أرشيف المقالات

دروس وعبر من غزوة: «الخندق» و «بني قريظة»

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
دروس وعبر من غزوة: "الخندق"، و"بني قريظة"
 
الكلمة الثامنة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فمن الدروس والعبر المستفادة من الغزوتين ما يلي:
1- أن حفر الخندق على ما فيه من تعب ومشقة كان خطة حكيمة أنقذ الله بها المسلمين من مخاطر عظيمة كانت ستحل بهم، وهذا داخل في قول الله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 60].

2- «صبر النبي صلى الله عليه وسلموأصحابه على التعب والجوع والبرد في سبيل نصرة هذا الدين.

3- التداوي عن الجوع بمثل هذا العمل الذي عمله النبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث ربط على بطنه حجرًا، لأجل أن تتماسك الأمعاء، فإن الأمعاء تكون خاوية، ليس فيها شيء يسندها من الطعام من الداخل، فيشدها هذا الحجر، ويرفع الصلب ويقيمه.

4- تواضع النبي صلى الله عليه وسلموحبه للمشاركة في الجهاد في سبيلالله، فكان عليه الصلاة والسلام ينقل مع أصحابه التراب وهم يحفرون الخندق، والخندق يحتاج إلى تعب، حتى إن بطنه صلى الله عليه وسلمعلق به التراب فوارى بياض بطنه.

5- فيه دليل على أن الإنسان يجوز له أن يرتجز على العمل - لأن ذلك يقويه وينشطه، وكان الناس يفعلون هذا قديمًا - فإذا كان مثلًا يسني على الإبل تجده ينشد أناشيد، ويرتجز لينشط نفسه وينشط الإبل من جهة أخرى، وكذلك العمال وهم ينقلون اللبنات إلى أعلى البيت تجدهم يرتجزون، فالنشيد للتقوي على العمل لا بأس به.

6- تشجيع النبي صلى الله عليه وسلمللصحابة أنهم إذا تعبوا في نقل التراب، فإن هناك عيشًا خيرًا من هذا وهو عيش الآخرة.

7- أن المؤمن إذا رأى ما يعجبه من الدنيا من سيارات أو قصور، أو غير ذلك، فليتذكر أن هذا عيش زائل، وأن العيش الحقيقي هو عيش الآخرة، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131].

8- هذه الآية العظيمة التي حصلت في تكثير الطعام الذي قدَّمه جابر للنبي صلى الله عليه وسلموأصحابه وهو طعيم: أي: شيء يسير من الشعير وعناق من الماعز لها نحو أربعة أشهر، ومع ذلك كفى المهاجرين والأنصار.

9- ذكاء امرأة جابر رضي الله عنها وعن زوجها، حين قال لها: ويحك، جاء النبي صلى الله عليه وسلمبالمهاجرين والأنصار، فقالت: هل سألك؟ يعني فإن كان قد سألك فإنه أعلم، ما جاء بهم إلا والطعام سيكفيهم، أما لو كان الرسول صلى الله عليه وسلملم يعلم لكانت مشكلة.

10- مباشرة الأكابر في تقديم الطعام لمن دونهم، فإن الذي جعل يقدم هو النبي صلى الله عليه وسلم.

11- أنه ينبغي للكبير أن ينظِّم قومه عند تناول حقوقهم؛ لأنه قال لهم: ادخلوا ولا تضاغطوا، أي لا تراصوا ويضغط بعضكم بعضًا، وهكذا ينبغي للإنسان الكبير أن ينظم القوم ولا يدعهم فوضى.

12- أن الله سبحانه وتعالى قد يبارك في الشيء القليل حتى يكفي أناسًا كثيرين، وكما أن هذا من الأمور العينية، فهو أيضًا في الأمور الزمانية والمكانية.

