أرشيف المقالات

السياحة بين مفهومين - محمد بن عبد الله الهبدان

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
لقد طرأ في هذا العصر المتلاطم بالفتن ما يطرأ في كل عصر، وارتكب فيه أرباب الشهوات ما ارتكبه أسلافهم الأوائل من تغيير للحقائق، وتلبيس للمفاهيم، وعبث بالمبادئ، فغيروا ما يريدون تغييره لإشباع غرائزهم، وسموا الأشياء بغير اسمها، ووصفوها بغير صفاتها اللائقة بها، فالخمر عندهم شراب روحي، والربا في نظرهم المعوج فائدة مالية، ودعامة اقتصادية، والسياحة في منطقهم المنكوس متعة وترفيه، هكذا قالوا، وبئس ما قالوا.
أحبتي في الله: لعلي أن أسلط الضوء على قضية كبرى دار حولها الحديث، وكثر فيها الكلام ألا وهي قضية السياحة والتي تعني في المفهوم العالمي المعاصر الانفتاح المطلق بلا قواعد مرعية، ولا ضوابط شرعية، فلا دين يردع، ولا وازع يمنع، يفعل الإنسان ما يشاء، ويصنع ما يريد، فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه؛ فهو بالفكر في تحصيل أغراضه الدنيوية مغمور، وبسكرة الهوى وحب العاجلة مخمور.
هذه السياحة في عصر العولمة، ولكننا حينما نعود إلى المعين الصافي، والمنبع الوافي ـ كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإننا ندرك حقيقة السياحة، ومفهومها في الإسلام والتي ينبغي أن يدركها الجميع، يقول الله - تعالى - في وصف عباده المؤمنين: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ)التوبة112].
وللعلماء في بيان معنى السياحة أقوال كلها تدل على ارتقاء الإسلام إلى معالي الأمور، وبناء الأمة على مكارم الأخلاق ، وجميل الخصال، فمنهم من فسر السياحة بالسفر في طلب العلم ، فيرتحلون من أجله، ويشدون الرحال في طلبه، وثني الركب لدى العلماء والتلقي عنهم والاستفادة منهم، قال عكرمة السائحون: هم طلبة العلم.
وفسرها بعضهم بالجهاد في سبيل الله - تعالى - كما جاء في الحديث عند أبي داود عن أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ؟ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تعالى-))([1]).
وقال عطاء: السائحون: هم الغزاة المجاهدون في سبيل الله ([2]) فهم يسيحون لأجل رفع راية الدين، وإعلاء كلمة المسلمين، وإزالة الذل والهوان عن عباد الله المستضعفين، إنهم يسيحون لبلوغ ذروة سنام الإسلام فأين هذه من تلك؟ لو كانوا يعقلون.
وفسرها بعضهم بالصيام، فإن الله - تعالى - قد وصف النساء اللآتي يتزوجهن رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: [سائحات] وأخرج ابن جرير بسنده عن عبيد بن عمير قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السائحين فقال: ((هم الصائمون))([3]).
قال ابن كثير : وهذا مرسل جيد.
وكذا فسر السياحة بالصيام؛ أبو هريرة وابن مسعود وابن عباس وعائشة وغيرهم - رضي الله عنهم -.
وعن سفيان بن عيينة قال: إنما سمي الصائم السائح؛ لأنه تارك للذات الدنيا كلها من المطعم والمشرب والمنكح فهو تارك للدنيا بمنزلة السائح.
وفسرها بعضهم بالمداومة على فعل الطاعات، أخرج ابن أبي حاتم أن عثمان بن مظعون أراد أن ينظر أيستطيع السياحة؟! قال: كانوا يعدون السياحة قيام الليل وصيام النهار.
وفسرها بعضهم بالهجرة، أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في قوله: (السَّائِحُونَ) [التوبة112] قال: هم المهاجرون ليس في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - سياحة إلا الهجرة وكانت سياحتهم الهجرة حين هاجروا إلى المدينة ليس في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ترهب.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وفسرت السياحة بالصيام، وفسرت بالسفر في طلب العلم ، وفسرت بالجهاد، وفسرت بدوام الطاعة.
