أرشيف المقالات

من نوادر المخطوطات

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
8 أثر أدبي فذ! اختراع الخراع لصلاح الدين الصفدي للأستاذ علي الطنطاوي أطلعني على هذه الرسالة صديقي الشاعر الأديب السيد أحمد عبيد، أحد أصحاب المكتبة العربية العامرة بدمشق الشام، فرأيتها رسالة عجيبة، وتحفة أدبية غريبة، ورأيت فيها فناً من فنون الأدب العربي لا يعرفه الناس ودليلاً على بعد الغاية التي بلغها أدبنا، ورأيت فيها جمالاً ولذة، ووجدت فيها نفعاً وفائدة، فأحببت أن أتحف بها قراء الرسالة، فتكون لهم أفكوهة وللأدب خدمة، بتسجيل هذا الأثر الجميل من آثاره الضائعة في الرسالة (السجل الأدبي الخالد) صلاح الدين، أبو الصفا، خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي (المتوفى سنة 764) أحد أئمة القلم والأدب في عصره، (مهر في فنّ الأدب، وكتب الخط المليح، وقال النظم الرائق، وألف المؤلفات الفائقة، وباشر كتابة الإنشاء بمصر ودمشق، ثم ولي كتابة السرّ بحلب، ثم وكالة بيت المال بالشام، وتصدى للإفادة بالجامع الأموي، وحدّث بدمشق وحلب وغيرهما.
ذكره شيخه الذهبي في المعجم المختص، فقال: الإمام العالم الأديب البليغ الأكمل، طلب العلم وشارك في الفضائل، وساد في علم الرسائل، وقرأ الحديث وكتب المنسوب وجمع وصنف والله يمده بتوفيقه، سمع مني وسمعت منه، وله تآليف وكتب وبلاغة)
قال شيخ الإسلام التاج السبكي: (خليل بن أيبك) الشيخ صلاح الدين الصفدي الإمام الأديب الناظم الناثر أديب العصر: ولد سنة 696 وقرأ يسيراً من الفقه والأصلين، وبرع في الأدب نظماً ونثراً وكتابة وجمعاً، وعني بالحديث، ولازم الحافظ فتح الدين بن سيد الناس وبه تمهر في الأدب، وصنف الكثير في التاريخ والأدب.
قال لي: إنه كتب أزيد من ستمائة مجلد تصنيفاً ومن مؤلفاته الوافي بالوفيات ويكاد يكون أجمع كتب التراجم.
ومن مؤلفاته المطبوعة نكث الهميان في نكت العميان، والغيث المنسجم في شرح لامية العجم، وجنان الجناس في الأدب، ودمعة الباكي، وتمام المتون في شرح رسالة ابن زيدون (وهي غير الرسالة التهكمية التي شرحها ابن نباته) ووصف الهلال وغيرها أما هذه الرسالة التي نتكلم عنها، فلم أجد من ذكر أنها له، ولكني لا أشك في أنها إن لم تكن له، فلن تكون إلا لأديب كبير، وعالم متمكن، ولغوي محقق، وهي في شرح بيتين من الشعر.

شرحهما المؤلف شرحاً مستفيضاً، حلاه بالنكات اللغوية والمسائل النحوية، والطرائف الأدبية، والآراء الفلسفية، وزينه بالحكم الباهرة، والأمثال السائرة، واستشهد على كل مسألة من مسائله بأقوال العرب.