13- في الحديث جواز توجيه الدعوة للعموم، وقد ذكر الفقهاء أنه تكره دعوة الجفلى التي لا يُعين فيها المدعو، يقال: يا أيها الناس هلمُّوا إلى الطعام، فذكر الفقهاء أنه يكره؛ لأن هذا من باب الإسراف والمباهاة، ولكن الصحيح عدم الكراهة لأمرين:
الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال مثل هذا لأهل الخندق كلهم.
الثاني: أنه في الحديث الآخر الذي قال فيه لأنس بن مالك رضي الله عنه: «ادْعُ لِيْ مَنْ لَقِيتَ»، فلم يُعين.
والصحيح أنه لا يكره، وأنه يجوز للإنسان أن يأتي إلى الجماعة، فيقول: تفضلوا عندنا طعام، وليس في هذا إسراف إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

14- أن ريق الإنسان طاهر، ولا نستدل به على جواز البصق في الطعام؛ لأن بصق النبي صلى الله عليه وسلمفي الطعام من أجل المباركة فيه، أما بصقنا نحن فلا شيء»
[1].

15- أن الفرج بعد الشدة، وهذا ما حصل للمؤمنين في هذه الغزوة، فقد بلغت القلوب والحناجر وزلزل المؤمنون زلزالًا عظيمًا، ثم جاء الفرج من الله، وأرسل الله على الأحزاب الريح، وقذف في قلوبهم الرعب فولوا مدبرين.

16- قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ، وَإِنْ َحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ»، فيها منقبة للزبير وقوة قلبه وصحة يقينه.

17- جواز سفر الرجل وحده، وأن النهي عن السفر وحده إنما هو حيث لا تدعو الحاجة إلى ذلك[2].

18- أن الغدر ونقض العهود مستأصلة في اليهود منذ القدم، وقد ذكر الله هذا كثيرًا في كتابه؛ قال تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 155].

19- أن المنافقين وجدوا في أحداث غزوة الأحزاب فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد، وفرصة للتوهين والتخذيل، وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله، وهذا ديدنهم دائمًا.

20- فيه منقبة للسعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة واعتزازهما بدينهما حين رفضا إعطاء غطفان ثلث ثمار المدينة، وقالا: ما نعطيهم إلا السيف.

21- استجابة الله لدعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقد أقر الله عينه ببني قريظة وحكم فيهم ووافَق حكمه حكم الله تعالى.

22- أنه يشرع للنساء مداواة الجرحى عند القتال والحاجة إلى ذلك.

23- أن إسلام نعيم بن مسعود كان فرجًا للمسلمين، فقد عمل مكيدة وفرقة بين الأحزاب أدت إلى تفرقهم وضعفهم.

24- أن الدعاء سلاح المؤمن عند الشدائد، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلموأصحابه على الكفار، فهزموا وولَّوا بدون حرب، وقذف الله في قلوبهم الرعب.

25- في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الآنَ نَغْزُوهُمْ ولَا يَغْزُونَنَا» علم من أعلام النبوة وبشارة من النبي صلى الله عليه وسلمبأن الغلبة ستكون للمسلمين وأن المدينة لن تُغزى بعد ذلك.

26- أن اليهود من أشد الناس عداوة للمسلمين وأكثرهم حقدًا وبغضًا ومكرًا بالمسلمين، وهذا مصداق قول الله تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [المائدة: 82].

27- أن جبريل عليه السلام كان كثيرًا ما يأتي بصورة دحية الكلبي وهو حسن الصورة.

28- أن الملائكة حملت السلاح وشاركت في غزوة بني قريظة، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9]، قال ابن كثير رحمه اللع: وجنودًا لم تروها الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف.

29- سرعة استجابة الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلمبصلاتهم العصر في بني قريظة.

30- «فضل الصحابة حيث انتدبوا للقتال مع ما هم فيه من الشدة والضعف.

31- أن المجتهد إذا أخطأ لا تجب عليه الإعادة؛ لأن هؤلاء الصحابة اجتهدوا، فمنهم من صلى في الوقت، وقال: لم يرد منا أن نُؤخر الصلاة، إنما أراد منا أن نعجل الخروج.

32- أن سبب نزول اليهود على حكم سعد بن معاذ أنهم كانوا مواليه، وظنوا أنه سيفعل بهم كما فعل عبد الله ابن أُبي بحلفائه من بني قينقاع حين شفع فيهم، فتركهم الرسول صلى الله عليه وسلمله، ولكنه رضي الله عنه حكم بقتل المقاتلة، وسبي الذرية من النساء والصبيان، فيكونون أرقاءَ يباعون ويملكون وتقسم الأموال.

