أرشيف المقالات

لم يكن شاباً عادياً - محمد علي يوسف

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
لم يكن ذلك الشاب اليافع أبدا شابا عاديا 
كان سيدا في قومه وابنا لأحد أهم وجهائهم
في الحقيقة لقد كان بمثابة أمير وليس أي أمير
لقد كان أميرا مقدسا ترتبط قداسته بقداسة إلههم الذي يعبدون والذي يعد والده كاهنه الأعظم والمسؤول عن إبقائه -الإله المزعوم أعني- حيا قويا
حياة ترف ودعة وإجلال من شعبه وقوة ومال وجاه وسلطان
لكن كل هذا لم يكن يستهويه 
لم تشغله الأموال والضيعات عن رغبته ولم تثنه المكانة بين الناس عن مطلبه
كان قلبه رغم كل ذلك يتوق إلى شىء آخر
نداء يتصاعد بشكل مستمر من أغوار سحيقة لفطرة لم تنجح نجاسات الوثنية في طمسها
نداء يخبره أن ثمة حقيقة مختلفة وأن نيرانا تحتاج لوالده كي تبقى جذوتها متقدة لا يمكن أبدا أن تستحق عبوديته
ولقد استمع إلى النداء
وقرر أن يستجيب له
أتراه ذلك الكنيس المتاخم لحدود مدينته الأصبهانية العتيقة؟
أتراهم أولئك الرهبان الزاهدين العابدين هم من يملكون ما يبحث عنه ويعرفون جوابا يتوق إليه؟
لقد تنصت إلى ترانيمهم أكثر من مرة ولقد وقعت من نفسه موقعا حسنا
لا شك أن هذا خير مما هو عليه وأقرب لفطرته التي تتململ خلف غيوم المجوسية الحمقاء
تهلل قلب مشتاق إلى الحق وفرحت نفس طالما اشرأبت باحثة عن الصدق ولم يستطع أن يكتم تلك الفرحة 
لقد أخبر والده 
- هذا الدين خير مما نحن عليه
- بل دينك ودين آبائك خير منه 
كانت تلك إجابة الوالد القولية والتي تبعتها إجابة عملية تمثلت في قيود غليظة جعلها في رجل ولده خشية أن تدفعه فطرته المتوثبة للذهاب إلى غير رجعة طالبة مبتغاها الوحيد
طالبة للحق الذي يعلم الوالد في قراره نفسه أنه لا يملك إجاباته ولا يحيط بمنطقه وأن أضواء نيرانه المتراقصة لم تكف لكشفها لولده
ولقد وقع ما كان يحذر
لم يلبث الشاب الباحث عن الحقيقة إلا أن كسر قيده وتخلص من آصار أغلال الحديد التي مهما بلغ ثقلها تظل أخف وأهون من آصار وعلائق أخرى غليظة قد ألقاها من قبل عن عن قلبه
ولقد رحل 
قصد إلى الشام مبتغيا أصل ذلك الدين الجديد عليه
لكن الأمر لم يكن في البداية كما تصور
إن ذلك الرجل الذي أرسلوه إليه ليمكث عنده متعلما ووصفوه بأنه أعلمهم بهذا الدين لم يكن أبدا مثالا جيدا لحملة الحق
بل كان في الحقيقة شر مثال 
كان راهب سوء يأكل أموال الناس بالباطل ولا يؤديها لمستحقيها حتى اجتمعت لديه ثروة عظيمة و"إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله"
لكن صاحبنا لم يصد
لم يسارع إلى نمط النفور من الدين لخلل بحامليه ولم يلجأ إلى فرضية العصمة التي تلبس للمتدينين وتكون عند انكسارها سبيلا إلى مغادرة الدين بحجة فساد أهله ولم يعرف الحق أو يصد عنه بالرجال
لقد استطاع بتجرد مذهل أن يصبر نفسه مع راهب السوء ينهل مما لديه من الحق ولا يخلطه بما عنده من الباطل حتى جاء أجل ذلك الراهب وحانت نهايته
ثم كانت الجائزة
لقد أكرمه الله براهب آخر يخلف ذلك الفاسد وشتان الفارق الذي كان بينهما
وكذلك الصابر الصادق ييسر الله له سبل الهداية للحق حين يري الله منه خيرا فيؤته خيرا
مكث "سلمان الفارسي" لدى هذا الرجل الصالح ما شاء له الله أن يمكث وتعلم من فعاله قبل أقواله ثم حانت لحظة الفراق وجاء أجل الراهب 
لكن نهم المعرفة ورغبة البحث عن الحق لم تنطفىء جذوتها بعد
بل لعل وهجها قد ازداد كلما اقترب 
- سيدي قد حضرتك الوفاة، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟
قال الراهب المحتضر: أي بني، والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه، فَالْحَقْ به
الطريق إذا لم يزل بعد طويلا
سيرحل الباحث عن الحق إلى المشرق من جديد وبغيته العراق هذه المرة ليس ليقترب من موطنه وعز أبيه وجاه منصبه وترف سلطانه ولكن لأجل غايته السامية التي لم يعد في نفسه غيرها
غاية البحث عن الحق
