أرشيف المقالات

إعادة التموضع في الإقليم

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .

الخرائط السياسية هي الأكثر تغيرًا من بين الخرائط الجغرافية للعالم، وأكثرها عرضة للتعديلات المستمرة متى تغيرت موازين القوى، أو أرادت كبريات القوى إعادة تشكيل منطقة ما من العالم، وأكثر تلك الخرائط السياسية قابلية للتعديل هي خريطة منطقتنا العربية، كونها الأكثر رخاوة من بين نظيراتها وأقلها مقاومة للإرادات الدولية القاهرة.

وفي تلك اللحظة؛ فإن منطقتنا خاضعة لإستراتيجية جديدة لإعادة فكها وتركيبها وفقاً لما ترتضيه الدول الكبرى لمنطقة أكثر خضوعاً وانقياداً، وأقل قدرة على إعادة إنتاج ماضيها من ذي قبل..
وإذ نطمئن أنفسنا أن تلك الإرادات ليست قادرة على النفاذ إلا بإرادة الله، وبتقديره، وطبقاً لسننه التي لا تتبدل ولا تتحول؛ فإن من واجبنا أن نقرأ تلك الرؤى والمخططات التي تراد لنا في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة.

ونحن للأسف نعاني دوماً من مشكلتين مترادفتين في مثل هذه الأحوال، إحداهما هي مشكلة القراءة المتأخرة للأحداث، والثانية هي عدم القدرة على التصدي لتلك المخططات لفروق القوى المختلفة والعجز عن بلورة مواقف وحدوية أممية حيالها.

وفي الملمح الرئيس للمشهد نرى المنطقة آخذة في الضعف بسبب معاركها المتجددة، والتي لن يخرج منها أي طرف رابح مهما اتخذ بعض قطاعات شعوبنا خيارها في تأييد هذ الطرف أو ذاك؛ فالحالة السورية لا تبدو مبشرة على أي جنب استقرت؛ فإذا ما وقعت الضربة الغربية فآخر ما يمكن أن تستهدفه هو الرئيس الدموي بشار الأسد ونظامه الفاشي، وإذا ما فعلت فإن حصاد ضربتها لن يوضع في سلال الثوار الحقيقيين الذين رووا الأرض السورية الطيبة بدمائهم الطاهرة، وإنما أذناب للغرب جدد يتهيؤون لقطف ثمار جهد عامين من الضنى والألم، وإذا لم تقع فالقتل مستحر والدم نازف والمجازر ستكتسب زخماً ودعماً قويين ما إدراك نظام بشار أنه يتمتع بحصانة كبيرة لا تقل في حجمها عن حصانة الكيان الصهيوني وقادته ضد المساءلة والعقاب.

ومصر وتونس وليبيا دول تتضرر بالغًا بأزماتها الاقتصادية الناجمة عن استمرار الصراع بين المشروعين الإسلامي والعلماني والذي لا يتوقع أن يحسم لأي طرف كان قريباً، وبالتالي يبقى الاستنزاف قائماً والإضعاف شغل المبطلين وهدفهم، مهما ألقى كل طرف بالمسؤولية على الآخر؛ فالحاصل في الأخير أن تلك الدول ستخرج من محنتها وهي مهيضة الجناح تتكفف العالم، وهو إن أعطى فلن يفعل دونما ثمن باهظ؛ فكلما صارت الدول مثقلة بالديون كلما كانت عرضة للابتزاز وإلغاء (السيادة) كلية.

والسودان حيث يستمر صراعه بين الشمال والجنوب ينتقص كثيراً من قدرته على اجتياز محنة التقسيم والخروج منها بأقل الخسائر، والصراع إن اشتعل بين حكومة غزة والسلطات المصرية فسيفضي إلى إضعاف الطرفين معاً.

والرابح في كل هذا هو الكيان الصهيوني وداعموه الغربيون، والحاذق من يفرز بين حالات الصراع، ما يمكن حسمه وما يجر إليه لاستنزافه وحسب دونما تحقيق نصر، وإذا كان ثمة طرف لا يستنكف عن تقديم كل ما لديه لآمريه الغربيين؛ فإن طرفاً مستقلاً يمكنه أن يعيد النظر في خريطة المنطقة كلها ليحسم خياراته، أين يتموضع هو، وكيف سيتموضع الآخرون في الإقليم كله، وما خياراته المتاحة في كل ما يستقبل من أحداث لا يصنعها بالضرورة بل تفرض عليه...
ومن هنا تبرز أهمية القراءات العلمية الدقيقة لمستقبل المنطقة قفزًا نحو المستقبل دونما مغادرة لأرض الميدان الحالي، وهذا دور المفكرين والمنظرين، وواجبهم أن يضطلعوا به الآن وليس غداً.
 

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