شيخ شروه بثمن بخس
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
شيخٌ شَرَوْهُ بثمنٍ بَخْسإنَّ أهلَ الجاه - بأطيافهم وأصنافهم - لا تَميل نفوسُهم لأهل العلم والفضل، وإلى العلماء والدُّعاة والصالحين الربانيين، إلا ما رحم الله.
وهذا ليس سرًّا يذاع، بل هو أمر يفرضه العقل والفطرة؛ إلَّا ما رحم ربي، والعِلَّة: أنه ما من أحد يحطم كبر هؤلاء وغطرستهم مثل هؤلاء.
فالعالِم والمسلم الصَّالح - حقيقة - لا يُغريه مال، ولا يشدُّه جاه، فيجعله ينافق ويقدم المحاباة على النُّصح، وهو وإنْ كان بلا كرسي يَحمله إلا أنَّه يَجلس جِلْسة الملوك على بساط ممزق، شهيقه عِزَّة وزفيره إباء، وهذا يَجعل أهل النَّهي والأمر في تواضُع عند مجالسة مثل هؤلاء، فما تغني عنهم الأموالُ والمناصب شيئًا، ولا تَجد أحدًا يفرح من أهل الجاه بمجالسة أهل العلم إلَّا من كان مثلهم: ذا علم ودين ونِيَّة، قد عرف قَدْرهم، وتشوف لرأيهم، فتراه حينئذ بعِزَّة لا بكبر.
ورُبَّ (شيخ) ليس (بشيخ) قد التحفَ عباءته عند عتبة باب ذي الجاه يكنس الدَّراهم؛ ليفتي ويقول ما أراد؛ ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ [يوسف: 20]، وأيُّ دِين، وأي خير فيمن يرى مَحارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسُنَّة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكتُ اللِّسان، شيطان أخرس؟! كما أنَّ المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بَلِيَّة الدِّين إلَّا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتُهم، فلا مبالاة بما جرى على الدِّين وخيارهم الْمُتحزِّن الْمُتَلَمِّظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهِهِ أو ماله، بذل وتبذَّل، وجَدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثَّلاثة بحسب وُسعه، وهؤلاء مع سُقُوطهم من عين الله، ومقت الله لهم، قد بُلُوا في الدُّنيا بأعظمِ بليَّة تكون، وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإنَّ القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل[1]، وكانس الدراهم بعمامته وبُردته لا ترى له مقامًا إلَّا في المقامات النفاقية، أمَّا في ميادين النُّصح والبذل والعمل، فهو عارٍ منها، وهي بريئة منه.
ولم يَجنِ أحدٌ على الأمَّة مثل هؤلاء، أهل التزلُّف والنِّفاق، والمداهنة والغش، الذين يغشون عبادَ الله، ويسوغون لهم الباطل بدلًا من محض النُّصح، وإخلاص الدعاء بالتوفيق.
وتحت مطرقة (التيسير)، ومرزبة (التسامُح)، انحنت رؤوسٌ، وطأطأت أفكار، وذابت عقائد؛ ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187]، وأبت الجبال الرَّاسيات إلا الربانية والرُّسوخ، والبيان والتبيان؛ وفاءً بالميثاق، ونظرًا للآخرة، وتعاليًا على الدُّنيا، والكرسي، والمنصب، فخسر أولئك وفاز هؤلاء؛ ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ﴾ [ص: 88]، ولا يَمنع أهلَ الجاه قَبولَ النُّصح من الصادقين إلَّا إساءةُ الظَّن في نُصحهم وغايتهم، وهذا ما يفسده المداهنون المرتزقة، والمنافقون الزنادقة.
فإنَّ المداهنين المرتزقة يُفسدون النُّصح الخالص، بتأويل الأقوال، والتشكيك في المسلَّمات الشرعية والفطرية؛ رغبةً في التزلُّف والقُربى؛ ((ومن ابتغى رضا النَّاس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه النَّاس)).
فإنْ زدت على هذا ما يفعلُه المنافقون الزنادقة من الفُسَّاق وأهل المجون والأهواء من الوشاية بأهل الخير والصَّلاح عند كل ذي سلطان، فقد وضحت لك حقيقة الأمر، وهل هناك برزخ يحجز الإنسان عن قَبول الخير والنُّصح، مثل برزخ الشك في فساد النية، والظن بأن الناصح ما أراد إلَّا العُلُوَّ في الأرض؟!
كما اتُّهم موسى وهارون؛ ﴿ وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 78].
اللهمَّ أصلِح الرَّاعي والرعية، ورُدَّ كيدَ الخائنين، من المبتدعة والمنافقين، ربَّنا لا تَمنع فضلك عن المخلصين، وأنزل عقوبتك العاجلة على من باع الدنيا بالدين.
[1] من كلام ابن القيم في "إعلام الموقعين".