سيمكث الباحث في الموصل ما شاء له الله أن يمكث ثم يتكرر الأمر ويأتي الأجل عابدها ليقطع عليه تعلمه لكنه لم يقطع همته وشغفه وسينطلق من شاطىء دجلة إلى ضفاف الفرات بنصيبين العتيقة لينهل من عابدها ثم يحيله ذلك الأخير عند إتيان سكرات موته إلى الشام من جديد ليمكث لدى عابد عَمُّورِيَّةَ ما شاء له الله أن يمكث حتى يأتيه أجله أيضا فلا تفلح الأعوام الطويلة والرحلات الشاقة المتكرر في كسر همة الباحث أو طمس شوقه للحقيقة وإذا به يسأل عابد عَمُّورِيَّةَ على فراش موته سؤاله المعتاد:
- سيدي قد حضرتك الوفاة، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ 
لكن الإجابة هذه المرة كانت مختلفة
كانت فصلا بين عصرين وحدا فاصلا بين زمانين
عصر عباد حنفاء معدودين متفرقين وزمان ندرة حق وقلة صدق وعز يقين قد آذن بالانتهاء وليظل الكون زمان جديد 
زمان نبي
- أي بني، والله ما أعلم أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين حَرَّتَيْنِ بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فَافْعَلْ.
هكذا بين الراهب تلك الحقيقة الفاصلة واقتربت الرحلة الطويلة من نهايتها وأكرم بها من نهاية
لكن صعوبات الرحلة لم تنته بعد وصدق الباحث عن الحقيقة سيتعرض لاختبار أشد وأصعب 
إنه القيد من جديد لكنه هذه المرة قيد الظلم والعبودية والأسر
لقد أسرته تلك القافلة التي لحق بها إلى جزيرة العرب وباعته رقيقا إلى رجل من يهود بني قريظة
وهنالك كانت بغيته ووجد مراده ووجهته
لقد بلغ أرض النخل التي بين حرتين وبقي أن يصل إليها نبي آخر الزمان
لقد بلغ يثرب التي ستدعى بعد حين مدينة رسول الله
بلغها عبدا أسيرا وكان يستطيع وهو شريف النسب مرموق الآل أن يرسل إلى أهله الأغنياء ليفتدوه بالذهب والفضة 
لكنه لم يفعل 
صبر صاحبنا على مرار الأسر وضيم العبودية لا لشىء إلا لتلك الغاية وذاك الهدف الذي قد اقترب
ثم وصل 
وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدينته مهاجرا وسارع إليه سلمان وعرف صفته ونعته وخاتم النبوة وضيئا على ظهره فانكب عليه يذرف دموعا ساخنة
دموعا ترسم على وجنته بريق فرحة طال انتظارها واحتمل الباحث في سبيلها مشاقا ومصاعب يندر أن تجد من يحتملها
وها قد وصل وأدرك المنزل
"إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان"
هكذا أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم وجمع سلمان الفارسي الأعجمي بعيد النسب إلى جوار صاحبيه المهاجرين المجاهدين الباذلين المضحيين الذين كانا على الأذى والصعاب صابرين محتسبين
جمعه إليهما مخبرا بشرفه العظيم ومكانه الكريم في جنة الخالدين التي تشتاق إلى لقائه
وكيف لا وقد اشتاق إليها وسلك سبيلها مضحيا بكل غالٍ ونفيس لأجل بلوغها وبلوغ طريقها
طريق الحق 
لقد كان سلمان نموذجا حيا لتلك القيمة التي تكاد تندثر اليوم خلف طبقات التعصب والتحزب وتقليد الآباء والمتبوعين
قيمة البحث عن الحق وبذل كل ما يستطيع الإنسان ليصل إليه
لقد تجلت تلك القيمة في جملة نبوية من أعجب ما يكون 
- "اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"
رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي يأتيه الوحي من السماء والذي لا ينطق عن الهوى يفتقر إلى مولاه ليهديه إلى الحق الذي اختلف فيه
إنه درس عملي مذهل يدلنا من خلاله الحبيب صلى الله عليه وسلم لتلك القيمة 
قيمة طلب الحق والبحث عنه وعدم الركون إلى المتوارث المتعارف عليه وترك الاستسهال عند الخلاف 
بل افتقار ورغبة للوصول تتجلى في لفظه الجامع مناجيا به ربه ""اهدني لما اختلف فيه من الحق"
تقرير لتلك الحقيقة وذلك الأصل أن هناك خلافا قد يحدث بين الناس وكل يدعي وصلا بالحق والله وحده يهدي إلى الحق 
لكن تلك الهداية قرينة الصدق وثمرة الافتقار والبذل 
هكذا رأينا في قصة سلمان ذلك الباحث عن الحق وكذلك في حياة كل باحث بصدق عن الحق 
وكذلك وعد الملك فقال وقوله الحق {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}

شارك الخبر

المرئيات-١