أرشيف المقالات

نظرية الفجورالسياسي

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .

عبَّر الدكتور فريد الأنصاري عن نظرته لطبيعة التدافع بين المشروع الإسلامي والعلماني، عبر سلسلة من الحلقات الأسبوعية نشرت في بداية سنة 1999م، على صفحات أسبوعية التجديد لسان حركة التوحيد والإصلاح، وقد عُنوِنَت هذه السلسة من المقالات بـ (الفجور السياسي) (نشرت نظرية الفجور السياسي على صفحات أسبوعية التجديد لسان حركة التوحيد والإصلاح في ست حلقات ضمن نصف صفحة خصصت للراحل فريد معنونة [فقه الدعوة : التدين أولًا] ما بين 20بتاريخ 07 أبريل 1999.و ص 13 بتاريخ 02 يونيو 1999).
ثم جمعت وطبعت لاحقاً في كتيب من الحجم الصغير.

وفي تشخيصه للحالة السياسية المغربية، يرى أنها -أي نظرية الفجور السياسي- حالة أيديولوجية (الفجور السياسي خيار الجبهة العلمانية /الفرنكفونية بالمغرب، التجديد عدد 11 ص 15 بتاريخ 07 أبريل 1999) لحماية الوضع الفاسد وضمان استمراره واتساع رقعته وتعميق جذوره في المجتمع حتى تتمكن من ضمان مصالحها، والعمل على قلب الموازين، وقتل الحاسة النقدية في المجتمع.

وهكذا يبدو الفرق بين الفجور الطبيعي والفجور السياسي: أن الأول استجابة للرغبة الذاتية الحيوانية للفساد بصورة مستهترة وانجـراف قـوي لداعـي الهـوى.
أما الثاني -أي الفجور السياسي- فهو فلسفة للفجور وممارسته ثقافة وأخلاقاً أولاً، ومدافعته جبهة الصلاح ثانياً من خلال ترسيخ فلسفة الانحلال في المجتمع وتشويه السلوك الصالح السليم؛ وذلك باستغلال طاقة الفجور الطبيعي في النفس الإنسانية ودعوتها إلى التحدي.

الفجور سياسي إستراتيجية لمكافحة المدِّ الإسلامي:

ولكن من يقف محركاً للظاهرة؟ ولصالح من؟

يجيب الدكتور الأنصاري بأن هناك طرفين اثنين يقفان وراء الظاهرة ويختلفان باختلاف الموقع والتوازنات السياسية: الطبقة العلمانية الفرانكفونية النافذة، ثم النظام السياسي الرسمي.

موضحاً أن الفجور السياسي قد اتخذ صورة خاصة.
وهي التمكين للفساد الخُلُقي (الفجور السياسي- التجديد، عدد 14، ص14 بتاريخ 28 أبريل 1999م) والدعاية له بوسائل شتى، متخندقاً في جبهة واحدة رغم تعدد أصنافه واتجاهاته؛ لتحقيق أهداف مهما بدت كثيرة إلا أنها تؤول في النهاية إلى مآل واحد وهدف وحيد؛ ألا وهو محاصرة الصحوة الإسلامية باعتبارها توجهاً سياسياً، أو ذات بُعْد سياسي.
فالحركة الإسلامية بطبعها لا يمكن أن تنتعش في مجتمع فاجر مستهتر بالقيم غارق في شهواته إلى درجة أنه لا يستسيغ الخطاب الخُلُقي ولا أذنَ له لسماعه.
إن عمل الحركة الإسلامية في مجتمع كهذا يعني الفشـل الذريع؛ فلا بد أولاً من قابلية للاستماع قبل الاستجابة.

وقد رأينا هذه الإستراتيجية مطبَّقة في بعض البلاد الإسلامية (عربية وغير عربية) تحت ما اشتهر باسم (سياسية تجفيف منابع التطرف الديني).
والحقيقة أن الذي تجففت منابعه هو التدين نفسه لا التطرف.
وإذا كانت بعض البلاد العربية والإسلامية قد اختارت الأسلوب الدموي المتخلف لقمع حركة التدين في المجتمع، أو أسلوب القانون العسكري، فإن بعضها قد اختار الأسلوب الاجتماعي السياسي للقضاء على حركة الوعي الإسلامي.
ولعل هذا الأسلوب الأخير أخطرها جميعًا وأكثرها فعالية في بلوغ هدفه بأقل الخسائر.

