دلالات مفزعة في تجسس الموساد على مصر - شريف عبد العزيز
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
نار الحرب مع إسرائيل ولا جنة السلام معها ..
هذا هو لسان حال المواطن المصري البسيط الذي طالعته وسائل الإعلام في بلده المثقل بالمشاكل الداخلية والخارجية، والذي أتعبت قلبه ورفعت معدلات موت الفجاءة بين أبنائه لدرجة غير مسبوقة - حوالي 20% - بالأخبار المؤسفة والمحزنة التي تطرق مسامعه طرقاً كل يوم، من غلاء ووباء وتدني لمستوى المعيشة وانتشار البطالة وفساد منهجي ينخر في البنية الاجتماعية والاقتصادية لبلاده، وكان آخر هذه الأخبار المؤلمة شبكة التجسس الإسرائيلية الأخيرة.
فقد أعلنت السلطات المصرية يوم الاثنين 20-12-2010 عن ضبط شبكة تعمل لصالح جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد" وتهدف إلى اختراق المكالمات الهاتفية للتجسس على مكالمات مسئولين يشغلون مناصب حساسة، وأمر النائب العام المستشار عبد المجيد محمود، بإحالة الشاب طارق عبد الرازق عيسى حسن، المصري الجنسية، إلى محكمة أمن الدولة العليا طوارئ لاتهامه بالتخابر لصالح إسرائيل والإضرار بالمصالح القومية للبلاد عن طريق ضابطين في الموساد الإسرائيلي، هما ديدي موشيه وجوزيف ديمور، وهما هاربان حالياً.
وقد كشفت تحريات نيابة أمن الدولة العليا طوارئ بمصر عن مفاجآت مثيرة في قضية التجسس لصالح "الموساد" والتي كانت بمثابة الصدمة للرأي العام المصري والعربي، وتحمل كثيراً من المضامين والدلائل السياسية والاجتماعية منها:
أولاً: تغيير استراتيجيات التجسس:
الشبكة الجديدة للتجسس قد مدت نشاطها إلى سوريا وأرسلت عميلها فعلاً إلى هناك، وكلفته بوضع إعلانات عبر شبكة الانترنت عن وظائف شاغرة في جميع التخصصات عن مهندسين يعملون في شركات الاتصالات بكل من مصر ولبنان وسوريا، ويقوم بمسؤولية الإشراف على إعداد تقارير عن طالبي العمل وظروفهم الاجتماعية ومؤهلاتهم العلمية سعياً إلى تجنيدهم، وهذا يعني أن إسرائيل قد قررت تغيير سياستها التجسسية والتي عادة ما كانت تستهدف تجنيد أصحاب المناصب الحساسة والمؤثرة في الدولة المطلوب التجسس عليها، لتصبح شتى شرائح الشعب وطبقاته هدفاً مشروعاً لضباط وعملاء الموساد، تنصب عليهم الشباك، ويرمي لهم الطعم، وتوجه عليهم كل أدوات الجذب والإغراء، وبالتالي هذا التغيير سيؤدي لظهور شبكات تجسس غير تقليدية وفي أماكن كثيرة ومختلفة داخل البلاد العربية والإسلامية، وإذا كانت المخابرات وأجهزة أمن الدولة ستراقب أصحاب المناصب الحساسة والوظائف المهمة، فهي بالطبع لن تستطيع أن تضع الشعب كله تحت المراقبة، مما يجعل متابعة هذه الخلايا التجسسية غاية في الصعوبة.
