الأخوة الضائعة، وعقيدة الولاء الغائبة!!
مدة
قراءة المادة :
27 دقائق
.
الحمد لله الذي جعل الدين قواماً، ومحمداً صلى الله عليه وسلم للمرسلين خاتماً وإماماً، وجعل المسلمين إخواناً.
أمَّا بعد..
فقد عاد الإسلام غريباً كما بدأ غريباً، بل أشد غربة مما بدأ كما تنبأ بذلك الصادق المصدوق: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء» (مسلم - كتاب الإيمان ).
فحاجة المسلمين اليوم لبعث الأخوة الإيمانية الضائعة، ولإحياء عقيدة الولاء والبراء الغائبة لا تدانيها حاجة الجيل الأول، وذلك لالتزامهم بالأخوة الإيمانية وتحقيقهم للموالاة الربانية.
لقد وصف الله عز وجل المؤمنين بأنهم أخوة فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
قال القرطبي رحمه الله في تأويلها: "أي في الدين والحرمة لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإنَّ أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بأخوة النسب" (الجامع لأحكام القرآن جـ [16/322]- [323]).
وقرر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة الإيمانية وأكد عليها في عدد من الأحاديث، هذا بجانب تحقيقه لها عملياً حينما آخى بين المهاجرين الذين هجروا أهليهم، وأموالهم، وأوطانهم ابتغاء مرضاة الله، والأنصار الذين استقبلوا هؤلاء المهاجرين بأريحية وسعة صدر وقاسموهم أموالهم، بل منهم من أراد أن يُقاسم أخاه أزواجه أول قدومـه المدينـة، ولهذا مدحهم الله بقرآن يُتلى إلى يوم القيامة : {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
أمَّا الأحاديث فإليك طرفاً منها:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» (متفق عليه، مسلم رقم [2580]).
2- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله -أي لا يترك نصرته- كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه، التقوى هاهنا، بحسب -يكفي- امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» (الترمذي رقم [1928]، وقال محقق رياض الصالحين ص [109]، صحيح).
3- وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، وشبّك بين أصابعه (متفق عليه، مسلم رقم [2528]).
4- وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن أخ المؤمن، فلا يحل لمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خِطبة أخيه حتى يذر» (مسلم رقم [1414]).
5- وعن أبي هريرة يرفعه: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً» (مسلم رقم [2564]).
6- وعن أنس يرفعه: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (متفق عليه، مسلم رقم [45])، وفي رواية «لجاره»: "المنفي هنا هو كمال الإيمان لا أصله".
7- وعن أنس يرفعه كذلك: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»، فقال رجل: يا رسول الله انصره إذا كان مظلوماً، أرأيت إن كان ظالماً كيف انصره؟ قال: «تحجره أو تمنعه من الظلم فإنَّ ذلك نصره» (أخرجه البخاري ).
8- وعن أبي هريرة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة ، وتشميت العاطس» (متفق عليه، مسلم رقم [2162])، زاد مسلم: «وإذا استنصحك فانصح له».
9- وعن النعمان بن بشير يرفعه: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (متفق عليه، مسلم رقم [2586]).
10- وعن أبي هريرة يرفعه: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يعيبه، ولا يخذله، ولا يتطاول عليه في البنيان، فيستر عليه الريـح إلاَّ بإذنه، ولا يؤذيه بقتارة قِدْرِه -رائحة طعامه- إلاَّ أن يغرف له غرفة، ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها» (متفق عليه).
11- وعن أبي هريرة يرفعه: «المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه» (أبو داود في باب النصيحة).
12- عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن يُنْتَقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلاَّ خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موطن يُنتَقص فيه من عرضه، ويُنتَهك فيه من حرمته إلاَّ نصره الله في موطن يحب فيه نصرته» (قال الهيثمي في مجمع الزوائد جـ [7/270]: رواه أبو داود، ورواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن).
13- وعن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أُذل عنده مؤمن فلم ينصره، وهو قادر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة» (قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، وفيه ابن لهيعة، وهو حسن الحديث وفيه ضعف).