والمغرب واحد من البلاد الإسلامية التي قامت سياسته الرسمية على هذا المنهج؛ بل لعله من الرواد في هذا المجال، لاعتماده على هذا الخيار السياسي بشكل يكاد يكون أحادياً، والمراهنة عليه وحدَه تقريباً بصورة واضحة وعلنية.
ويزيد هذا الهامش خطورة عندما يسمح بهامش ضئيل من التدين المشوَّه للناس، وحينما يستقرئ الدارس سائر التعليلات الرسمية المطمئنة بأن المغرب لن يعرف ظاهرة التطرف الديني، يجد أنها كلها ترجع إلى أمرين اثنين:

الأول: التذكير بهامش التدين المسموح به في المجتمع.
وهو هامش شعاري أكثر منه ممارسة، وأغلب المُمارَس منه يصنف في إطار التدين المنحرف: من طرقية، وعقائد خرافية لا علاقة لها بالدين، ومن هنا التشجيع الرسمي لمواسم الأضرحة، والطرق البدعية المبنية على الدجل والشعوذة (كان في الماضي أما الآن فقد تضاعف الدعم الرسمي للمواسم بشكل كبير).

الثاني: أن هذه الرغبة في تدنيس المجتمع، هي غاية سياسية متعددة لعدة جهات في المغرب، منها ما هو رسمي ومنه ما هو حزبي أو حتى ثقافي.
فمهما اختلفت هذه الجهات أو تعارضت مصالحها الجزئية، فإنها تؤول في النهاية إلى مآل واحد.

لقد كانت الايديولوجية الماركسية بشتى صورها العدو الأول للدّين والتدين في المجتمعات الإسلامية.
وكانت الأحزاب تقود حملة الفجور السياسي، لكن تغيُّر الأوضاع الدولية وتحول العالم إلى الأحادية القطبية، والهيمنة الليبرالية الأمريكية، حول المواجهة إلى المجال الثقافي الحضاري.

مظاهر الفجور السياسي:

يقرر الأستاذ الأنصاري سلفاً أنه يصعب تحديد مظاهر الفجور السياسي بشكل دقيق، ولكن يضرب أمثلة ويطرح نماذج من كل صنف مكتفياً باستقراء لجزئياتها ليخلص إلى دليل قطعي يدين فيه الواقع السياسي الرسمي والحزبي:

1- المستوى التعليمي:

لعلّ أهم ما يمكن رصده في المجالين (التعليمي والثقافي) هو السيطرة الفرانكفونية على الوضع مطلقاً (ظاهر الفجور السياسي بالمغرب- التجديد، ع15، ص 17 بتاريخ 5 ماي 1999م)؛ فالتعليم لم يستطع أن يتخلص من عقدة الفرنسية.

إن مناهج التعليم المزدوجة هذه، هي التي خلقت لنا طبقة المثقفين المنحرفين والأدباء الإباحيين؛ فلا تقرأ في المغرب من الشعر والرواية إلا ما يمجِّد السقوط ويكشف العورات.
أما العالمية فهي بين أحد أمرين: إما أن تكتب بالفرنسية، وإما أن يقيض الله لك من يترجم لك إلى الفرنسية على مقدار ما كشفت من مخبوء.

إن الأدب الفرنسي الذي يكتبه مغاربة، أدب خائن بالمعنى الوطني والحضاري للكلمة، إنه يكشف لهم عوراتنا! أو في أحسن الأحوال يقدمنا لهم مادةً سياحية غرائبية مسلية؛ لإرضاء شهوة الفرنسي المستعلية.