ولكنه - وتلك ميزة هذا الكتاب - تعمّد ألا يأتي إلا بما هو خطأ محرّف عن أصله، معدول به عن جادة الصواب، ممال به عن سبيل الحق: فلا بيت ينسب إلى صاحبه، ولا كتاب يعزى إلى مؤلفه، ولا مسألة تورد على وجهها، ولا بلدة توضع في موضعها؛ وقد أورد ذلك كله بحذق ومهارة، ولباقة وظرف، حتى أن الرجل ليتلوه فيحس لحلاوة ما يقرأ أنه لا يقرأ إلا حقاً وصدقا، وما فيه من الحق والصدق شيء ولا يقدر على الخطأ الذي لا صواب فيه، إلا من يقدر على الصواب لا خطأ معه.
يحتاج كلاهما إلى علم بمواقع الخطأ ووجوه الصواب، وانتباه وفطنة، واطلاع ومعرفة، كيلا يخلط خطأ بصواب، أو صواباً بخطأ.
والرسالة على ما فيها من الهزل والتحريف، تدل على طول باع مؤلفها في علوم اللسان، وعلوم العقل، ووقوفه على آراء الفلاسفة، وآثار الأدباء، ومباحث العلماء، ولا تخلو من فوائد وهي ناقصة من وسطها وآخرها، والموجود منها (53) صفحة، في كل صفحة (11) سطراً، مكتوبة بخط قريب من النسخي، مضبوط قليل الأخطاء، يدل على علم ناسخه.
وليس في الرسالة تاريخ، ولكن ورقها من الورق الذي بطل استعماله من ثلاثة قرون، فكأنها مكتوبة في القرن التاسع أو العاشر على الصفحة الأولى منها: كتاب اختراع الخراع تأليف المولى الأجل الفاضل العلامة فريد دهره ووحيد عصره صلاح الدين أبي الصفا خليل بن أيبك الصفدي رحمه الله تعالى للشيخ عبد الجواد: بدا لابن أيبك في عصره ...
كساد العلوم وخبث الطباع وأن الأماثل قد أصبحوا ...
هباء يطار بهم في الشعاع وأن كثيراً كمالاتُهم ...
دعاوى أحاديثها في انقطاع فجرّ بأفعاله رأيهم ...
وأتحفهم باختراع الخراع وعلى الرسالة تعليقات لطيفة، وتنبيهات شريفة وأول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو خرافة، الهدّ القشيري، سامحه الله تعالى: حضرت في بعض أوطان أوطاري، وأوْكار أفكاري، مع جماعة الخ.
. فابتدر أحد ظرفائهم فأنشدنا بيتين الخ.

وهما لو كنت بكتوت امرأة جارية الفضل ...
وكان أكل الشعير في البرد مَلْبَسكو لا بدّ من الطّلوع إلى بئرك في ...
الليل وظلام النهار متضحٍ اً فأخذ الجماعة في الإعجاب، مما اتفق فيهما من اختلال النظم، واختلال القافية، وعدم الإعراب، وخلاف أوضاع اللغة، وتناقض المعنى وفساده، والتخبيط في التاريخ، وقضوا نهارهم بتعاطي كؤوس العجب من ذلك فقال أحدهم: ألا إنهما محتاجان إلى شرح ينخرط معهما في سلك الغريب، ويبرز في مظهرهما العجيب! فالتزم بعض من حضر الخ.

وصبَّحهم وقد أعمل في الشرح حيلته.