- حقوق المسلم على أخيه المسلم بموجب هذه الأخوة الإيمانية:
حقوق المسلم على أخيه المسلم التي كفلها له الشارع كثيرة جداً، وعظيمة حقاً، لو التزمها المسلمون أو بعضها، لسعدوا في الدنيا والآخرة، ولما أصابهم الذي أصابهم من الذل والهوان وتداعي قوى الشر عليهم من كل ناحية، ولما سادت بينهم هذه الإحن، والأحقاد، والخصومات.
هذه الحقوق تنقسم إلى قسمين، من حيث ماهيتها:
1- حقوق عينية على من يلي المسلم، من إخوانه المسلمين بقرابة، أو جوار، أو تقوى، أو صلاح وعلم.
2- وحقوق كفائية على من بعد منه.
وتنقسم إلى أربعة أنواع من حيث خطورتها وأهميتها، هي:
أ- حقوق شخصية: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه».
ب- حقوق النصرة:
يجب على كل مسلم أن يُوالي أي مسلم مهما كان، حسب التزامه بالشرع، فمن كان ملتزماً، يوالى موالاة كاملة، ومن ضعف التزامه، يُوالى ولو بنطقه للشهادتين وعدم إتيانه بناقض من نواقض الإسلام: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا» (أخرجه البخاري في كتاب الصلاة).
ويندرج تحت عقيدة الولاء هذه أمور، أهمها:
1- نصرته.
2- وعدم خذلانه.
3- عدم تسلميه لأعدائه من الكفار.
4- عدم تسليمه لحاكم طاغية ظالم.
5- عدم التجسس عليه إن كان مستور الحال، سِيما العلماء ، وذوي الهيئات.
6- عدم إعانة المشركين والكفار عليه.
ج- حقوق كفائية:
إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وإذا تواطأت الأمة على تركها أو بعضها أثمت:
1- السلام عليه، ورد السلام.
2- عيادة المريض.
3- تشميت العاطس.
4- إجابة دعوته سيما دعوة العرس وغيرها، مالم يكن مانع من ذلك.
5- تشييعه إذا مات.
6- الصلاة عليه.
7- تعزيته.
8- تهنئته بالأفراح.
9- ومواساته في الأتراح.
10- نصحه.
11- الإصلاح بين المتخاصمين.
د- حقوق التكافل والمواساة:
التكافل والمواساة، يكون بالمال وبالسؤال عن الحال، والدعاء، وبالاهتمام بأمر المسلمين كافة.
أولى المسملين بذلك هم:
1- الأقارب.
2- الجيران.
3- الأيتام والأرامل.
4- الفقراء والمساكين.
5- والعلماء وطلاب العلم .
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: إنَّ خليلي أوصاني: «إذا طبختَ مرقاً فأكثر ماءه، ثمًّ انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منه بمعروف».
وفي رواية: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» (مسلم رقم [142]، [143]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المسلمات لا تحقرنَّ جارة لجارتها، ولو فِرْسِنَ شاة» (متفق عليه، مسلم رقم [1030]).
وعنه رضي الله عنه يرفعه: «لا يمنع جار جاره أنْ يغرز خشبة في جداره»، ثم يقول أبو هريرة: "مالي أراكم عنها معرضين! والله لأرميِنِ بها بين أكتافكم" (متفق عليه، مسلم رقم [1609]).
لقد أجمل هذه الحقوق ابن مفلح فقال: "ومما للمسلم على المسلم: أن يستر عورته، ويغفر زلته، ويديم نصيحته، ويرد غيبته، ويرحم عبْرته، ويقبل معذرته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافئ صلته، ويشكر نعمته، ويواليه ولا يعاديه، ويحسن نصرته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويشمت عطسته، ويرد ضالته، وينصره على ظالمه، ويكفه عن ظلمه غيره، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه" (الآداب الشرعية لابن مفلح - ذكر ذلك في الرعاية ج [1/305]).
لا شك أن هذه الحقوق أو جلها، سيما حقوق النصرة والاستغاثة، وحقوق التكافل والمواساة، ضائعة كلها أو جلها إلاَّ القليل النادر، وسبب كل ذلك إغفال المسلمين وإهمالهم لهذه الأخوة الإيمانية، وضياعهم وتفريطهم في عقيدة الولاء والبراء التي كانت سبباً رئيساً بعد الله عز وجل في عِزَّة المسلمين، وتوحيد كلمتهم وإرهابهم لعدوهم.