33- فضيلة سعد بن معاذ، وأنه لا تأخذه في الله لومة لائم في هؤلاء، وفي أنه وافق حكمه حكم الله سبحانه وتعالى.

34- جواز تحكيم الحاكم من هو دونه، وإلا لم يرض الرسول صلى الله عليه وسلم.

35- جواز النزول على حكم من يرضاه العدو، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمن يبعثه: «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِن أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ»[3].

قال أهل العلم: وهذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلملا ينزلهم على حكم الله ورسوله؛ لأنه من الممكن أن يُنسخ الحكم.
أما بعد أن توفي الرسول صلى الله عليه وسلموقد استقرت الأحكام، فإذا طلبوا أن ينزلوا على حكم الله ورسوله أُنزلوا على حكم الله ورسوله.

وهنا إشكال: كيف جاز أن يحكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فيهم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلمقال: «قَضَيْتَ بحُكْمِ اللَّهِ»، فدل هذا على أن لله تعالى حكم فيهم؟

قلنا: قوله: «قَضَيْتَ بحُكْمِ اللَّهِ» بمعنى وافقته، والرسول صلى الله عليه وسلمعلم بحكمه بعد أن حكم فيهم سعد رضي الله عنه.

36- تمنِّي الشهادة في سبيل الله، لقول سعد رضي الله عنه: فإن كان بقي من حرب قريش شيء، فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتي فيها، لأجل أن تكون موتته بسبب هذا الجرح الذي قد جُرح به في سبيل الله، فيكون قد مات شهيدًا رضي الله عنه.

37- أنه يجوز أن يقول الإنسان: أظن كذا وكذا ويتكلم بالظن، ولا يقال: إن الكلام بالظن محرَّم؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [الحجرات: 12]، فعُلم من الآية الكريمة أن بعض الظن ليس بإثم، وهو الظن الذي يقوم على القرائن والأدلة؛ فهذا ليس بإثم.

38- أنه يجوز التعليق في الدعاء، وهذا له شواهد كثيرة مثل أن يقول الإنسان: اللَّهم إن كان كذا فأسألك كذا وكذا.

39- أن الإنسان إذا أُصيب في سبيل الله ومات من هذا الجرح، فهو شهيد وإن تأخر موته، لكن يُصلى عليه؛ لأن الشهيد إذا لم يمت في نفس المعركة، فحُمل وطال بقاؤه، فإنه يُصلى عليه، وإن مات في مكانه فإنه لا يُصلى عليه، وإنما يُصلى عليه إذا طالت المدة على ما ورد به النص؛ لأن الأصل وجوب الصلاة على الميت، ولم يرد ترك الصلاة عليه إلا في شهداء أُحد، فمن شابههم ومات من فوره تركنا الصلاة عليه، وإلا فإننا نُصلي عليه، ولهذا صلى النبي صلى الله عليه وسلمعلى سعد بن معاذ رضي الله عنه[4].

40- في قول النبي صلى الله عليه وسلميوم قريظة لحسان: «اهْجُ المُشْرِكِينَ؛ فإنَّ جِبْرِيلَ عز وجل مَعَكَ» دليل على جواز هجاء المشركين، وأن الأشعار في هجاء المشركين محمودة لأمر النبي صلى الله عليه وسلمبها، ولأن ذلك يبقى، فإن الأشعار التي قيلت في بدر وفي أحد وفي غيرها بقيت إلى الآن، ففي هذا دليل على أن من الفضل أن يُهجى المشركون»
[5].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[1] التعليق على صحيح البخاري للشيخ ابن عثيمين۴ (8/ 246 – 266)، والتعليق على صحيح مسلم (9/ 182- 184).

[2] فتح الباري لابن حجر۴ (6/ 140).

[3] صحيح مسلم برقم (1731).

[4] صحيح البخاري برقم (6152)، وصحيح مسلم برقم (2485).

[5] التعليق على صحيح البخاري للشيخ ابن عثيمين۴ (8/ 267 – 278).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١