الجنة دار الطيبين (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)
مدة
قراءة المادة :
22 دقائق
.
الجنة دار الطيبين﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
يقول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32]، ويقول جل في علاه: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73].
من أعظم صفات الفائزين برضا ربِّ العالمين، ودخولِ جنات النعيم: أنهم كانوا في حياتهم الدنيا طيِّبين، ولم يذكر الله سبحانه معمول ذلك الوصف "طيبين"؛ وذلك ليعمَّ، فمن قواعد التفسير أن "حذف المعمول يدلُّ على العموم".
فأهل الجنان إنما استحقُّوا الفوز والإنعام بسبب ما كانوا عليه من الطيبة في عقائدهم ومعاملاتهم، وأخلاقهم وأقوالهم، ومآكلهم ومشاربهم، وألبستهم وأنكحتهم؛ بل وفي خواطرهم وأفكارهم.
فالطيبون عاشوا في دنياهم على الطيبات، وهذا كما يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى: "اسم جامعٌ لكل طيب نافع: من العقائد والأخلاق والأعمال، والمآكل والمشارب والمكاسب"[1].
وقبل بيان بعض المجالات التي عاشوا فيها طيبين، فاستحَقُّوا الفوز بدار الطيبين، لا بأس من بيان معنى الطيب لغة:
معنى الطيب لغة:
قال ابن فارس رحمه الله تعالى: "(طيب): الطاء والياء والباء أصلٌ واحد صحيحٌ يدلُّ على خلاف الخَبيث، من ذلك الطيِّب: ضدُّ الخبيث...ويُقال: هذا طعام مَطْيَبةٌ للنَّفْس، والطَّيِّب: الحلال..."[2].
قال صاحب اللسان رحمه الله تعالى: "(طيب): الطِّيبُ على بناء فِعْل، والطَّيِّب نعت، وفي الصحاح الطَّيِّبُ: خلاف الخَبيث، قال ابن بري: الأمر كما ذكر إلا أنه قد تتسع معانيه فيُقال: أرضٌ طَيِّبة للتي تَصْلُح للنبات، ورِيحٌ طَيِّبةٌ: إذا كانت لَيِّنةً ليست بشديدة، وطُعْمة طَيِّبة: إذا كانت حلالًا، وامرأةٌ طَيِّبة: إذا كانت حَصانًا عفيفةً، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ ﴾ [النور: 26]، وكلمة طَيِّبة: إذا لم يكن فيها مكروه، وبَلْدَة طَيِّبة؛ أي: آمنةٌ كثيرةُ الخير، ومنه قوله تعالى: ﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15]، ونَكْهة طَيِّبة: إذا لم يكن فيها نَتْنٌ، وإن لم يكن فيها ريح طَيِّبة كرائحةِ العُود والنَّدِّ وغيرهما، ونَفْسٌ طَيِّبة بما قُدِّر لها؛ أي: راضية، وحِنْطة طَيِّبة؛ أي: مُتوسِّطة في الجَوْدة، وتُرْبة طَيِّبة؛ أي: طاهرة، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ﴾ [النساء: 43]، وزبُون طَيِّبٌ؛ أي: سَهْل في مُبايعَته، وسَبْيٌ طَيِّبٌ: إِذا لم يكن عن غَدْر ولا نَقْض عَهْدٍ، وطعامٌ طَيِّب للذي يَسْتَلِذُّ الآكلُ طَعْمَه.
ابن سيده: طابَ الشيءُ طِيبًا وطابًا: لذَّ وزَكَا، وطاب الشيءُ أيضًا يَطِيبُ طِيبًا وطِيبَةً وتَطْيابًا...
وقد يَرِدُ الطَّيِّبُ بمعنى الطاهر، ومنه الحديث أنه قال لِعَمَّار: ((مَرحبًا بالطَّيِّبِ المطَيَّبِ))؛ أي: الطاهر المطَهَّر ...
ومنه حديث أبي بكر لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بأبي أنتَ وأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا، وطِبْتَ مَيِّتًا))؛ أي: طَهُرتَ...
والطيِّبُ من كل شيءٍ: أَفضَلُه، والطَّيِّباتُ من الكلام: أَفضَلُه وأَحسنُه..."[3].