إن المثقف المغربي المفرنَس يعاني من وطء الكلمات الفرنسية العارية التي تدعوه إلى ربط كل شيء في الحياة بالجنس، وإنه لا يستطيع التخلص من ذلك لو أخلص النية إلا بعد مكابدة وعذاب شديدين.

إن المشكل الثقافي الأول بالمغرب إنما يكمن في هذا الانبطاح المخزي لكل ما هو فرنسي، وها هي ذي الجهات الرسمية ما تزال أحرص ما تكون على تمجيد المنتج الثقافي الفرانكفوني.

2- المستوى الإعلامي:

فقد قطع أشواطاً بعيدة في الجرأة على كشف العورات وعرض المحرمات.
ولقد صارت مشاهدة التلفزيون المغربي بقناتيه في وسط العائلة من المحرجات والمخزيات.
وبغضِّ النظر عما ترسخه الصورة العارية والكلمة العارية في النفس من انحراف داخل الأسرة المغربية المستسلمة للمخدر الإعلامي.
فإن الخطر الأكبر يكمن في خرم مفاهيم الحياء والكرامة والأعراض؛ وذلك هو الطريق المعبد لضياع مفهوم الأسرة.

3- المستوى الفني:

وهو لاحق بالمستوى التعليمي والإعلامي لما للفن من ارتباط بوسائل الإعلام المرئية، وما تلعبه هذه من دور في إشهارها، ولولاه لما كان له أثر يذكر في المجتمع.
ونخص بالذكر ها هنا ثلاثة أصناف، هي: الفيلم، والمسرحية، والأغنية؛ ذلك أن الفساد الذي طرأ على هذه الأصناف لم يطرأ على أي صنف من أصناف الفنون (التجديد، ع 16، ص13 بتاريخ 12 ماي 1999م):

1- السينما:

إن السينما قد تطورت من حيث الإنتاج والاستهلاك معاً، سواء ما عرض منها في دور السينما أو ما يعرَض على جهاز التلفزيون.
وتطورها بالطبع نحو الأسوأ.
وأذكر أن دُور السينما بالمغرب كانت تتداول أصنافاً ثلاثة من الأفلام: الفيلم الأمريكي الرعوي الكاوبوي وهو استعراض القوة على الطريقة الأمريكية قبل ظهور أفلام رامبو، ثم الفيلم الهندي القصصي، وأخيراً أفلام (الكاراتيه) وفنون القتال الرياضي؛ ثم قاعات قليلة ولكنها موجودة تكاد تكون متخصصة في عرض أفلام الجنس ولكنها تفعل ذلك في تستر واستحياء.
ثم جاء عهد التسعينيات فصارت أغلب دور السينما إن لم نقل جميعها متخصصة في عرض أفلام الجنس والخلاعة.
هذا في بلد فيه شيء اسمه المركز السينمائي المغربي يفترض فيه أنه يشرف على ما يعرَض على أبناء المسلمين.

2- المسرحية والأغنية:

أما المسرحية وخاصة ما تعرضه التلفزة المغربية فهي في غالبها ساقطة من الناحية الفنية المحضة (نصاً وإخراجاً).
وأما الأغنية فقد هبطت إلى الدرك الأسفل من كل ذلك؛ وذلك من ناحيتين:

الأولى: ليس فساد المضمون فحسب ولكن انعدامه.
إن ما تنتجه الحناجر المغربية اليوم هو في غالبه ضرب من الهيستريا، ويمكن أن نطلق عليه اللامعنى، واللامعنى هذا مفهوم سياسي بالدرجة الأولى؛ إنه الرغبة السياسية في صناعة جيل لا معنى له، جيل لا يفهم شيئاً ولا يسأل عن شيء.
وإن المعنى مهما فسد فيمكن أن يتحسن يوماً ما.
أما اللامعنى فهو العبث أو الموت الذي لا حياة بعده.

4- المستوى الاجتماعي

يحدد الدكتور الأنصاري مجال تناوله للمجال الاجتماعي في ثلاثة عناصر، هي: المرأة والأسرة والشارع.

