أرشيف المقالات

قبول النصيحة قبل الطوفان

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
قبول النصيحة قبل الطوفان
 
مِنَ الناسِ مَنْ هو صعبُ المِرَاسِ، يثبتُ على الخطأِ الذي يَظْهَرُ قُبْحُه، ولا يقبلُ النصيحةَ المحفوفة بالإخلاص وتَلَمُّسِ أسباب التوفيق والبعد عن بُنَيَّاتِ الطريق، ويجعل مجرد سماعِه للنصيحةِ مِن أهلها مَنًّا عظيمًا، وشرفًا لا يُسامَى، قد خلعَهُ على من تفضلَ عليه بمجردِ السماع، فضلًا عن أن يأخذ بها، فذلك هو عين المستحيل!






ما يبلغ الأعداءُ من جاهلٍ
ما يبلغُ الجاهلُ من نفسِهِ


والشيخُ لا يتركُ أخلاقَهُ
حتى يُوارَى في ثَرَى رمْسِهِ


إذا ارعوى عاد إلى جهلِهِ
كَذي الضَّنى عاد إلى نُكْسهِ


وإنَّ مَن أدَّبتَه في الصِّبا
كالعُودِ يُسقى الماءَ في غرسهِ


حتى تراه مُورقًا ناضرًا
بعد الذي أبصرتَ مِن يُبْسهِ








ولا تجد هذا المتجافي عن قبولِ النصائحِ الحفيةِ بالاغتنامِ والاستفادةِ منها إلا هائمًا في بحرٍ لجيٍّ من النكبات الدائمة والمعيشة الضنك؛ بسبب ضيق أفقه، وضياع حزمه، وندرة النجابة، وعدم استلهام العِبَرِ من الأحداث التي تَمْرُقُ عليه بعددِ حبَّاتِ المطر، ولكن الأدهى والأَمَرُّ وما يضيق به الصدرُ، هو نشوزُه على العقلاء وأهل الفكرِ والتجارب، وتجريحُ آرائِهم، واتهامُ نياتهم، وركوبُ مراكبِ السخرية والتحقيرِ لِما يقولون، ولا يسيرُ قطارُ فكرِهِ - مع الأسف الشديد - إلا ضِدَّ مصلحتِه العاجلة والآجلة، وما هذه سِمَة العاقلِ الموفَّقِ، بل إنه يتلظَّى بأعراض المرض، ويحتاج إلى من يُسعفه ويأخذُ بيده إلى آفاق الهداية الحقة؛ لتثبُتَ قدمه بعد ذلك على الصراط المستقيم.
♦ ♦ ♦
 
أما بعد:
فالمرء - كما قيل - قليلٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه، وخصوصًا العقلاء والمتَّزِنين وأولي الألباب، إنهم خيرُ كنزٍ يكتنزه العاقل لساعةِ نصيحةٍ أو معونة تفكيرٍ.

والمشورة من بين مبادئ الإسلام السمحة الرائعة عنوانُ حضارةٍ ودليلُ تقدمٍ، وهي كذلك جمعُ عقلٍ لعقلٍ، وخبرةٍ على خبرةٍ، ثم هي أوفى مثالٍ للحبِّ والثقةِ بين المشير والمستشير، وتلاقحٌ مثمرٌ يفيء أطيب الثمرات.

تناوبُ النصيحةِ قيمةٌ غَالِيةٌ:
إنها شارةٌ جامعة لهذا الدين العظيم بين المؤمنين، وتناوبها من أعظم مظاهر صدق التدين؛ فعن تَميم الدَّاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدينالنصيحة، إن الدينالنصيحة، إن الدينالنصيحة))، قالوا: لِمَن يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولنبيه، ولأئمة المسلمين وعامتهم))؛ (ابن عبدالبر في التمهيد 21 /284 بسندٍ صحيح).

ولكنها كما قال عنها الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "النصيحةُ سهلةٌ، والمشكل قبولها؛ لأنها في مذاق متَّبِعي الهوى مُرَّة"، والقرآن الكريم يلخِّص الحالة النفسية والفكرية لرافضي النصائح والصدود عنها على العموم، بقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 79].