ثانياً: ضياع مفهوم الانتماء:
ووفق التحريات التي أجرتها الأجهزة الأمنية فقد سافر المتهم الأول وهو طارق عبد الرازق إلى الصين عام 2006 للبحث عن فرصة عمل، وأثناء تواجده هناك بادر من تلقاء نفسه في بداية عام 2007 بإرسال رسالة عبر بريده الاليكتروني لموقع جهاز المخابرات الإسرائيلية مفادها أنه مصري ومقيم في دولة الصين ويبحث عن فرصة عمل، ودون بالرسالة بياناته ورقم هاتفه، أي أن المتهم هو الذي عرض خدماته علي الموساد، وهو الذي تطوع بإرسال بياناته وأبدي استعداده الكامل للتخابر على وطنه وخيانته، وهو يعلم عاقبة أمثال هذه الخيانة في الدنيا والآخرة، بل إنه قد خضع للفحص بواسطة جهاز كشف الكذب للتأكد من معلوماته ورغبته في العمل جاسوساً للموساد، واجتاز طارق الاختبار، في ذلك إشارة خطيرة علي تداعي مفاهيم قيام وثبات أي مجتمع من المجتمعات، مثل الانتماء والمواطنة والهوية، ناهيك عن أخلاق الإسلام ومروءة العرب، فكل هذه القيم والمبادئ أصبحت في نظر كثير من الشباب العاطل عن العمل في منطقة بلغت فيها نسبة البطالة زيادة علي 35% وفقا لآخر الإحصائيات، أصبحت في نظر كثير من الشباب حديث خرافة وأحاكي تستغفل بها وسائل الإعلام الشعوب المطحونة، وقد يجادل البعض فيقول أنها حالات شاذة لا تعبر عن شباب المنطقة، ولكن الوقائع والأحداث اليومية من شباب بالمئات تبتلعه أمواج البحر المتوسط الهادرة في محاولات يائسة للهجرة غير المشروعة، وآخر ينصب علي تجار الوهم بعقود عمل مضروبة، وثالث يلحس التراب ويبيع الجرائد في شوارع أوروبا وأمريكا، كل ذلك هرباً من واقع أليم ومستقبل مجهول أو مظلم لمعظمهم داخل بلادهم المثقلة بالمشاكل الاقتصادية والسياسية.
المحزن حقا في مسألة المتهم طارق أنه قد باع وطنه وبلاده ودينه بثمن بخس للغاية، فبعد أن اجتاز طارق اختبار كشف الكذب، تلقى مكافأة مالية قدرها 1000 دولار، وتم الاتفاق معه على أن يكون راتبه 800 دولار أمريكي مقابل التعاون مع الموساد بخلاف المكافآت ومصاريف إقامته والانتقالات، أي أن هذا الخائن قد باع وطنه بأقل من الراتب الذي يتقاضاه الزبال الإسرائيلي في الكيان الغاصب، ولا عجب في ذلك فالخائن من وجهة النظر الإسرائيلية أقل من جامع القمامة!!
ثالثاً: آسيا الفناء الخلفي لإسرائيل:
موضع الشبكة كشف بل لا يدع للشك أن الدول الآسيوية عبارة عن إقطاعية "إسرائيلية" خاصة تتحرك فيها كوادر الموساد بكل حرية ويسر، وينالون الدعم المادي واللوجستي علي أعلي المستويات، فقد كشفت التحريات أن المتهم المصري طارق تلقي في شهر أغسطس 2007 تلقى اتصالاً هاتفياً من "جوزيف ديمور" أحد عناصر المخابرات الإسرائيلية واتفقا على اللقاء في الهند، وفي مقر السفارة الإسرائيلية تم استجوابه عن أسباب طلبه للعمل مع جهاز الموساد، وسلمه الضابط الإسرائيلي مبلغ 1500 دولار مصاريف انتقالاته وإقامته، ثم سافر المتهم إلى تايلاند بدعوة من الضابط الإسرائيلي جوزيف حيث تردد عدة مرات على مقر السفارة الإسرائيلية، وقدمه جوزيف إلى عنصر تابع للمخابرات الإسرائيلية، وهو الضابط "إيدي موشيه" المتهم الثاني في القضية الذي تولى تدريبه على أساليب جمع المعلومات بالطرق السرية، وكيفية إنشاء عناوين بريد إليكتروني، كما كلفه بالسفر إلى كل من كمبوديا ولاوس ونيبال لاستكمال التدريبات.
وهذا يعني أن تدريب جاسوس واحد تم عبر خمس دول آسيوية، فما بالك لو كان التدريب لشبكة كاملة تضم عشرات الأشخاص، هذا علي الرغم من أن آسيا تعتبر قارة ذات أغلبية إسلامية، وبها أغني الدول الإسلامية، وحتى الدول غير الإسلامية منها، يوجد فيها جاليات إسلامية كبيرة، وربما ضخمة كما هو الحال في الهند والصين، فلماذا كل هذا التغلغل الإسرائيلي والغياب العربي والإسلامي عن القارة الأكبر مساحة بالعالم، ألا يملك المسلمون والعرب أي أدوات للضغط والنفوذ علي هذه الدول التي تفتح أبوابها ومؤسساتها للوبي الصهيوني يخترقها بأقل الأشياء.
