اقلب الصفحات - خالد أبو شادي
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
غيرَك مات وأنت لا زلت حيا تقرأ هذه الكلمات، ولو مت لعلمت كم تساوي ركعة واحدة لدى ميت من الأموات، ولعاينت كيف يرى المعذبون في قبورهم لحظة واحدة من لحظات الحياة، فاحمد الله الذي أحياك، وانظر اليوم:
ماذا تُملي على ملائكتك: أخي ..
لسانك أقلام وريقك مداد، ولا يكف الملكان عن كتابة أعمالك ورصد خطواتك ورفع التقارير عنك في حلك وترحالك.
واعلم أنك بعملك تبني في عام وتحصد على مدار الأعوام ..
فأفعالك تعيد تشكيل سلوكك، وحسناتك تعمِّق جذور إيمانك، أما سيئاتك فتقتلعه، فلا تحتقر حسنة بعد اليوم، ولا تستصغر أي سيئة.
هذه وصايا عشر أرمي بها من جعبتي في نحر الشيطان ، ونحن نستقبل عاما جديدا لننظر إليه برؤية جديدة ونجعل منه بحق علامة فارقة، ونخرج منه بأفضل ما فيه.
اقلب الصفحة .. ابدأ عهدا جديدا ..
امح ماضيك المؤلم ..
استبعد ذكريات فشلك ..
ابدأ وكأنك وُلِدت اليوم..
حرِّر نفسك هذا العام من مكيدة شيطانية تستهدف دفعك إلى خانة اليأس ومحاصرتك في مربع الفشل، ليذبح بذلك حيويتك الإيمانية ويخنق صحوات توبتك.
ارفع شعارك أخي: ما فات مات، والأهم ما هو آت، وابدأ بداية جديدة في صفحة عُمْرية جديدة ..
ليست كل عام فحسب بل كل يوم وكل ساعة، حتى ينتحر اليأس فلا يعرف إلى قلبك سبيلا.
صحائف لا تُطوى .. اسطر في صحيفتك هذا العام أعمالا تجعل صحيفتك منشورة لا تُطوى بعد موتك، واقرأ في تمعن حديث رسولك صلى الله عليه وسلم وكأنه يُملي عليك أفضل ما يُزيِّن الصحائف: «سبعٌ يجرى للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علَّم علما، أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورَّث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته»[1].
ثم اجلس مع نفسك متفكِّرا ومخطِّطا كم من هذه السبعة ستدرك هذا العام، وأي منها سيجري عليك أجره بعد الموت ، لتجعل بهذا عامك مختلفا ونبعك فياضا بعد ما غرست ما تجني به أطيب الثمر في جنات ونهر.
جديد يحمل جديدا .. هذا عامٌ جديد فاجعله يحمل بين طياته عملا جديدا، وسائل نفسك طالبا الإجابة:
ما هي العبادة التي ستواظب عليها هذا العام ولم تواظب عليها من قبل؟
ما هو الخُلق الذي تنوي أن تتحلى به وقد صعب عليك في ما مضى؟
أي خلق سيء تشكو منه وتنوي هذا العام أن تمحوه من معاملاتك وتشيِّعه إلى المقبرة؟
ما هي المهارة التي عزمت على أن تصقلها وتطوِّرها في نفسك لتخدم بها قومك وأمتك؟
وقديمٌ يزداد بريقا .. في صحائفك أعمالٌ كنت تعملها وتواظب عليها، لكنها تحتاج منك اليوم إلى إعادة نظر ومراجعة، ولأن ناشد الكمال دوما في ارتحال فأنت اليوم غير راض عنها ساعٍ في الارتقاء بها:
صلاة غير خاشعة.
إتقانٌ لعملك المهني غير تام.
قراءةٌ للقرآن غير متدبرة.
استغلال غير أمثل للأوقات.
علاقة بالجيران والإخوان سطحية.
عمل للإسلام لكنه غير فعال أو متذبذب.
كل هذه فرص سانحة لكي تحسِّن خطك هذا العام، وتجوِّد في صحيفتك، وعينك كلما فترت الهمة وأثقلت الأعباء على قول ربك: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
امح واكتب .. اجعل كتابتك قابلة للمحو، وذلك بيقظتك وانتبهاتك لكل ما تخط في صحيفتك، ثم إعلان توبتك فور زلتك، آخذا في الحسبان عنصر الزمن ومزية سرعة الإفاقة كما في بشرى نبيك صلى الله عليه وسلم: «إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها وإلا كُتبت واحدة»[2].