1- كانوا طيبين في عقائدهم:
فأهل الجنة - جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه - كانوا على عقيدة التوحيد الطيبة الطاهرة، فلم يتلبَّسوا بنجاسة الشِّرك؛ بل عاشوا على الكلمة الطيبة كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله) وتعايشوا معها، فكانت لهم منهجَ حياةٍ لم يتزحزحوا عنها قِيدَ أنملة، فهم قد علموا الغاية مِن خلقِهم ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فشمَّروا عن ساعد الجدِّ في تحقيق الوظيفة السامية التي أنيطت بهم؛ لعلمهم بعظم شأنها، وكيف لا؟! وهي قد عُرضت على أعظم المخلوقات فأشفَقت منها؛ كما قال جل في علاه: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
فوحَّدوا الله تعالى في ربوبيَّته، وفي ألوهيَّته، وفي صفاته وأسمائه؛ فأيقَنوا أن الله تعالى هو الرب الخالق المالك المدبِّر ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ﴾ [الإسراء: 111].
كما أخلصوا له العبادة وأفرَدوه بها، فكانوا كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ﴾ [الأنعام: 162، 163]، فبقدر توحيدهم لربوبيته سبحانه كان توحيدهم لإلهيَّته، فلم يتلطَّخوا بنجاسة الشرك من قبوريَّة ولا وثنيَّة، ولم تكن قِبلتهم الأضرحة والقبور للطواف وتقديم النذور؛ بل وجهتهم العزيز الغفور، فإياه يدْعون ويرجون، وبه يستغيثون، وإليه يلجؤون، وعليه يتوكَّلون؛ لعلمهم ويقينهم أن النفع والضر، والمنع والعطاء، والرفعة والوضع...
كلُّها بيده سبحانه لا بيد غيره؛ كما قال تعالى ذكره: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 2]، فذكَرَ انفراده بالمنع والعطاء، وهذا كما قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: "يوجب التعلُّق بالله تعالى، والافتقار إليه من جميع الوجوه، وأن لا يُدعى إلا هو، ولا يخاف ويُرجى إلا هو"[4]، وكما قال عز شأنه: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17]، فهم قد علموا أنه "تعالى المنفرد بكشف الضراء، وجلب الخير والسراء؛ ولهذا قال: ﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ﴾ من فقر، أو مرض، أو عسر، أو غمٍّ، أو همٍّ، أو نحوه ﴿ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17]، فإذا كان وحده النافع الضار، فهو الذي يستحق أن يُفرَد بالعبودية والإلهية"[5].
كما وحَّدوه سبحانه في صفاته وأسمائه، فأثبَتوا كل ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، ولم يُلحدوا فيها إلحاد الملحدين، ولم ينحرفوا فيها انحراف المنحرفين، فكان الإثبات مع التنزيه سبيلَهم، وكان التحريف والتعطيل عدوَّهم، فكانوا في منأى عن تأويلات الجهمية والأشاعرة وغيرهم، فأثبتوا لله استواء يليق به ولم يتأوَّلوه بالاستيلاء، وأثبتوا نزوله ولم يتأوَّلوه بنزول أمره، كما أثبتوا كل صفاته الخبرية وصفاته الفعلية على الوجه المرْضي، مُعرضين عن سبيل أهل الأهواء المُخزي.
كما طابت عقيدتهم في أصول الدين، وخاصة ما يتعلَّق بأمور الآخرة، فآمَنوا بالبرزخ والحشر، والميزان والصراط والحساب، والجنة والنار، وأيقنوا بثبوت رؤية العزيز الغفار، خلافًا لمن أنكرها من أهل الاعتزال؛ بل جعلوا هذه الرؤية علمًا، لوصوله يتنافسون، وللفوز به يُسارعون، موقنين بوعد الله: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 26][6].
2 - كانوا طيبين في أخلاقهم:
لعلمِهم بعظم حُسْن الخُلُق وأنه من أقرب ما يوصل إلى الجنة من الطرق، فقد طابت أخلاقهم، وزَكَتْ أقوالهم، فلا يقولون فحشًا ولا هُجرًا، ولا يصدر منهم طعن ولا لعن، ممتثلين أمرَ ربِّهم: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]؛ أي: كلِّموهم طيبًا، ولِينُوا لهم جانبًا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف؛ كما قال الحسن البصري في قوله: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]: فالحُسْن من القول: يأمُر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم ويعفو ويصفح، ويقول للناس حسنًا كما قال الله، وهو كل خُلُق حسن رضيه الله...