هذا الكشف لابد أن يترتب عليه استحقاقات سياسية واقتصادية تعيد هذه الدول التي تنعم بعلاقات اقتصادية قوية ومصالح حيوية مع العالم الإسلامي إلي المسار الصحيح في التعاطي مع مشكلات العالم الإسلامي وقضاياه، فالهند مثلاً قد خدعت العرب والمسلمين حيناً من الدهر بدعوي عدم انحيازها، ثم كشفت الأيام والحوادث ومازالت تكشف أنها أحد الأعضاء المؤسسين لمنظومة العداء والكراهية ضد العالم الإسلامي والعربي، فهل يعقل أن يكون حجم التبادل التجاري بين العالم العربي والهند في 2009 قد بلغ رقماً مهولاً جاوز الـ 100 مليار دولار، ثم هذه الدولة الطبقية تعمل ليل نهار ضد العالم العربي والإسلامي.
رابعاً: كلفة السلام الإسرائيلي الباهظة:
بالكشف عن هذه الشبكة تكون عدد شبكات التجسس التي تم الكشف عنها منذ توقيع اتفاقية كامب دايفيد الشهيرة منذ 32 سنة، قد بلغت الأربعين شبكة، منها 26 شبكة في العشر سنوات الأخيرة فقط، هذا غير ما لم يتم الكشف عنه، فماذا الذي تريده إسرائيل من مصر حقا؟!.
إسرائيل ما فتئت أن تصف النظام المصري بأنه صديق وحليف استراتيجي لا غني عنه في حفظ أمن المنطقة، ومع ذلك مصر هي الدولة الأكثر تعرضاً لنشاط الجواسيس وتجنيد الخونة، مصر هي الدولة الوحيدة بجانب الأردن التي ترتبط بمعاهدة سلام رسمية مع الصهاينة، ومع ذلك مازال المسئولون الإسرائيليون ووسائل الإعلام الصهيونية تعتبر مصر العدو الأول للكيان الصهيوني، بل يكادون يجزمون أن مصر هي مصدر الخطر الداهم، خاصة من الشعب المصري الذي ينتظر يوماً يخرج فيه من قمقمه.
إسرائيل الذي تتحصل على الغاز المصري بأقل من سعر تكلفته بدولارين ونصف، ولمدة ثلاثين سنة مقبلة، في الوقت الذي يجد المواطن المصري نفسه مضطراً للوقوف في طوابير طويلة للحصول علي أنبوبة الغاز، إسرائيل تتوغل في فناء مصر الخلفي، لتحيك المؤامرات مع أثيوبيا الصليبية، وتحرض دول حوض النيل لقطع نهر النيل عن مصر والسودان.
مصر التي ضبطت الحدود مع غزة واشتركت بشكل أو بآخر في حصار القطاع، بصورة جلبت علي مصر كثير من اللعنات والإنكار من المسلمين، وتبارت الفضائيات في استقبال الشاتمين والشامتين بالموقف المصري، مصر التي قدمت لإسرائيل خدمات أمنية كبيرة، تكافئها إسرائيل بعشرات الشبكات التجسسية التي تستهدف أمنها واستقرارها، وتعبث في ملفات مصر الملتهبة، فهي تدعم أقباط المهجر، وهي تحرض البدو في سيناء علي الثورة وتمدهم بالسلاح، كما أنها تقيم علاقات متنامية مع أهل النوبة وتسهل لهم قنوات الاتصال مع الأمريكان.
أمثال هذه الشبكات تكشف لصانع القرار المصري أن إسرائيل لا تريد سلاماً ولا أمناً، فهي كيان طفيلي غاصب لا يعيش وينمو إلا بامتصاص دماء دول الجوار، تكشف أن إسرائيل لا تريد سلاماً بقدر ما تريد تطبيعاً تنال فيه كل المنافع، وتحقق كل المصالح، بحيث يكون لها الغنم وعلي غيرها الغرم، تقوي وحدها، وتضعف كل دول الجوار، خاصة مصر الذي مازال يتخوف منها الصهاينة، ويرون أن نظامها الكابح لشعبها حتماً سيأتي اليوم الذي يتخلص فيه من كل العوائق التي تمنعه من الرد علي هؤلاء الصهاينة باللغة التي يفهمونها، إلا وهي لغة القوة والعزة.
وأخيرا يحضرني المثل المصري السائر والذي يلخص في سخرية مريرة الأحداث الأخيرة، وهو المثل السائر: آخر خدمة الغز علقة، ولكن مع تعديل طفيف وهو : آخر خدمة إسرائيل شبكة!!!
الأربعاء 22 ديسمبر 2010 م
بقلم: شريف عبد العزيز
[email protected]