فمن الآن للمستغيثين والمستغيثات سوى رب البريات، بينما جل المسلمين الآن يستغيثون، وهم مهضوموا الحقوق، مكسوروا الأجنحة؟!
أنَّى اتجهت إلى الإسلام في بلد *** تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
كم صرفتنا يد كنَّا نصرفها *** وبات يحكمنا شعب ملكناه
فما أكثر المستغيثين والمستغيثات، وما أقل وأندر أصحاب المروءات والقلوب الرحيمة والنفوس الأبية، لقد حلّت الأثرة والأنانية محل الإيثار، فأصبح الكثيرون شعارهم: نفسي نفسي.
بينما أهل المروءة في انقراض، نجد أن أهل الصفاقة والأثرة في ازدياد حتى شكت المروءة موت أبنائها، ولله در القائل:
مررتُ بالمروءة وهي تبكي *** فقلت على ما تبكي الفتاة؟
فقالت مالي لا أبكي وأهلي *** كلهم دون خلق الله ماتوا
لقد صوَّر عمر أبو ريشة الصمم الذي أصاب آذان جل حُكّامنا عن هذه الاستغاثات قائلاً:
رُبّ وامعتصماه انطلقت *** ملأ أفواه الصبايا اليُتَّم
لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة المعتصم
الكفار الآن ينتهكون سيادة بعض الدول إن كانت لها سيادة كأفغانستان، وباكستان، واليمن، والسودان، وليبيا، حيث يرسلون طائرات بدون طيَّار تقتل عشوائياً في كثير من الأحيان، فقد راح ضحية ذلك أكثر من ألفي قتيل من النساء والأطفال حسب احصائية أمريكية، هذا بعد أن غزوا واستلبوا أفغانستان، وعراق العروبة والإسلام، وحكَّموا فيها نفراً من عملائهم اللئام، وتفرجهم على إيران، وحزب الشيطان في لبنان، والشيعة في العراق بمعاونة روسيا والصين، يقتلون ويدمرون أهل السنة في بلاد الشام ولا حياة لمن تنادي.
عليك أن تقارن أخي الحبيب بين هذه الحال التي يعيشها المسلمون في هذا العصر، وبين ما كان عليه بعض حكام المسلمين في الماضي، فبضدها تتميز الأشياء.
إغاثة الحَكَم بن هشام بن عبدالرحمن الناصر رحمه الله لامرأة واحدة:
قال ابن عذاري في [البيان المعرب جـ [2/72-75]): "وفي سنة أربع وتسعين ومائة، غزا الحَكَم إلى أرض الشرك، وكان السبب في هذه الغزاة أن عباس بن ناصح الشاعر كان بمدينة (الفَرَج)، وهي وادي الحجارة، وكان العدو -بسبب اشتغال الحكم بـ (مادرة) وتوجيه الصوائف (الغزوات التي تكون في فصل الصيف) إليها مدة من سبع أعوام- كان العدو قد عظمت شوكته، وقويَ أمره، فشن الغارات في أطراف الثغور، يسبي ويقتل، وسمع العباس بن ناصح امرأة من ناحية وادي الحجارة تقول: واغوثاه يا حَكَم! قد ضيعتنا، وأسلمتنا، واشتغلت عنَّا، حتى استأسد العدو علينا!، فلما وفد عباس إلى الحكم، رفع إليه شعراً يستصرخه فيه، ويذكر قول المرأة واستصراخها به، وأنهى إليه عباس ما عليه الثغر من الوهن والتياث الحال -سوءها وتغيرها- فرثى الحكم للمسلمين، وحميَ لنصرة الدين، وأمر بالاستعداد للجهاد، وخرج غازياً إلى أرض الشرك، فأوغل في بلادهم، وفتح الحصون، وهدم المنازل، وقتل كثيراً، وأسر كذلك، وقفل -توجه- على الناحية التي كانت فيها المرأة، وأمر لأهل تلك الناحية بمال من الغنائم، يصلحون به أحوالهم ويفدون سباياهم، وخص المرأة وآثرها، وأعطاهم عدداً من الأسرى عوناً، وأمر بضرب رقاب باقيهم، وقال لأهل تلك الناحية وللمرأة: هل أغاثكم الحكم؟ قالوا: شفا والله الصدور، ونكي في العدو، وما غفل عنَّا إذ بلغه أمرنا!، فأغاثه الله وأعزَّ نصر" (نقلاً عن التاريخ الإسلامي عظات وعبر، للدكتور عبد العزيز الحميدي جـ [7/317] - [318]).