تخير أجمل الجمل: «أي العمل أفضل يا رسول الله؟!» .. سؤال طالما رفعه الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرهم وهو المؤيَّدِ بالوحي من السماء بما يشفي الغليل ويروي الظمأ، وهي جملة تعكس لهفة الصحابة على أعظم الأعمال أجرا وأعلاها قدرا، فلتملأ هذه الجملة مسامعك من الآن حين تقدم على عمل صالح لتفاضِل بين الطاعات وتنتقي أزكى القربات.
لكل وقت أذان، وبحسب ما يحيط بك من أحوال تتحدد الأولويات، فحين تجد نفسك وسط جهل يحتاج فيه الناس لعلم ..
أو فقر يفتقدون فيه المال ..
أو كرب يلتمسون فيه شفاعة ..
أو تخلف مهني يحتاجون فيه لنهضة وتطوير ..
أو تدهور خلقي يفتقدون فيه أخلاق النبلاء..
وأنت تملك هذا كله أو بعضه، فاعلم أنها فرصتك في اقتناص رقعة في الجنة أكبر وأغلى!!
املأ صحائف غيرك .. وسِّع أفقك ..
وسابق أحلامك في هداية ضال وجذب شارد إلى رحاب الله..
قلِّب النظر في من حولك لتجد الدنيا ملأى بالضالين غاصةً بالغافلين، فيكون هذا العام فاصلا لك بين عهدين: الصلاح والإصلاح.
وما أحلى أن تموت وصحائف أخرى ترسل لك الثواب وتعلي قدرك عند رب الأرباب، وما تزال صحائف عمرو بن العاص تربو كل يوم بأعمال أهل مصر ، وصحائف عقبة بن نافع بأعمال أهل تونس، وصحائف العلاء بن الحضرمي بأعمال أهل البحرين، وغيرهم من فاتحي القلوب وتجار الآخرة.
قلمٌ لا يتوقف .. اشغل ملك الحسنات ما استطعت حتى في أوقات راحتك وساعات نومك ..
اقلب عاداتك حسنات ..
جدِّد فيها النيات ..
بادر اللحظات ..
يحفِّزك على ذلك صحابة سبقوك وتابعون أغروك ..
تبغي اللحاق بهم ومزاحمتهم على الحوض.
وحافزٌ آخر في المقابل هو خوف الخسارة حيث حسرات القبور بلا دواء ..
وأغلال النار بلا فكاك ..
وخسارة الآخرة خسارة الأبد.
بداية الصفحة وآخرها .. ابدأ يومك ..
ابدأ شهرك ..
ابدأ عامك ..
بطاعة واختمه بطاعة، فالبدايات والخواتيم عليها مدار الفوز والخسارة .. ابدأ يومك بصلاة فجر أو قيام سحر، واختمه بنوم على سلامة صدر وطهارة بدن، فلو كان أول سطر في صحيفتك خيرا وآخر سطر فيها خيرا لمحا الله لك ما بينهما، وأنا أستبشر هنا ببشارة حبيبنا صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان : مكفِّراتٌ ما بينهن إذا اجتُنِبَتْ الكبائر»[3]. وإذا كان كتاب عمرك أول سطر فيه أذانٌ قرع أذنك عقب ولادتك، فاستبشر بأن يكون آخر سطر فيه إن شاء الله كلمة التوحيد ينطق بها لسانك، لتكون جواز عبورك إلى الجنة.
الحبر السِّري .. اجعل مما تكتب عملا صغيرا لكنه خفي لا يعلمه إلا الله، ودائم لا ينقطع مع تقليب الصفحات أي مرور الأيام، ترعى بذلك في قلبك بذرة الإخلاص وتتعاهدها، فتكون الجندي المجهول الذي لا يعلم عمله ملكٌ فيكتبه ولا شيطان فيفسده، فلا يكافئه على هذا العمل سوى الذي يعلم السر وأخفى، ومن حافظ على خبيئة من العمل الصالح حفظته، ومن أسرَّ بها سرَّته، ومن لم يُطلع عليها أحدا كافأه الله من جنس عملك فلا يُطلِع أحدا على أملاكه في الجنة، جزاءا وفاقا.
[1] حسن لغيره: رواه البزار وأبو نعيم في الحلية كما في صحيح الترغيب والترهيب رقم: 73.
[2] حسن: رواه الطبراني عن أبي أمامة كما في صحيح الجامع رقم: 2097.
[3] صحيح: كما في السلسلة الصحيحة رقم: 3322.