غلاء الأسعار ورخصها وصايا ونصائح
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
غلاء الأسعار ورخصها وصايا ونصائحالحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فيوجد غلاء للأسعار يُعاني منه الناس في غالب دول العالم اليوم، نسأل الله الكريم الرحيم الرحمن أن يلطف بالعباد والبلاد، وهذه جملة من الوصايا والنصائح حول غلاء الأسعار، أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.
تعلُّق القلوب بالله عز وجل:
سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية: الغلاء والرُّخص هل هما من الله تعالى أم لا؟ فأجاب رحمه الله: إن جميع ما سِوى الله من الأعيان وصفاتها وأحوالها مخلوقة لله، مملوكة لله، هو ربُّها وخالقها ومليكها ومُدبِّرُها، لا ربَّ لها غيره، ولا إله سِواه لها، له الخلق والأمر، لا شريك له في شيء من ذلك ولا مُعين...
وحينئذٍ فالغلاء بارتفاع الأسعار والرخص بانخفاضها، هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده، ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته.
فلنُعلِّق قلوبنا بربِّنا جل جلاله، الخالق الرازق، المصرف للأشياء، المدبر للأمور، الذي بيده كل شيء، والذي عنده خزائن السماوات والأرض.
الصبر والاحتساب:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 155، 156] وهذا الابتلاء الواجب فيه الصبر، والتسليم لقضاء الله وقدره، ورجاء الثواب والخَلَف من الله الكريم.
قال الإمام الطبري رحمه الله: وبشِّر يا محمد، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمةٍ فمنِّي...فيستسلمون لقضائي، ويرجون ثوابي، ويخافون عقابي، ويقولون- عند امتحاني إياهم ببعض محني، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أن أبتليهم به من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا مُمتحنُهُم بها-: إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياء، ونحن عبيده، وإنا إليه بعد مماتنا صائرون، تسليمًا لقضائي ورِضًا بأحكامي.
فليكن حالنا التسليم والرِّضا بقضاء الله، والحذر من التسخُّط بالقول أو الفِعال، فالتسخُّط لا يحل مشكلة، ويجلب ذنوبًا للعبد.
المبادرة إلى التوبة النصوح:
غلاء أسعار الغذاء والسلع والخدمات من المصائب التي تصيب الناس، والمصائب تصيب الناس بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، فرخص الأسعار نعمةٌ عظيمةٌ، لا تزول إلا بذنوب ومعاصي العباد، قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: ومَن تأمَّل ما قصَّ الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم، وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيانُ رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم من نعمه، وجد ذلك كلَّه من سوء عواقب الذنوب، فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه، فإنها نارُ النعم التي تعملُ فيها كما تعمل النار في الحطبِ اليابس...
ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له.
هذا وقد ذكر الحافظ ابن كثير في كتابه الجيد النافع "البداية والنهاية" أن الأسعار غلت في بعض السنوات، وأن الناس هلكوا بسببها، فمما قاله رحمه الله: غلت الأسعار جدًّا، وجهد الناس حتى أكل بعضُهم بعضًا، وحتى أكل الناس الكلاب، وحتى أكلوا الميتة، وأكلوا الجيف والنتن من قلة الطعام، وأفنيت الحُمُر والخيل والبغال والكلاب من أكل الناس لها، وماتت الفيلة فأُكِلَتْ، وهلك خلق كثير جدًّا من الفقراء والأغنياء، ومات الناس في الطرقات، ثم أعقبه فناء عظيم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال المؤرخ ابن بشر رحمه الله في كتابه "عنوان المجد في تاريخ نجد": غلت الأسعار، ومات مساكين جوعًا، وماتت الأغنام، وكل بعير يُشال عليه الرَّحْل، وغلا الطعام في الحرمين، حتى لا يكاد يُوجد ما يُباع وأُكلت جيف الحمير...ومات أكثر الناس جوعًا.
قلتُ: وما نزل بهؤلاء لا يستبعد نزوله بغيرهم، فنسأل الله الرحيم أن يلطف بالعباد، فالوصية بالمبادرة إلى التوبة النصوح بالفِعال واللسان، مع الحذر من توبة الكذَّابين، قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: قد قيل: الاستغفار باللسان من دون ذلك بالفِعال فِعْلُ الكذَّابين.
الحذر من ظلم العباد:
من أسباب غلاء الأسعار: ظلم العباد بعضهم لبعض، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سببًا في بعض الحوادث...
[كما] جعل ارتفاع الأسعار قد يكون بسبب ظلم بعض العباد.
فلنحذر من ظلم الآخرين من خدم وعُمَّال وموظفين وغيرهم، ولنقم بإعطائهم حقوقَهم كاملةً، عسى الله أن يلطف بنا.
الإحسان إلى الناس:
من أسباب انخفاض الأسعار: الإحسان إلى الناس، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس.
فلنُكثِر من الصَّدَقات والإحسان بجميع الطرق والوسائل، عسى الله أن يرحمنا.
الإيمان وتقوى الله:
قال الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، قال العلَّامة السعدي رحمه الله: ذكر أن أهل القرى، لو آمنوا بقلوبهم إيمانًا صادقًا، صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله تعالى، ظاهرًا وباطنًا، بترك جميع ما حرَّم الله لفتح عليهم بركات من السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم الأرض، ما به يعيشون وتعيش بهائمهم، في أخصب عيش، وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كد ولا نصب.
وإذا آمن الناس، واتقوا ربهم، بقلوبهم وأعمالهم، فُتِحت عليهم البركات من السماء والأرض، فكثُرت الخيرات والأرزاق، ومن ثم رخصت الأسعار.
تذكُّر الموت:
تذكُّر الموت يُهوِّن على الإنسان كل شيء عسير، قال بشر بن الحارث الحافي رحمه الله: إذا اهتمَمْتَ لغلاء السعر فاذكُر الموت، فإنه يُذهِب عنك هَمَّ الغلاء.
عدم شراء ما يمكن الاستغناء عنه:
من كان يشتري بعض الأشياء غير الضرورية، فليتركها؛ مما يجعل ثمنها يرخص، قيل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: إن اللحم غلا، قال: فأرخصوه، أي: لا تشتروه.
اللهم نسألك أن تلطف بنا.