المدجج بالسلاح ألف حساب.
طبعًا، برغم ما ذكرنا سابقًا من حقيقة الواقع الجديد والإيجابي في الأراضي المحتلة، فإن بعض الأطراف ما زالت تمتهن التشويش، وبعض الإعلام العربي -للأسف الشديد- ما زال يمتطي فزّاعة التخويف من ردة فعل الصهاينة، وحديثهم الطويل عن الفرصة التي أعطاها هؤلاء الشباب لحكومة الاحتلال لإكمال سيطرتها على مدينة القدس وتقسيم المسجد الأقصى المبارك زمانيا ومكانيا، بل أكثر من ذلك، التشويش انتقل إلى مرحلة أخرى في محاولة لكسر عزيمة هؤلاء الأبطال، وذلك بعدما تغيّب صوت بعض الدول ذات الوزن الثقيل والمعوّل عليها في مثل هذه الأحداث بحجة انشغالها بجبهات قتالية أخرى، ما يؤكد لنا مرة بأن القضية المركزية لم تعد كذلك، لكن، من قال بأن الفلسطيني الجديد كان له يومًا أمل في مثل هذه الحكومات، فكل ما احتاجته انتفاضة القدس: شجاعة وسكين، أما الأولى فلا يمكن استيرادها من أي دولة وإنما هي صناعة داخلية متوارثة إبنًا عن أبٍ عن جـَـدْ، أما الثانية فمتوفرة وفي متناول الجميع، فماذا يحتاج إذا الفلسطينيون منهم؟ هنا هم يردون ويقولون: "دعونا نقرّر مصيرنا بأنفسنا، وكُفـّوا أيـْـدِيَكم وألسنتكم عنّـا، فقط".
----------
بقلم: كمال حميدي.