فخ الحماقة!
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
فخ الحماقة!المتأمِّل للواقع تعتريه الدهشةُ ممَّن يتكالبون على الدنيا، ويتصارعون من أجل الظفر بها، فيراهم في كل وادٍ يحقِّق مصالحَهم الدنيوية يهيمون، ولا وزن ولا قيمة عندهم للوسيلة، فالغاية عندهم تُبررها، فيجدهم يَنصبون شِراك الباطل أينما حلُّوا، حتى ولو زيَّفوا الحقائق وقلَبوها، واعتلوا منابر الكذب وزيَّنوها، فانزوت الدنيا عن الصالحين، وارتمى في شراكها كل خوَّانٍ أثيم، ممَّن لا فارق عندهم بين حلالٍ وحرام، ولا قيمة عندهم لمبادئَ أو قِيَم، وهم يحسبون أنهم بذلك قد اعتلوا سلالم المجْد، مع أنهم قد سقطوا في فخ الحماقة، فآثَروا الفانية على الباقية، وغرَّتهم الحياة الدنيا، فصارت كلَّ همهم ومبلغ علمهم!
ذكر"ابن أبي الدنيا"[1] أن "الحسن البصري"[2] كتب إلى عمر بن عبدالعزيز: "أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن، ليست بدار إقامة، إنما أُنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تَركُها، والغِنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تُذِلُّ مَن أعزَّها، وتُفقر من جمعها، هي كالسمِّ يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه، يَحتمي قليلاً؛ مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء؛ مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيَّالة، التي قد تزيَّنَت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلَت بآمالها، وتشوَّفت لخُطَّابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلِّهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته، فاغتر وطغى ونسي المعاد، فشغل بها لبه، حتى زلت عنها قدمه، فعظمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعَت عليه سكرات الموت وألمه، وحسرات الفوت، وعاشق لم ينَلْ منها بغيته، فعاش بغصته وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرَج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، ما تكون فيها أحذَرَ ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأنَّ منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، والسار منها لأهلِها غار، والنافع منها في غدٍ ضارٌّ، قد وُصِلَ الرخاء منها بالبلاء، وجُعلَ البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفْوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يُخبِر عنها خبرًا، ولم يضرب لها مثلاً، لكانت قد أيقظت النائم، ونبَّهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ، وعنها زاجر؟! فما لها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبيِّنا بمَفاتيحها وخزائنها لا يَنقصها عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يَقبلها، وكره أن يحبَّ ما أبغض خالقُه، أو يَرفع ما وضع مليكه، فزَواها عن الصالحين اختيارًا، وبسَطَها لأعدائه اغترارًا، أفيظنُّ المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؟! ونسي ما صنع الله - عزَّ وجل - برسوله حين شدَّ الحجَر على بطنه، والله ما أحد من الناس بُسط له في الدنيا، فلم يَخَف أن يكون قد مُكر به، إلا كان قد نقص عقلُه، وعجز رأيه، وما أمسك عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها، إلا كان قد نقص عقله، وعجز رأيه"[3].
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلَّم: ((ما لي وللدنيا؟! إنما مَثلي ومثل الدنيا كراكبٍ قالَ تحت شجرةٍ ثم تركها وراح))[4]، ولكنه الغرور الذي يرمي المُتكالبين على الدنيا في فخ الحماقة، ونسوا أنها حتمًا لهم قاتلة!
[1] الحافظ أبو بكر، عبدالله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي (208 هـ - 281 هـ) الملقب بـ ابن أبي الدنيا، وقد طغى لقبه على اسمه حتى اشتهر به.
[2] (الحسن بن الحسن البصري) 21هـ / 642م - 110هـ / 728م (إمام وعالم من علماء أهل السنة والجماعة) يكنى بـأبي سعيد، ولد قبل سنتين من نهاية خلافة عمر بن الخطاب في المدينة عام 21 من الهجرة، كانت أم الحسن تابعةً لخدمة أم سلمة، فتُرسلها في حاجاتها فيبكي الحسن وهو طفل فتُرضعه أم سلمة لتُسكِّتَه، وتربى في بيت النبوة، كانت أم سلمة تُخرجه إلى الصحابة فيدْعون له، ودعا له عمر بن الخطاب، فقال: "اللهم فقهه في الدين، وحبِّبه إلى الناس"، حفظ الحسن القرآن في العاشرة من عمره.
[3] مختصر منهاج القاصدين؛ عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي الحنبلي، شمس الدين، أبو الفرج، فقيه، من أعيان الحنابلة، ولد في دمشق سنة (597هـ)، وهو أول من ولي قضاء الحنابلة بها، استمر فيه نحو 12 عامًا، ولم يتناول عليه معلومًا، ثم عزل نفسه، وتوفي في دمشق (682هـ).
[4] الترمذي.