ما بال بعض الموسرين الأخيار، يفضلون الحج والاعتمار وغيرهما من فضائل الأعمال، على مواساة إخوانهم المعوزين، وكفالة الأيامى والأيتام؟!
بسبب تفشي العقدية الخبيثة في المسلمين -عقيدة الإرجاء- وغياب عقيدة الولاء والبراء، وذهاب الأخوة الإيمانية، وتولي النخوة العربية، ذهل وغفل جل المسلمين عن أهمية التكافل والتراحم والمواساة لإخوانهم الضعفاء والمساكين والفقراء والمنكوبين مثل غفلتهم عن نصرة المستغيثين سواء بسواء، ولم يفلت من ذلك حتى بعض الموسرين الفضلاء، حيث أضحى كثير منهم يفضل التطوع بالحج والعمرة وغيرهما من نوافل الأعمال، ويغفل عن مواساة المعوزين من إخوان العقيدة بل وعن أقرب الأقربين إليه وطلاب العلم الصلحاء، بينما كان سلفنا الصالح -سيما العلماء- يحثون ويشجعون ويدعون إلى التكافل والمواساة بالقول والفعل.
وإليك هذين النموذجين من هذا السلوك الإسلامي، الإنساني الفريد:
1- عبد الله بن المبارك رحمه الله، يدع الحج، ويتبرع بكل نفقته لأسرة معوزة:
قال القاضي عياض رحمه الله: "رُويَ أن عبد الله بن المبارك دخل الكوفة، وهو يريد الحج، فإذا بامرأة جالسة على مزبلة وهي تنتف بطة، فوقع في نفسه أنها ميتة، فوقف على بغلة، وقال لها: ما هذه البطة، أميتة أم مذبوحة؟ قالت: ميتة، قال: فَلِمَ تنتفيها؟ قالت: لآكلها أنا وعيالي، فقال لها: يا هذه إنَّ الله حرَّم عليك الميتة، وأنت في بلد مثل هذا؟ قالت: يا هذا انصرف عني، فلم يزل يراجعها الكلام وتراجعه، إلى أن قال: وأين تنزلين من الكوفة؟ قالت: في قبيلة بني فلان، فقال لها: وبأي شيء نعرف داركم؟ قالت: ببني فلان، فقفل عنها، وسار إلى الخان -بمنزلة الفندق الآن- ثمَّ سأل عن القبيلة، فدلوه عليها، فقال لرجل لك عليَّ درهم وتعالى معي إلى الموضع.
فمضى حتى انتهى إلى القبيلة التي ذكرت المرأة، فقال للرجل: انصرف، ثمَّ دنا إلى الباب فقرع الباب بمقرعة -عصاة- كانت معه، فقالت العجوز: من هذا؟ فقال: افتحي الباب، ففتحت بعضه، فقال: افتحيه كله، ففتحته كله، ثمَّ نزل عن البغل، ثمَّ ضربه بالمقرعة فدخل البغل إلى الدار، ثمَّ قال للمرأة، هذا البغل وما عليه من النفقة والكسوة والزاد فهو لكم، وأنتِ منه في حِلّ الدنيا والآخرة.
ثمَّ جلس ابن المبارك مختفياً حتى رجع الناس من الحج، فجاءه قوم من أهل بلده يسلمون عليه ويهنئونه بالحج، فأقبل يقول لهم: إنه كان بي علة ولم أحج هذه السنة، فقال بعضهم: يا سبحان الله، ألم أوادعك نفقتي، ونحن بمنى، ونحن نذهب إلى عرفات؟ وآخر يقول: ألم تشتر لي كذا؟ فأقبل يقول: لا أدري ما تقولون، أمَّا أنا فلم أحج في هذا العام.