1- المرأة:

هي المحور الأول والأساس الذي يقوم عليه المحور التفسيقي السياسي بكل اتجاهاته (خصص الدكتور الأنصاري لهذا الموضوع كتاباً مستقلاً عنون له بـ [سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة])، وفي هذه القضية بالضبط تلتقي هذه الاتجاهات كلُّها مع المشروع الصهيوني.

إن ما سمي مغالطة بحُريَّة المرأة، لم يكن القصد منه كما تدل على ذلك دلائل الواقع الممارس عند هؤلاء وكذا تنظيراتهم وتصريحاتهم إلا اعتقال المرأة في حدود جسدها.
إن المرأة في النظرية الليبرالية ليست إلا متعة مطلقة من أي قيد؛ إنها مشاع جنسي.

وأحسب أن الشيوعية لم تلتقِ مع الرأسمالية كنظرية اجتماعية كما التقت معها في قضية المرأة.

وإنها بعد ذلك لأداة وأي أداة لتفسيق المجتمع.
ولقد أجمع عليها المثقفون المنظرون والساسة الممارسون.
حتى إن قياس التطرف الديني في بلد ما صار يقاس بمدى حرية المرأة في ذلك البلد، وما تصريحات مسؤولينا عنا ببعيد.

3- الأسرة:

ويكفي أن أشير -الكلام دائماً للأستاذ الأنصاري- إلى أن الأسرة هي المحضن الوحيد للتدين عندما تفسد كل المحاضن الاجتماعية.
إن الأسرة هي المقر الأمين لاستمرار التدين في الناس ومن هنا كان هدمها إنما هو هدم لآخر معاقل الدين في المجتمع.

فانظر أيَّ خطر تحتوي عليه دعوى تغيير مدونة الأحوال الشخصية (كان هذا قبل إقرار قانون مدونة الأسرة سنة 2004م.
التي صادق عليها البرلمان المغربي في فبراير 2006م)
.
إن المسألة ليست في الطلاق بيد من يكون؟ ولا في النفقة كيف يجب أن تفرَض؟ ولا في القوامة متى تبدأ ومتى تنتهي؟ ولا في العدل بين الزوجين، كيف يطبق كل ذلك؟ إنما هو أعراض للقضية وليس جوهراً فيها؛ لأن الاجتهاد الشرعي قمين بمراجعة كل ذلك.

إن الجبهة العلمانية إذ ترفع شعارات مثل هذه وأكثر؛ إنما تعمل على هدم المحضن الوحيد الأكثر فعالية والأكثر دفئاً وأمناً للتدين في المجتمع إن الأسرة إذن هي حصن الحركة الإسلامية الممتاز، الذي إن انهدم فلا انتظار بعده (التجديد، ع 18،ص15 بتاريخ 26 ماي 1999م).

3- الشارع:

وهو في الحقيقة إفراز الفساد في ما سبق من عناصر تعليمية، وثقافية، وفنية، وإعلانية، واجتماعية.
إنه صالة العرض الدائمة لكل ما ذُكِر وغيره؛ ولذلك فإن إشاعة الفاحشة فيه مقصد سياسي لتكريس منتجات الفجور المؤسسي من ناحية، ولتعويد العين الاجتماعية على مظاهره المقرفة حتى يصبح من المألوف اليومي، فلا تستنكر بعد ذلك فعلياً ثم شعورياً، وهو معنى التطبيع النفسي مع المنكر.

إن الناظر في كبريات مظاهر المنكر في الشارع كمفهوم اجتماعي يجدها منحصرة في الأمور التالية وما سواها يمكن ردُّه إليها وهي: الموضة والخدنية، واللغة، والخمارة، والنوادي الليلية.

كان هذا عرضاً موجزاً لأهم معالم نظرية الفجور السياسي التي هي في الأساس سياسة القصدُ منها الحد من تنامي الصحوة الإسلامية، ومن جهة أخرى ضبط التوازنات عبر آليات الحقل والحقل المضاد، وهي تفسير عملي وعلمي لواقع التدافع في المغرب بين المشروع الحركي الإسلامي والمشروع السياسي بشقيه (الرسمي والعلماني).
 

شارك الخبر

المرئيات-١