أجرؤكم على الفتيا
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
الاختلاف في الأفهام وارد في كل زمان ومكان، وفي كل الأمور، وقد يظهر لعالم رأي ثم يظهر له أن غيره أصح منه فينقضه، ولا تثريب عليه بل واجب عليه أن يبين متى ما رأى الحق، ويأثم إن كتم العلم .والاختلاف في الحكم يكون لاختلاف في الفهم؛ ولذا لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب قال: «لا يصليَّن أحد العصر إلا في بني قريظة».
فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرَد منا ذلك، فَذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحداً منهم" (رواه أبو دواد في مسائل الإمام أحمد).
ففهم بعض الصحابة أن الصلاة لا تكون إلا عند الوصول إلى بني قريظة فلم يصلّوا حتى وصلوا، وفهم آخرون أن المراد منه الاستعجال، فصلّوا في الطريق.
إذا كان هذا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى زمن خير القرون، فما الظن في القرون التي بعده، فإنه كلما بعد العهد ساء الفهم أو نقص، ولا غرابة أن تكثر في هذا الزمن الفتاوى المختلفة، والآراء العجيبة، فهذا البعد الزمني يجعل المراد والمقصود من النصوص غير واضح لكل أحد، بل لا يمكن أن يكون واضحاً إلا للمتضلعين بالعلم والراسخين فيه.
وما يدور في الساحة اليوم من آراء وإن كان لها أصول وقد قيل بها، إلا أن ذلك لا يعني أنها الحق، فربما تبنى الفتوى على دليل لا يثبت، أو ثبت ولكن لم يصل إلى المفتي الدليل الذي نسخه.
وللفتوى شروط وللمفتي صفات، فلا ينبغي أن تؤخذ الفتوى عن كل أحد، وقد خلط الناس اليوم بين إمام المسجد والعالم، وخلطوا كذلك بين الداعية والمفتي، والتبس عليهم حافظ القرآن وقارئه بالحبر، بل ربما اتخذوا كل من تقدم وصلى بالناس أو أطلق لحيته مفتياً، وتهافت الناس عليه، واجتمعوا عليه كي يفتيهم، فلم يفرقوا بين تلك الأصناف.
وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فقيل له: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يكون مفتياً؟ هل يكفيه أن يحفظ مائة ألف حديث؟ فقال: "لا"، فما زال يزيد حتى قال: فهل يكفيه خمسمائة ألف حديث؟ قال: "أرجو"، وقال رحمه الله ذات مرة: "والله لقد أعطيت المجهود من نفسي، ولوددت أني أنجو كفافاً".
ونرى كثيراً من الناس تساهلوا بالفتوى، فصاروا يسارعون إليها، وغدت القنوات الفضائية تميل إلى مثل هؤلاء المفتين، عبر برامجها المتنوعة، وقد يشتهر أحدهم بفتوى تطير في الآفاق، حتى يردد اسمه في كل مكان، لا لأنه اشتهر بعلم واسع، ولكن لأنه خالف السائد المعهود.
ولقد سمعنا عن كثير من العلماء الربانيين أنهم يحملون هماً للفتوى حتى وإن كانت صغيرة، ومما يروى عن الإمام ابن باز رحمه الله أنه إذا عرضت عليه بعض الأسئلة، عرك عينيه، ثم قال: اللهم أهدني فيمن هديت، بينما لو عرضت على أحد المبتدئين في طلب العلم لبت فيها دون تردد، وكان الصحابة رضي الله عنهم والسلف يتدافعون الفتوى كل المدافعة، ويخشون منها كل الخشية، ويشيرون إلى من هو أعلم منهم.
ولهذا فإن المستفتي عليه أن يتحرى العالم، ويبحث عن الموثوق بدينه وورعه، ولا يستفتي أي شخص حتى يستبرئ لدينه، وينجو بنفسه، وأن يفرق بين الأصناف من المفتين، ويتبع الدليل حيث جاء.
أحمد الملا