فرأى في الليل في منامه آتٍ، فقال: يا أبا عبد الرحمن، أبشر فإنَّ الله قد قبل صدقتك، وبعث ملكاً على صورتك فحج عنك" (ترتيب المدارك للقاضي عيَّاض جـ [1/171] - [172]).
2- بِشْر بن الحارث -الحافي- ينصح حاجاً بترك الحج وأن يتبرع بنفقة الحج على الفقراء والمساكين:
"روى أبو النصر التمار أن رجلاً جاء يودع بِشْر بن الحارث، وقال: قد عزمت على الحج أفتأمرني بشيء؟ فقال له بشر: كم أعددت للنفقة؟ قال: ألفي درهم، فقال: فأي شيء تبتغي بحجك، نزهة، أو اشتياقاً إلى البيت، أو ابتغاء مرضاة الله عز وجل؟ قال: ابتغاء مرضاة الله عز وجل، قال: فإن أصبت مرضاة الله وأنت في منزلك، وتنفق ألفي درهم، وتكون على يقين من مرضاة الله عز وجل، تفعل؟ قال: نعم، قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس.
مَدين يقضي دينه.
وفقير يرم شعثه.
ومعيل يحي عياله.
ومربي يتيم يفرحه.
وإن قوى قلبك أن تعطها لواحد فافعل، فإنَّ ادخالك السرور على قلب امرئ مسلم، وتغيث لهفان، وتكشف ضر محتاج، وتعين رجلاً ضعيف اليقين ، أفضل لك من مائة حجة بعد حجة الإسلام، قمْ فأخرجها كما أمرناك، وإلاَّ قل لنا ما في قلبك؟، فقال: يا أبا نصر، سفري أقوى في قلبي، فتبسم بشر وأقبل عليه، وقال له: المال إذا كان من وسخ التجارات والشبهات، اقتضت النفس إلى أن تقضي به وطراً يشرع إليه فظاهرت أعمال الصالحات، وقد آلى الله على نفسه ألا يقبل إلاَّ عمل يقين" (الوعظ المطلوب من قوت القلوب للقاسمي الدمشقي ص [98-99]).
وقيل لبِشْر أيضاً: "إن فلاناً الغني كثير الصوم والصلاة، فقال، المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره، إنما حال هذا -أي الذي يناسبه- إطعام الطعام للجياع، والإنفاق على المساكين، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه مع جمعه للدنيا، ومنعه للفقراء".
لو لم يرد من الوعيد في خذلان وعدم نصرة وإغاثة المظلوم إلاَّ هذا الحديث، لكفى.
ويل للقاسية قلوبهم، الغليظة أكبادهم، المتبلدة مشاعرهم وإحساسهم، المحرومين من رحمة الله : «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء..» (من حديثٍ رواه أبو داود والترمذي)، ويلٌ ثمَّ ويلٌ لمن يكذب بالدين، ويدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فليبشروا بخذلان الله لهم، وعدم نصرته إياهم في {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ .
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ .
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34-36]، لخذلانهم لإخوانهم في الدنيا وهم قادرون على ذلك.
وابشروا أيها الرحماء المواسون، والمغيثون لإخوانكم الضعفاء المظلومين، برحمة من في السماء، وبنصره الموعود في دار اللقاء.
عن جابر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل مسلماً في موطن يُنْتَقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلاَّ خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر مسلماً في موطن يُنتَقص فيه من عرضه، ويُنتَهك فيه من حرمته إلاَّ نصره الله في موطن يحب فيه نصرته».
أود أن أختم هذا البحث بموقف فريد لأحد الصحابة الزهاد النبلاء، فهو نسيج وحده وفريد عصره وهو سعيد بن عامر، حيث لم يستطع نصرة خُبَيْب بن عدي حين بَضَعت قريش بطنه وكان مشركاً، كلما ذكر ذلك تصيبه غنطة -وهي أشد الكرب والجهد- لأنه كان يخشى أن لا يغفر الله له هذا الموقف، فيُعاقب عليه.
روى الإمام ابن الجوزي قائلاً: "وعن خالد بن معدان، قال: استعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحمص سعيد بن عامر الجمحي، فلما قدم عمر حمص، قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه، وكان يُقال لأهل حمص الكوفية الصغرى لشكايتهم العمال.