وعن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا، وإن لم تجد فَالْقَ أخاك بوجه طلق))[7]"[8].
علِموا أن الفحش والطعن والبذيء من القول ليس من سمات أهل الإيمان، كما صحَّ عن خير الأنام، عليه من ربِّه أفضل الصلاة والسلام: ((ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحش ولا البذيء))، فلا يتلفَّظون إلا بالطيِّب من الكلام، فكما طابت منهم الأفعال، طابت منهم الأقوال، وكيف لا تطيب وقد علموا أن كل كلمة طيبة تعد في ميزان الشرع صدقةً من الصدقات، يتقرَّبون بها إلى ربِّ الأرض والسماوات، ويحصِّلون بها الأجر والمثوبات؟ كما قال الرحمة المهداة عليه من ربِّه أفضل الصلوات: ((والكلمة الطيبة صدقة))[9].
يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "الكلمة الطيبة تنقسم إلى قسمين: طيبة بذاتها، طيبة بغاياتها، أما الطيبة بذاتها كالذِّكر: لا إله إلا الله، الله أكبر، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأفضل الذكر قراءة القرآن، وأما الكلمة الطيبة في غايتها، فهي الكلمة المباحة كالتحدث مع الناس إذا قصدت بهذا إيناسهم وإدخال السرور عليهم، فإن هذا الكلام وإن لم يكن طيبًا بذاته، لكنه طيب في غاياته في إدخال السرور على إخوانك، وإدخالُ السرور على إخوانك مما يُقرِّبك إلى الله عز وجل، فالكلمة الطيبة صدقة، وهذا من أعم ما يكون"[10].
أيقَنوا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((إن أحبَّكم إليَّ وأقربَكم مني في الآخرة مجلسًا أحاسنُكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقًا...))[11]، فجاهَدوا أنفسهم للتحلِّي بالفضائل وأحسن الأخلاق؛ من الصدق والكرم والشجاعة، والإيثار والجود، والصبر والأمانة والعفة، والتخلِّي عن الرذائل ومساوئ الصفات؛ من الكذب والخيانة، والظلم، والنميمة والغيبة، والبخل، وغيرها.
وكما أحسَنوا في عبادة الخالق، أحسَنوا في معاملة الخَلْق، راجين وعدَ الله للمحسنين: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]؛ أي: للذين أحسنوا في عبادة الخالق بأنْ عبدوه على وجه المراقبة والنصيحة في عبوديته، وقاموا بما قدروا عليه منها، وأحسنوا إلى عباد الله بما يقدرون عليه من الإحسان القوليِّ والفعلي؛ من بذل الإحسان الماليِّ، والإحسان البدني، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهلين، ونصيحةِ المعرِضين، وغير ذلك من وجوه البر والإحسان، فهؤلاء الذين أحسنوا، لهم ﴿ الْحُسْنَى ﴾ [يونس: 26]، وهي الجنة الكاملة في حسنها، و﴿ زيادة ﴾، وهي النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، والفوز برضاه، والبهجة بقُربه، فبهذا حصل لهم أعلى ما يتمنَّاه المتمنون، ويسأله السائلون"[12].
3 - كانوا طيبين في أنكحتهم:
لم يكتفِ الطيبون بطيب العقائد والأخلاق؛ بل طابت منهم حتى طرق قضاء الوطر والشهوات، فاجتنبوا الزنا والسفاح، وآثروا العفاف والمشروع من النكاح؛ لعلمهم بخطورة الفرج وأنه سبب الهلاك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثرُ ما يُدخل الناسَ الجنةَ تقوى الله وحُسنُ الخُلُق، وأكثر ما يُدخل الناسَ النارَ الفمُ والفرج))[13].