والتحقيق فيها أنها سياحة القلب في ذكر الله ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعال، ولذلك وصف الله - سبحانه - نساء النبي اللاتي لو طلق أزواجه بدله بهن بأنهن: (سَائِحَاتٍ) التحريم5]، وليست سياحتهن جهادا ولا سفرا في طلب علم ولا إدامة صيام وإنما هي سياحة قلوبهن في محبة الله - تعالى - وخشيته والإنابة إليه وذكره.
وتأمل كيف جعل الله - سبحانه - التوبة والعبادة قرينتين هذه ترك ما يكره وهذه فعل ما يحب والحمد والسياحة قرينتين هذا الثناء عليه بأوصاف كماله وسياحة اللسان في أفضل ذكره وهذه سياحة القلب في حبه وذكره وإجلاله كما جعل - سبحانه - العبادة والسياحة قرينتين في صفة الأزواج فهذه عبادة البدن وهذه عبادة القلب" ([4]).
وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)).
فلا إله إلا الله يُنهى رجال أن يتفردوا في شواهق الجبال من أجل عبادة الكبير المتعال! فهل يعقل أن يؤذن بالسياحة التي يتصور الكثيرون أنهم في حل من الضوابط الشرعية، والقيم الأخلاقية ؟! ولاسيما أنهم يرون الأسباب مهيأة، والأبواب مشرعة في بلد السياحة! كما هو ملحوظ في الدول الغربية بعامة، حيث يتوافر أماكن اللهو بأنواعه، وأنواع الشواطئ المختلطة والمتبرجة، وإذ كنا منهيين عن السياحة التي هي بمفهوم الرهبنة والانقطاع للعبادة مخالفة للنصارى فيما هم عليه من الرهبانية المبتدعة، فكيف بالسياحة التي يصحبها فسق ومجون، وتبذير وجنون، وعربدة وفجور، سهرات حمراء، ومراقص نقلدهم ونحاكيهم في المناداة للسياحة العصرية الشهوانية؟! ألا إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور…لقد صدق فينا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ.
قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟))([5]) فأي انهزامية بلغناها؟ وأي مدى من التبعية وصلناها؟ حتى أصبحنا نأخذ الأمور على عواهنها، دون مراجعة وتمحيص، فأي جناية يرتكبها الآباء حين يسافرون بأبنائهم وبناتهم والشهوة تتأجج في صدورهم إلى مثل تلك البلاد التي تخلعُ الكرامة والفضيلة، ويَنْسلخُ الحياء والعفة، وتنزع الطهارة والنزاهة، فتباشر المعاصي وكأنها شيء مألوف، فما ظنك بمراهقين ومراهقات تتابعت أمام أعينهم مشاهد مريبة، أصابتهم بالذهول والدهشة حتى ألفوها ثم اعتادوها ثم عشقوها بعد ذلك حتى اهتزت ثقتهم بمعتقداتهم وقناعاتهم، ثم أخذت تلك الاعتقادات والقناعات تتهاوى واحدا تلو الآخر مع كل يوم يمر عليها في أرض المصيف فمن الذي يأمن على نفسه أو على أحد من أولاده أن تزل به القدم فيقع في شِباك أولئك الساقطين ويقع في براثن الأعداء فلا تكاد تقوم لهم قائمة بعد ذلك.
فإلى الإخوة الذين يحزمون حقائبهم، ويعدون تذاكرهم، استعدادا لقضاء الإجازة خارج البلاد أناديهم بنداء الأخوة الإيمانية والوشيجة الربانية لعلنا وإياهم نسمع، فنعقل، فنتعظ، فنتوب ونرجع ونمتثل فنؤجر: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) الملك10، هل عرفت الآثار المؤلمة والعواقب الوخيمة التي تنتج من جراء سفرك لخارج البلاد؟ إن كنت لا تعرف فتلك مصيبة، وإن كنت تعرف فالمصيبة أعظم.
أما علمت - يا رعاك الله - أن النفوس البشرية إذا ألفت شيئا واستمرأته، لم تكد تتحول عنه إلا في صعوبة بالغة، وبطأ شديد؛ لأنها لا تأتي على النفس جملة واحدة، ولكن النفس تتشربها مرة تلو مرة ثم تأخذ تلك النفوس الضعيفة كل ما يساق إليها مما يضر ولا ينفع، وينتهي بها الأمر إلى أن تفقد خصائصها الإسلامية، التي بها قوامها، ثم تذوب وتضمحل، ثم لا تسأل بعد ذلك، عن قيام تلك النفوس الضعيفة بالدعوة إلى إحياء الرذائل والتنكر للفضائل.