وقد سجَّل التاريخ للحكامِ والنبلاءِ - العقلاء منهم والخُرَقَاء على السواءِ - أنه كان لهم مستشارون متخصصونَ بما يستدعيه المقام على قدرِ المسؤولية، فتارةً يطلبون النصح منهم في سبل الرفعة بالشعوب إذا كان الحاكم والبطانة صالحين، ويستشيرونهم أيضًا في التخطيط لبقاء السلطان الشخصيِّ مهما كلَّف الأمر وأزهق النفوس وملأ الأرض أوجاعًا وعنتًا.

ومع تطور النظم الاجتماعيةِ، فقد اتخذت المؤسسات التعليمية، والاقتصادية، والقضائية، والطبية، والعسكرية، والعلمية، والرياضية، وغيرها - مستشارين متخصِّصين، كلٌّ حسب تخصصه، يُقدِّمون التصور الأمثل لتشخيص المشاكل وتوصيفِ الحلولِ في مجالاتهم، ويقولونَ كلمتهم التي تنمُّ عن خبرةٍ ودربةٍ، واتساعِ أفقٍ في الفهم والتصور، ويفزع إليهم أهل الحوائج والرغائب والمآرب من طلاب النصيحة كل حينٍ، بإذن الله مدبِّرِ الأمور.

ومن الواضح أن المجتمع يعرف جيدًا قيمة هؤلاء "المستشارين"، ويشير إليهم بالبنان احترامًا وتقديرًا، لكن بقي أن نغير طريقة تفكيرنا في باب التقدير وميزانه، بمعنى أن يعرف المقدِّرُ أو المحتَرِمُ لهذه الكوادر أن التبجيل واحترام الهيئات ليس وقفًا على شرف المنصب والجاه العريض فقط، لكنه لِما تتميز به هذه النخبةُ من العلم الذي رفع الله به أقدارهم بسببٍ من لَدُنْه، على أساس أنهم في دنيا الناس كالنجوم في السماء، وعلى أن الحياة تفتقر دومًا إلى آرائهم، وتحنُّ إلى أصواتهم؛ لكونهم صمام أمانٍ يقي من صنوف الردى، وأوزاعًا سائرة بالناس إلى مسالك الهدى.


والمؤمنون يتناوبون النصيحة فيما بينهم، وقدوتهم حبيب الحق صلى الله عليه وسلم، الذي أمده الله تعالى بنور الوحي، ولم تخالج نفسه الكريمة إلا كل خير، وهو المؤيَّد بالعصمة من ربه، فهو أمير الأنبياء وسيد المرسلين، وبعد كل هذا يقول الله تعالى له: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، فالمشورة حكمةٌ وتعَقُّلٌ، والاستبدادُ الجامحُ بالرأْيِ ليس من طبائعنا كمؤمنين:






إن اللبيب إذا تفرَّق أمرُه
فَتَقَ الأمورَ مناظرًا ومشاورَا


وأخو الجهالةِ يستبدُّ برأيه
فتراه يعتسفُ الأمور مخاطرَا







وعلى المؤمن ألا يقبل النصيحة إلا من أهلها؛ حتى لا يسقط قدرها، ويقلل أمرها؛ فعن معاوية بن جاهمة السلمي، أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أردتُ أن أغزوَ، وقد جئت أستشيرك، فقال: ((هل لك من أمٍّ؟))، قال: نعم، قال: ((فالزَمْها؛ فإن الجنة تحت رجلَيْها)) [1]، فإن الرجل هنا لم يطلب المشورة إلا من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان أحقَّ بها وأهلها.

وقد يكون من أهلها مَن لا تستملحه العيون، ولا تلقاه بوقار المظاهر والهياكل والأشكال، ما دام نِصابُ العقل مكتملًا فيه بالنجابة والإبداع، وقد قبل العالِم القاضي صاحب الأموال "نوح بن أبي مريم" نصيحةَ عبده "مبارك"، واستشاره في شأن ابنته، ثم أعتقه وزوجه ابنته، فكانت المنحة من الله تعالى أن يُولَد لهما فخر الأئمة في زمانه ومكانه الإمام المجاهد المحدِّث والواعظ الأشهر "عبدالله بن المبارك" رضي الله تعالى عنه.

تعريجٌ على بعض آداب النصيحة
وعلى باذل النصائح أن يكون أمينًا في مشورته عند مَن يقبلها، وألا ينحرف بالمعنى لِما فيه تضليلٌ وتغييرٌ، خلاف المأمول من أمانته ونُصْحِه، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المُستشارُ مُؤتمنٌ)) [2].


وعلى هذا المبدأ الواضح يجب على أهل النصيحة أن يسيروا؛ لأن مخالفة الحق واتباع الهوى في بذلها خيانةٌ لله ورسوله، وتضليل لمستقبِلِ كلامه، فعن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن تَقَوَّلَ علَيَّ ما لم أقُلْ، فَلْيَتَبَوَّأْ مقعدَه مِنَ النَّارِ، ومَنِ استشارهُ أخوهُ المسلِمُ فأشارَ عليه بغيرِ رُشْدٍ، فقد خانَهُ، ومَنْ أُفْتيَ بِفُتْيا غيرِ ثَبَتٍ، فإنَّما إثْمُهُ عَلَى مَنْ أفتاهُ)) [3].

ولذلك شواهد في التاريخِ ساطعةٌ، تبين أمانةَ الناصحين، حتى وإن لم توافق هوى الباذل للنصيحة، لكنها الأمانة:
"كتب زياد إلى معاوية: يا أمير المؤمنين، قد ضبطت لك العراقَ بشمالي، وفرغت يميني لطاعتك، فولِّني الحجاز، فبلغ ذلك عبدَالله بن عمر - وكان مقيمًا بمكة - فقال: اللهم اشغل عنا يمينَ زياد، فأصابه الطاعون في يمينه، فجمع الأطباء واستشارهم، فأشاروا عليه بقطعها، فاستدعى القاضي شريحًا وعرض عليه رأي الأطباء، فقال له: لك رزقٌ معلوم، وأجلٌ محتوم، وإني أكره إن كانت لك مدةً أن تعيش في الدنيا بلا يمين، وإن كان قد دنا أجلُك أن تلقى ربك مقطوع اليد، فإذا سألك: لمَ قطعتها؟ قلت: بغضًا في لقائك، وفرارًا من قضائك، فمات زياد من يومه، فلام الناس شريحًا على منعه القطع لبغضهم زيادًا، فقال شريح: إنه استشارني، والمستشار مؤتمن، ولولا الأمانة في المشورة لوددت أنه قطع يده يومًا، ورجله يومًا، وسائر جسده يومًا يومًا"؛ (الإمام ابن كثير، البداية والنهاية ج11 ص 259، دار عالم الكتب 2003م "بتصرف").

وما أجمل النصيحة حينما تكون سرًّا خفيًّا بين طرفين فقط، يسعى من فم قائلها إلى أذن سامعها؛ حيث لا يعلم الأغيار عنها شيئًا؛ فإن ذلك أحرى للقبول عند الغَويِّ والتقيِّ، ولا شك أن هذا من أظهر صفات المتقين، قال الفُضيل: "المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّر"، فهذا الذي ذكره الفُضيل من علامات النصح والتعيير، وهو أن النصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان، وكان يقال: "مَن أمر أخاه على رؤوس الملأ، فقد عيَّره"، وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه، ويحبون أن يكون سرًّا فيما بين الآمر والمأمور؛ فإن هذا من علامات النصح، فإن الناصح ليس له غرضٌ في إشاعة عيوب مَن ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها"؛ (الإمام ابن رجب الحنبلي، الفرق بين النصيحة والتعيير، نسخة مدمجة على موقع روح الإسلام).

ومثل هذا فليصطنع، خصوصًا مع أهل المناصب ومُقَدَّمي الناس؛ فإن لِأَقدارهم حقًّا في صيانة فقه التعامل معهم، وقد أمرنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: ((مَن أرادَ أن ينصحَ لذي سلطانٍ في أمرٍ فلا يُبدِهِ عَلانيةً، ولَكِن ليأخذْ بيدِهِ فيخلو بهِ، فإن قبِلَ منهُ فذاكَ، وإلَّا كانَ قد أدَّى الَّذي علَيهِ لَهُ))؛ (الألباني في تخريج كتب السنة 1097، وقال: حديث صحيح عن عياض بن غنم رضي الله تعالى عنه).

ولله در من قال:






قُلْ للنصيحِ الذي أهدى نصيحتَه
سرًّا إلينا وسامَتْه التكاليفُ


النصحُ ليس له حدٌّ فتعرفه
والنصحُ مستوحشٌ منه ومألوفُ


حتى إذا صرَّحت عنا عواقبه
كانت لنا عظةٌ منه وتعنيفُ


لو كان للنصحِ حدٌّ يُستبَانُ به
ما نالَنا حسرةٌ منه وتلهيفُ


لكن له سبلٌ شتى مخالفةٌ
بعض لبعض فمجهولٌ ومعروفُ


والناس غاوٍ وذو رشدٍ ومختلطٌ
والنصح ممضي ومردودٌ وموقوفُ







أسباب رد النصيحة:
ومن الملاحظ بجلاء أن هناك أسبابًا تَحولُ دون قبول النصيحة؛ منها على الاختيار:
• الكبر، وهو من أشرس أمراض النفوس، وبه يصرف الله الهدى عن صاحبه، بعدما يَزْهَدُ المتكبر ويَعْزِفُ عن قبول الهداية الحقَّةِ، فضلًا عن أن يتجشم البحث عنها، قال الله تعالى: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146]، وقد بيَّن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أوفى صور المتكبر بأنه رافضٌ للحق الذي يمكن أن يُهدى إليه عن طريق النصيحة، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ))، قال رجلٌ: إنَّ الرَّجلَ يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنةً، قال: ((إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ،الكِبرُ بَطرُ الحقِّ وغمطُ النَّاسِ)) [4].

فلا ينتظر المتكبر والمتجافي عن قَبول نصائح العقلاء والعلماء إلا المقتَ من الله تعالى، والبغض من الناس، مع عدم التوفيق، ولا شك أنه سيكون هو وسَعْيه وأحلامه وأمنياته غثاءً وهَبَاءً، متى ما زمجر عليه طوفان الأحداث، وساعتها لن ينفعه الندمُ.

• ومن أسباب رد النصائح وعدم قبولها اتباع الهوى، وهو شرٌّ كاسْمِه، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26]، ويا ويلَ الحياة من ابن آدم حينما يميل في جل شؤونه ومآخذه ومتاركه إلى هواه، دون ضوابط الشرع والحكمة والأخلاق والتعقل، كما فعل بلعام بن باعوراء، الذي أنزل الله تعالى فيه وفي أمثاله: ﴿ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ﴾ [الأعراف: 176]، ومن أشد الخوف على فئام هذه الأمة المباركة أن يستأثر الجاهل والمتعالم وصِبيةُ العلم بأهوائهم، بل المصيبة العظمى أن البعض قد جعل هواه دينًا، بإنزال النصوص المحْكمة على رأيه، فعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا وإنَّهُ يخرجُ في أمَّتي قومٌ يَهوونَ هوًى، يتجارَى بِهم ذلِك الهوى كما يتجارَى الكَلَبُ بصاحبِه، لا يدَعُ منهُ عِرقًا ولا مفصلًا إلَّا دخلَهُ))؛ (الألباني في تخريج السنة 2، وقال: صحيح لغيره [5].

ومَن كانت هذه حاله، فإنه بعيدٌ عن قبول النصائح بُعْدَ المشرقين؛ لشدة أثر الهوى عليه، قال زبيد بن الحارث اليامي: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول: "إن أخوف ما أخاف اتباعُ الهوى وطول الأمل؛ فأما اتباع الهوى، فيصُد عن الحق، وأما طول الأمل، فيُنسي الآخرة..."؛ (أبو نعيم في حلية الأولياء 1 /117، وقال: روي عن علي مرسلًا).

• ومن أسباب رد النصيحة وعدم قبولها قسوة القلب، تلكم الفاقرة المرجفة، التي تسد على العبد أبوابَ التوفيق فلا يرى إلا نفسه، ويصطنع مانعًا كثيفًا بينه وبين الهداية المرجوَّة له، من كلمة يسمعها، أو رأيٍ مسددٍ يُهدى إليه، قال الله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الزمر: 22]، ومن ثَمَّ يستوى عند قساةِ القلوب مواطنُ الهدى ومراتعُ الردى؛ فلا يلهبهم نذير، ولا يغريهم في الطاعات بشير، قد أغلقوا قلوبهم إغلاقًا لا فتح بعده، وإذا قَصَدَت النصيحةُ أسماعَهُم وجدَتْ قلوبًا عن الهدى مصروفة، فعن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وإن أبعدَ الناسِ من اللهِ القلبُ القاسي))؛ (سنن الترمذي 2411، وقال: حديث حسن غريب [6].

• ولا يوجد أشأم من الشيطان في إعاقة قبول النصائح بين المؤمنين؛ لأنها لو قُبِلَتْ لضلَّ سَعْيُه، وخابَ فَأْلُه؛ لذا فهو يجهد في صمم الآذان عن قبولها، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴾ [النساء: 38]، وحينما تستحكم الألفة بين الشيطان والعبد الغويِّ، فحدِّث ولا حرج عن نفوره من الكلمة الطيبة المقدَّمة له في إطار نصيحةٍ غاليةٍ، وسبحان مَن ينجي المؤمنين من هذه التهلكة، ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83]، بل إن الشيطان يقفُ عائقًا عن وصول النصيحة إلى مدارك المؤمنين؛ لأنه في الغالب ينصح ويوسوس في الصدور، ويراجع ولا يهدأ، حتى يقع في شِراكه مَن يتبع نصائحه، وهكذا كان مع أبي البشر آدمَ وزوجِه عليهما السلام:﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ﴾ [الأعراف: 21، 22].

♦ ♦ ♦

فلا يمنع المؤمنُ نفسَه من قَبول هدايا إخوته المؤمنين العقلاء وأرباب التجارب؛ لأنهم يتعبَّدون الله بنصحه، وهو أيضًا يتعبد ربه ومولاه بإسداء النصيحة لهم حين وجوب وقتها، فالنصيحة شعيرةٌ دينيةٌ هامَّةٌ، قد أسقطها كثيرٌ من مدَّعي التدين، والمتوهمين أنهم قد تعدوا مراحل النصح أو الوعظ، أو الملصقين بالعلم الذين يطاولون السماء في باب الكبر، برفض الحق وغمط الناس، وليتفكَّر المؤمن فيما يُعرَض عليه في باب التناصح ولا يَنْسِفه في مهده؛ فلربما تكون فيه مصلحة العاجل والآجل، وليأخذها من أي وعاءٍ خرجتْ منه، ما دامتْ عافيتُه فيها، ولا يستكثر على الناس ما يعرفون، فقد يقول الحكمةَ غيرُ الحكيم، وتكون الرمية من غير الرامي، مع شدة الحذر من الوقوع في منحدر أهل الجهل والمعصية أن يكونوا أهل نصيحة وتجربة، فتجربتهم وبالٌ عليهم وخزيٌ يدق الأعناقَ ويجللها بالندامة والسيرة البخسة، فكيف يُقبلُ منهم موعظةٌ أو نصيحةٌ أو هدايةٌ مزعومةٌ؟!

والمجتمع يعاني فيه الجمهرة من أفراده من جرَّاء الوقوع في الأخطاء المتكررة أو المتشابهة، وقد وقعوا في وهدة التَّلاسُنِ، والجدلِ المقيتِ، والتنابذِ بالألقاب، بدل التناصر فيما بينهم بتداول النصائح والكلمة الطبية التي تبني ولا تهدم، إنها سلعة الإيمان الباسقة في جِذْرِ القلب، بلسان أهل الأدبِ والخبرة والأَرَبِ، ومَن رفضها وملَّها واستكثرها ولم يشرحْ لها في صدره مكانًا، فإنه أول الخاسرين وأغبنهم بيعةً، وفوق ذلك فهو أتمُّ الناسِ نقصًا وأكثرهم عيبًا.

وتأمَّل حياة عبدٍ مُستبدٍّ برأيه - وهو هباء - كيف يعيشُ، وكيف يديرُ حياته في قلب الأزمات العارضة والمستعصية، التي ما إن يعتدل من بلوى حتى تفجأهُ أخرى على الدوام، كالطوفان الدفَّاعِ الذي لا يهدأ ولا يستقر به مقام!

والموفَّق من عباد الله مَن يتلقى النصيحةَ ويوسع لها مكانًا - ولو مؤقتًا - في سمعه وإدراكه، فإن كانت فيها المصلحة والخير العاجل والآجل، يفسح لها قلبه ويحفظها في ديوان الكنوز.

والله هو الهادي إلى صدق التدين في القلوب.




[1] الألباني في صحيح النسائي 3104، وقال: حسن صحيح عن معاوية بن جاهمة السلمي.


[2] سنن الترمذي 2822 بسندٍ حسن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.


[3] أحمد شاكر في مسند أحمد 16 /118 وقال: حديث صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.


[4] صحيح مسلم 91 عن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه.


[5] عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه.


[6] عن عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