قال: نشكو أربعاً:
- لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها، قال: وماذا؟
- قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: عظيمة، وماذا؟
- قالوا: له يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا، قال: عظيمة، قال: وماذا؟
- قالوا: يغنط الغنطة بين الأيام، (أي تأخذه موتة).
- قال: فجمع عمر بينهم وبينه، وقال: اللهم لا تُفَيِّل -تخيِّب- رأْيي فيه اليوم.
- ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج حتى يتعالى النهار، قال: والله إن كنت لأكره ذكره، إنه ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني ثمَّ أجلس حتى يختمر، ثمَّ أخبز خبزي، ثمَّ أتوضأ، ثمَّ أخرج إليهم.
- فقال: ما تشكون منه؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: ما يقولون؟ قال: إن كنت لأكره ذكره؛ إني جعلت النهار لهم وجعلت الليل لله عز وجل.
- قال: وما تشكون منه؟ قالوا: إن له يوماً من الشهر لا يخرج إلينا فيه، قال: ما يقولون؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجف ثمَّ أدلكها، ثمَّ أخرج إليهم آخر النهار.
- قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يَغْنِط الغَنْطة بين الأيام، قال: ما يقولون، قال: شهدت خُبَيْب الأنصاري بمكة وقد بضعت -قطّعت ومزَّقت- قريش لحمه ثمَّ حملوه على جذع، فقالوا: أتحب أنَّ محمداً مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً شيك بشوكة، ثمَّ نادى: يا محمد، فما ذكرتُ ذلك اليوم، وتركي نصرته في تلك الحال، وأنا مشرك لا أؤمن بالله العظيم إلاَّ ظننتُ أن الله عز وجل لا يغفر لي ذلك الذنب أبداً، فتصيبني تلك الغِنْطة.
- فقال عمر: "الحمد لله الذي لم يُفيِّل فِراستي"؛ فبعث إليه بألف دينار، وقال: استعن بها على حاجتك، فقالت امرأته: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك، فقال لها: هل لك في خير من ذلك؟ ندفعها إلى ما يأتينا بها أحوج ما نكون إليها، قالت: نعم، فدعا رجلاً من أهله يثق به فصرَّها صرراً ثمَّ قال: انطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإلى مبتلى آل فلان، فبقيت منها ذهبية، فقال: انفقي هذه، ثمَّ عاد إلى عمله، فقالت: ألا تشتري لنا خادماً؟ ما فعل ذلك المال؟ قال: سيأتيك أحوج ما تكونين إليه" (صفة الصفوة لابن الجوزي جـ[1/665] - [667]).
هذا الموقف غنيٌ عن التعليق لمن ألقى السمع وهو شهيد، أمَّا أموات الأحياء فالله يلطف بنا وبهم، فقط أريد أن تقارن بين موقف هذا الصحابي الجليل عندما كان مشركاً وقد شهد مصرع مسلم واحد، فكيف بجّل المسلمين حكاماً ومحكومين، وقد شهدوا، بل وساهموا في ضياع الأندلس وفلسطين، وفي التخلي عن أفغانستان، وفي تسليم عراق العروبة والإسلام لقمة سائغة للشيعة، وقد شهدوا مصرع مئات الآلآف، وانتهاك الأعراض، وتدمير المقدسات، وما يجري الآن في بلاد الشام في سوريا ، وفلسطين ليس عنَّا ببعيد، حيث يربو عدد القتلى في سوريا على يد طاغيتها بشار والشيعة اللئام على أربعين ألفاً بجانب المعاقين والمشردين والضائعين واللاجئين، وغير ذلك من المجازر والإبادة الجماعية للمسلمين في بورما وسوريا، والاغتيالات التي تطال كل من تحدثه نفسه بمقاومة ذلك الارهاب المقنن والظلم المبرمج.
ليس لذلك مبرِّر سوى أن إيماننا ويقيننا بالموت، والبعث والحساب، أشبه بالشك، فـإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العليّ العظيم.
اللهم فرِّج عنَّا ما نحن فيه، ولا تؤاخذنا بأعمالنا، وعاملنا بإحسانك وعفوك وفضلك يا كريم، وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
الأمين الحاج محمد أحمد - 2/5/2013