ناهيك أن مخالطة أولئك تضعف عقيدة الولاء والبراء والحب والبغض في الله وتكسر الحاجز الشعوري فمع كثرة الإمساس يقل الإحساس والدارسون لقضايا العقيدة وأصول الدين يدركون جيداً أن معاداة الكفار وبغضهم، والنفرة منهم وكراهيتهم أصل أصيل وركن ركين من أصول العقيدة!.
يقول الله - تعالى -: (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله)، ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) المائدة51.
والأمة - أيها المسلمون - لن يقوم لها شأن ما دامت تهون من شأنها وتحتقر نفسها ولو في الأمور العادية الصورية، وإن أمة تزهد في مقوماتها وشخصيتها وترغب في محاكاة غيرها ومحاكاة أعدائها وفي مقوماتهم وعاداتهم لا ينتظر لها إلا الانحدار والهوى الأبدي في أعماق الضعة والدرجات السفلى، فمن يعتبر من الناس المفتونين المخدوعين بأعدائهم وبتقليدهم قال إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -: (إن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغض كما قال - تعالى - في سورة المجادلة: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) المجادلة22)[6].
ومن تلك الآثار تعريض الأهل والأولاد لمخاطر المنصرين المنتشرين كالجراد في أماكن تجمع السياح، يهدونهم النشرات التنصيرية، ويدعونهم إلى عقيدتهم الوثنية، واعتقاد ما فيها من الخرافات الباطلة، والخزعبلات الساقطة، ويرغبونهم في الذهاب إلى كنائسهم المهجورة، ناهيك عن برامجهم الترفيهية المجانية على أنغام الموسيقى، والأناشيد الكفرية، فلا تسل بعد ذلك عن مدى تأثر النساء والصبيان، وحتى البالغين بذلك السيل الجارف من التنصير المركز، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلا: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) البقرة120.
ناهيك أيها المسلم عما ينتشر بين أولئك في تلك البلاد من أمراض معدية، وأوبئة مهلكة، وماذا في تلك البلاد يا مسلمون؟ إنه الكفر والإلحاد، إنه الإباحية والفساد، إنه الأمراض المعدية، إنه إضاعة المال، وكل هذه مفاسد خطيرة تكفي واحدة منها لقوم يعقلون؟
والإسلام يمنع مثل هذا إذا توفرت فيه مفسدة واحدة فكيف إذا اجتمعت فيه تلك المفاسد! فحين تخلف نفر من المسلمين عن الهجرة إلى المدينة وآثروا البقاء في الأرض التي ولدوا فيها، وفضلوا البقاء بين ظهراني المشركين إذا بالقرآن ينزل متوعدا ومتهددا أولئك بقوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) النساء97].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين))[7]، وأشد من ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله)).
ومعنى الحديث من اجتمع مع المشرك في بلاده أو سكن معه في بيته فهو مثله في الشرك والكفر والإلحاد نعوذ بالله من الغواية بعد الهداية.
وقد استثنى العلماء من ذلك المجاهد في سبيل الله، والداعيةَ إلى الله، والمسافر للعلاج، أو لدراسة علم ما ينفع المسلمين أو للتجارة، كل ذلك مشروط بأن يكون مظهرا لدينه، عالما بما أوجب الله عليه، قوي الإيمان بالله، قادرا على إقامة شعائره وللضرورة حينئذ أحكامها.
ألا إنها دعوة لحماية الأنفس *** والذرية من نار الله الرهيبة
ألا إنها دعوة لترك السفر إلى مواطن الوباء، ومعاطن البلاء امتثالا لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا إنها دعوة؛ لأن يمتلئ المسلم قوة وعزة وأن يكون متبوعاً لا تابعا، وأن يكون ذا سلطان ليس فوقه إلا سلطان الله..
 
([1]) رواه أبو داود (2486).
([2]) تفسير البغوي عند آية التوبة 112.
([3]) تفسير ابن جرير (11/ص28-29 التوبة: 112.
([4]) حادي الأرواح (1/59).
([5]) رواه البخاري (7320).
[6] الولاء والبراء، ص 20 القحطاني .
[7]  رواه أبو داود والترمذي.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير