أرشيف المقالات

أثر السياق في تحديد المقصود من صيغ العموم

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
أثَر السياق في تحديد المقصود
من صيغ العموم

• لبيان أثر دلالة السياق في صيغ العموم يقول الشافعي: (فإنما خاطب الله بكتابه العربَ بلسانها، على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساعُ لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عامًّا ظاهرًا يراد به العام الظاهر، ويستغني بأولِ هذا منه عن آخره، وعامًّا ظاهرًا يراد به العام، ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب فيه، وعامًّا ظاهرًا يراد به الخاص، وظاهرًا يعرف في سياقه أنه يراد به غيرُ ظاهره)[1].
 
فمثلاً نجد في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ﴾ [المزمل: 15، 16].
 
نجد أن الرسول - وهو اسم جنس - دخلت عليه الألفُ واللام، وهما إذا دخلتا على أسماء الأجناس أكسبتها العموم، إلا أنه بالنظر إلى دلالةِ السياق يتبيَّنُ أن الألفَ واللام للعهد، وليس للجنس، فيحمل اللفظُ ﴿ الرَّسُولَ ﴾ على المعنى المعهود لدى المخاطَب، الذي دل السياقُ عليه، وهو موسى عليه السلام[2].
 
ويزيد الشاطبي الأمرَ إيضاحًا فيقول: (إن العرب قد تطلق ألفاظ العموم بحسَب ما قصدت تعميمَه، مما يدلُّ عليه معنى الكلام خاصة، دون ما تدل عليه الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي، كما أنها أيضًا تُطلِقها وتقصِدُ بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع، وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال؛ فإن المتكلِّمَ قد يأتي بلفظِ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسَه وغيرَه، وهو لا يريد نفسه، ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم، وكذلك قد يقصد بالعموم صنفًا مما يصلح اللفظُ له في أصل الوضع، دون غيره من الأصناف، كما أنه قد يقصد ذكر البعض في لفظ العموم، ومراده من ذكر البعض الجميع)[3].
 
فالحاصل أن العموم إنما يعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرةٌ، ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان.
 
• ومن أثر السياق في إفادة العموم ما جاء عند قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [الممتحنة: 1]، فقد نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ العدو المشرك وليًّا من الأولياء، ولفظ العدو في هذا السياق مفرد، والمراد به هنا الجمع؛ لما في السياق من القرائن، ومنها قوله: ﴿ أَوْلِيَاءَ ﴾ بالجمع، ومنها: ﴿ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ﴾، وهو ضمير جمع، ومنها: ﴿ وَقَدْ كَفَرُوا ﴾ بواو الجمعِ، ومنها: ﴿ يُخْرِجُونَ ﴾ أيضًا بالجمع، وقوله بعدها: ﴿ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا ﴾ [الممتحنة: 2]، وكلها بضمائرِ الجَمع[4].



[1] الرسالة؛ للشافعي (51 - 52).


[2] مجموع الفتاوى؛ لابن تيمية (21 /548)، والبحر المحيط؛ للزركشي (3 /97)، وشرح الكوكب المنير؛ لابن النجار (3 /132).


[3] الموافقات؛ للشاطبي (4 /19 - 20).


[4] أضواء البيان؛ لمحمد الأمين الشنقيطي (5 /316).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