فقال: حدثني نصير الدين أبو الهزايم ثابت، قال حدثني من كتابة أصيل الدين أبو المفاخر لقيط القطربي، وقيل القرطبي، قال أخبرني اجازة أسد الدين أبو ثور صقر الفنحكردي من أهل دمشق، قال: إن افتخار الدين سبكتكين القسهتاني صاحب زهر الآداب، قال: عارض هذين البيتين الأفوه الأودي أبو علي، على ما ذكره الحريري في الخطب النُباتية في قوله: وإذا نظرت إلى الوجود بعينكم ...
فجميع ما في الكائنات مليح وهذا من قصيدته الطردية في التشبيهات، وأولها: وأنت يا غصن النقا ...
ما أنت من ذاك النمط وزعم مؤيد الدولة أبو خاذل أيدكين الجواليقي، صاحب المديح المأموني، في كتاب الصادح والباغم، في باب المراثي أنهما من باب قول الثعالبي: لو كنت شاهين جارية الف ...
ضل وكان الحريم منزلك لابدّ الخ.
وليس بشيء والصحيح الأول قال الشارح عفا الله عنه: نبدأ أولاً بما في البيتين من اللغة وثانياً بما فيهما من الإعراب، وثالثاً بما فيهما من التاريخ وتقدير المعنى، ورابعاً بما فيهما من البديع، وخامساً بالكلام على ما يتعلق بعروضهما، وسدساً بما يتعلق بعلم القافية القول في اللغة: قوله بكتوت: هو علم مركب من اللغة العربية والتركية، فبك بالعربي وتوت بالتركي، ومعناهما أمير توت مثل دمرطاس ومروان وقراحاً وما أشبه ذلك، ومن قال إن معنى ذلك بالعربية أمير النيروز فلا يتأتى له ذلك إلا إن كان النيروز في شهر توت على ما ذكره السخاوي في سمع الكيان قوله امرأة: المرأة مشتقة من المرآة، وهي التي يرى الإنسان فيها وجهه إذا كانت في جيبه أعني السراويل، وكقول الأخطل: ما أخذ المرآة في كفّه ...
ينظر فيها للجمال المصون إلا رأى الشمس وبدر الدجى ...
ووجهه في فلك يسبحون قوله جارية فيها قولان، منهم من قال: هي الساقية لأنها تجري من أسفل إلى فوق، واستشهد بقول الحطيئة: نديمتي جارية ساقية ...
ونزهتي ساقية جارية جارية أعينها جنّة ...
وجنّة أعينها جارية ومنهم من قال هي في مقابلة المملوك، واستشهد بقول العكوّك: أيا بديع الجمال رقّ لمن ...
ستر هواه عليك مهتوك دموعه في هواك جارية ...
وقلبه في يديك مملوك وهذا باطل ببديهة الإنسان قوله الفضل: هو كل شيء ناقص، ومنه سمّي عبد الرحيم كاتب مروان بالفاضل لأنه كان قصيراً، وفي أمثال بزرجمهر لأمر ما جدع قصير أنفه.
قال التلعفري: ضعاف الطير أطولها جسوماً ...
ولم تطل البزاة ولا الصقور قوله كان: معلوم أنها للاستقبال وسيأتي الكلام عليها في الإعراب قوله أكل: هو الحالة المؤدية إلى الجوع لمن هو شبعان الخ.
. قوله الشعير: معروف أنه من فواكه الآدميين؛ ولا يوجد إلا في جزرات الهند بالمغرب في الليل دون النهار صيفاً.
قال ابن الساعاتي: جارية لم تأكل المرققا ...
ولم تذق من البقول الفستقا ومن استشهد في هذا بقول ابن الفارض يصف رجلاً من الأكراد كوسجا: إن تطل لحية عليك وتعرض ...
فالمخالي معروفة للحمير علق الله في عذاريك مخلا ...
ة ولكنها بغير شعير فليس من التحقيق في شيء والمعنى على الأول قوله البرد: هذا معروف أيضاً عند الأساكفة في الشام وأظنه نوعاً من الأطلس الحريري.
قال امرؤ القيس في معلقته الطائية: قالوا حريراً كان وجه حبيبه ...
ونرى مسوح الشعر فوق الأطلس جهلوا معاني حسنه مع علمهم ...
أن الحرير كماله بالقندس ومن قال إنه نوع من العديني وأنشد الخ.
.
فليس بشيء لأن العديني نوع الخ.
.
والأطلس إنما هو فلك القمر خلافاً لأبي تمام فإنه في الخطب النباتية زعم أنه الفلك الذي له الحركة القمرية الخ.
.
وهذا رأي المشائين.
والرواقيون خالفوهم والعمدة في اللغة على أقوالهم (إلى أن قال): لابدّ: البد معلوم، وهو صنم يعبده اليهود في النوبة.
قال بعض شعراء الجاهلية: من قال لابدّ منه ...
فمنه لي ألف بدّ وقال النابغة: دعوه يبلي فؤادي ...
لا خفَّف الله عنه كم لمت قلبي فيه ...
فقال: لابدّ منه (البقية في العدد القادم) علي الطنطاوي

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن