الدعوة إلى الله تعالى (1)
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
الدعوة إلى الله تعالى(الجزء الأول)
قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33] وقال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 125] ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36] ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25] ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا ﴾ [آل عمران: 193].
الدعوة إلى الله تعالى أشرف الأعمال وأزكى الخصال وكفى بها فضلاً أنها وظيفة الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام ووظيفة الذين أورثهم الله علمهم واتباع سنتهم ومن أجل الدعوة إلى الله أنزلت الكتب وبعثت الرسل وكتب الجهاد وخلقت الجنة والنار وكان الموت والحياة، والدنيا والآخرة والأرض والسموات.
لم يكن الله تعالى ليخفى على ذوي البصائر والعقول حتى يحتاج الناس إلى من يعرفهم به ولا ليقيم الدليل على وجوده لولا ذلك الشيطان الرجيم الذي اجتالهم عن فطرتهم ولولا تلك الشهوات التي ركبت فيهم فحجبت بصائرهم ورانت على قلوبهم، وما كان لعبيد أذلاء فقراء أن يعصوا سيدهم ومليكهم ويتمردوا على أوامره وكتبه، وهو يحسن إليهم وينعم عليهم لولا الأمل الكاذب والجهل المركب والاغترار بالدنيا وزينتها وظنهم الخاطئ أن لن يبعث الله أحداً.
ففطرة الله التي فطر الناس عليها هي معرفة ربهم والإذعان له جل شأنه بالعبودية.
ولكن لما كانت هذه الصوارف التي قدمنا ذكرها من أعظم ما يحول بين المرء وسعادته ويصرفه عن التفكير في عاقبة أمره اقتضت الحكمة الإلهية أن يرسل الله لعباده رسلاً منهم يبصرونهم بها ويحذرونهم منها ويخوفونهم عاقبة الركون إليها ويدعونهم إلى ربهم الذي تشهد بوجوده وربوبيته فطرهم ووجداناتهم فضلاً عن آياته الكونية الماثلة لأعينهم والتي تغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم وتملأ أسماعهم وأبصارهم، ما بين مضيئة مشرقة، ومظلمة دامسة، وجامدة شامخة، ومتحركة متلاطمة، تملأ القلب روعة وجلالاً، والعين بهجة وجمالاً.
بعث الله رسله إلى عباده يدعونهم إليه، ويذكرونهم بنعمه لديهم، وإحسانه إليهم.
مبينين لهم عن ربهم ما يحتاجون إليه في سعادتهم الدنيوية والأخروية.
قائلين لهم: اعبدوا الله وحده لا إله إلا هو لا يستحق العبادة سواه.
ضاربين لهم الأمثال.
مالئين أسماعهم بالمواعظ، مجلين لهم العبر في أجلى مظاهرها مطلعين عليهم شمس الحجج في رابعة نهارها ﴿ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 165].
الدعاة قسمان:
قسم يدعو إلى الرحمن وقسم يدعو إلى الشيطان: فدعاة الرحمن هم أنبياء الله ورسله وأوليائه الصالحون والدعاة إلى الشيطان هم الجهلة الضالون الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون.
ينبغي أن نزيدك بياناً وننعت لك كل قسم حتى كأنك تراه لعل الله أن ينير بصيرتك ويجعلك من الداعين والمرشدين إلى سبيله: الدعاة إلى الله قوم عرفوا أنفسهم أنهم عبيد لربهم فآمنوا به وأحبوه وعظموه وعرفوا أنه هو المستحق للعبادة ورأوا كثيراً من إخوانهم في الإنسانية غارقاً في بحر الهوى والضلال يخضع لغير الله ويذل لسواه فخلعوا ثياب رفاهيتهم عنهم وألقوا بأنفسهم في تلك الأمواج المتلاطمة لينتشلوا أولئك الغرقى وقد مدوا إليهم حبل النجاة، فمنهم من اعتصم به فنجا ومنهم من أبى فكان من الهالكين.
جاءوا إلى عبدة القبور حيث يذبحون عندها ويدعون أصحابها وينذرون لهم ويهتفون باسمهم في الشدة والرخاء فقالوا لهم: مهلاً مهلاً كيف تدعون من لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنكم شيئاً؟ أما سمعتم قول الله تعالى: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ وقوله جل جلاله: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60] ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأعراف: 194].
وهذا تهكم بالداعين غير الله تعالى.
وقد نهى تعالى عن دعاء غيره فقال: ﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 106] ثم إن ذبحكم ونذركم لأصحاب القبور عبادة أيضاً لا تنبغي إلا لله الذي خلقكم ورزقكم فهو سبحانه أحق بأن يكون هذا كله لوجهه تعالى، يا قوم إن الله الذي خلقكم ورزقكم هو المستحق لعبادتكم، فادعوه وحده وتوكلوا عليه وحده وخافوه ولا تخافوا غيره.
الله هو الذي يجيب دعاء المضطر منكم إذا دعاه ويكشف السوء ويقضي لكم جميع حاجكم لأنه حي يسمع ويبصر ويعلم وهو على كل شيء قدير.
أما الذين تدعونهم فليسوا بأحياء ولا يسمعون ﴿ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 14] يا قومنا أرأيتم لو كان لأحدكم عبد أو خادم وكلفه أن يعمل في حديقته أو مزرعته وتكفل له بطعامه وكسوته وكل ما يحتاجه في معاشه ووعده أجراً جزيلاً إن هو أحسن الخدمة ونصح لسيده في المهنة.
ثم ذهب هذا الخادم يعمل في مزرعة عدو سيده وهو لم يزل في نعمة السيد متقلباً وفي كنف إحسانه مقيماً.
ماذا تحكمون على ذلك الخادم، وماذا يستحق عندكم من العقاب؟ لا شك أنكم تقولون إنه يستحق التأديب والتعذيب.
فهذا مثل المشرك كلفه الله تعالى بعبادته وتكفل له برزقه فذهب يعبد الشيطان ويطيعه ويعصي ربه ويكفر نعمته ويجحد إحسانه.
هكذا وبمثله يدعو الدعاة إلى الله ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].
الدعوة إلى الله سبيل الفلاح ومفتاح النجاح وباب العز وأصل الاستقلال والحرية وأشرف ما تنفق فيه النفوس والأموال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111].
فمن أقام هذه الدعوة وبذل فيها نفسه وماله عاش عزيزاً ومات شريفاً ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة: 52]، ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾، ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [فاطر: 10].
فاستمدوها أيها المسلمون من ربكم وادعوا إليه من تنكب عن سبيل الاستقامة إن المسلمين لما تركوا الدعوة إلى الله وانصرفوا إلى شهواتهم مكن الله منهم عدوهم فأذلهم واستباح أموالهم وأعراضهم وسامهم كما تسام البهائم العجماوات.
وذلك جزاء من تشبه بالبهائم في اتباع الشهوات، وعصى رب الأرض والسموات ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ﴾ [المجادلة: 20].
ولا عجب أن يسلط الله تعالى على المسلمين من يذلهم ويستعبدهم لما تركوا الدعوة إلى الله والعمل الصالح فقد سلط الكفار والمشركين على من كانوا أبر منهم قلوباً وأفضل إيماناً وأعظم شجاعة وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فأوقعوا فيهم القتل والذبح حتى بقروا بطن حمزة عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وما ذلك إلا لأنهم خالفوا أمراً واحداً من أوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال لهم: "لا تبرحوا أماكنكم غَلبنا أم غُلبنا" فغلبوا المشركين أولاً ثم تركوا أماكنهم يجمعون الغنائم فلما فعلوا ذلك انقلب عليهم المشركون ثانية وكان ما كان، فكيف بمن خالفوا الدين كله أصولاً وفروعاً وفعلوا جميع المنهيات وعصوا جميع الأوامر حتى ما كان منها متعلقاً بنظام الدنيا والسيادة فيها؟.
وإن من أعظم المصائب، وأشد الكوارث نسيان الغياث الحق عند حلول الخطوب وفجاءة النقم، وأذل من الذل أن تطلب الحرية ممن عزه في إذلالك.
وسعادته في إشقائك.
إن المسلمين لا يحيون حياة طيبة، ولا ينالون العزة والسيادة إِلا بأن يدعوا أنفسهم أولاً إلى الله فإذا أفردوه بالإلهية وأبوا أن يكونوا لغيره عبيداً.
وتواصوا على ذلك وصبروا عليه لم يلبثوا عشية أو ضحاها حتى يحيا منهم من حي عزيزاً ويموت منهم من يموت شهيداً شريفاً إن شاء الله تعالى.
المصدر: "مجلة الإصلاح"، العدد الأول - 15/2/1347هـ، صـ11.