ائتمروا بأمر ربهم: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30]، فغَضُّوا أبصارهم عن الحرام، وعفُّوا فروجهم عن الآثام، يقول علامة الحجاز السعدي عليه رحمة المنان: "وقل لهم: الذين معهم إيمان، يمنعهم من وقوع ما يخل بالإيمان: ﴿ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾: عن النظر إلى العورات وإلى النساء الأجنبيَّات، وإلى المردان الذين يخاف بالنظر إليهم الفتنة، وإلى زينة الدنيا التي تفتن، وتُوقِع في المحذور، ﴿ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾: عن الوطء الحرام، في قُبل أو دُبر، أو ما دون ذلك، وعن التمكين من مسِّها، والنظر إليها، ﴿ ذَلِكَ ﴾ الحفظ للأبصار والفروج ﴿ أَزْكَى لَهُمْ ﴾: أطهر وأطيب، وأنمى لأعمالهم؛ فإن من حَفِظ فرجه وبصره، طهُر من الخبث الذي يتدنَّس به أهل الفواحش، وزكَتْ أعماله، بسبب ترك المحرَّم الذي تطمح إليه النفس وتدعو إليه، فمن ترك شيئًا لله، عوَّضه الله خيرًا منه، ومن غضَّ بصره عن المحرَّم، أنار الله بصيرته، ولأن العبد إذا حفظ فرجه وبصره عن الحرام ومقدِّماته، مع داعي الشهوة، كان حفظه لغيره أبلغ؛ ولهذا سمَّاه الله حفظًا، فالشيء المحفوظ إن لم يجتهد حافظه في مراقبته وحفظه، وعمل الأسبابَ الموجبة لحفظه، لم ينحفظ، كذلك البصر والفرج، إن لم يجتهد العبد في حفظهما، أوقعاه في بلايا ومحنٍ..."[14].
فاجتنَبوا الزنا وكل ما يُقرِّب إليه من نظرة أو خَلوة أو خطرة؛ لعلمهم بقبحه، وعظم جُرمه، وخطورة مآله، ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 32]، ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴾ [الفرقان: 68، 69].
وكيف يتجرؤون على ذنبٍ أولُ عقابه في عالم البرزخ نارٌ تشتعل في أدبار أهله - عياذًا بالله -؟ فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((رأيتُ الليلةَ رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرَجاني...
فانطلقتُ معهما فإذا بيت مبنيٌّ على بناء التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، يوقَد تحته نار، فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا، فإذا أخمدت رجعوا فيها، فقلت: ما هذا؟! قالا: انطلق...
وأما الذي رأيت في التنور فهم الزناة))[15].
لقد علموا أن حياتهم لن تطيب إلا بنكاح الطيبات من النساء دون الخبيثات السافلات، فالطيب لا يناسبه إلا الطيب؛ كما قال جل في علاه: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾ [النور: 26][16]، فالمرأة الطيبة ذخر لزوجها؛ تسانده في سيره إلى الله تعالى؛ لتقواها وصلاحها، لم يطغَ على قلبها حبُّ الدنيا فتفسد عليه دينه، بل زهدت وزهَّدته فيها، لسان حالها: "هذه يدي في يدك، هيا نُشمِّر للحاق بالركب الفائز، بجنة عرضُها السماوات والأرض يا صاحب".
علموا أن هذا النوع من النساء من خير متاع الدنيا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا متاعٌ، وخيرُ متاعها المرأة الصالحة))[17].
عملوا بوصية الصادق الأمين، عليه من ربِّه أفضل الصلاة والتسليم: ((تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسَبها ولجمالها ولدِينِها، فاظْفَر بذات الدِّينِ تربتْ يداك))[18].
4 - كانوا طيبين في مآكلهم ومشاربهم وألبستهم:
لقد كان أهل الجنة في دنياهم وَرِعِينَ عن أكل الحرام، نائين عن الخبائث، لا يأكلون إلا الطيِّب، ولا يشربون إلا الطيب، فذلك الحلال الذي أحلَّه الله لهم، كما قال جل في علاه: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ﴾ [المائدة: 4]، وقد دلَّت هذه الآية بمفهومها على تحريم الخبائث، كما جاء مصرَّحًا به في قوله سبحانه: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157].
امتثلوا أمر الله بالاكتفاء بالحلال: ﴿ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾ [المائدة: 88]؛ أي: "كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم، بما يسَّره من الأسباب، إذا كان حلالًا لا سرقة ولا غصبًا ولا غير ذلك من أنواع الأموال التي تؤخذ بغير حق، وكان أيضًا طيبًا، وهو الذي لا خبث فيه، فخرج بذلك الخبيث من السباع والخبائث"[19].
تدبَّروا قول المولى سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172]، فعلموا أن العبودية الحقَّة تقتضي ألا يقتاتوا إلا من الطيبات، وأيقنوا أن الحرام يُبعدهم عن خالقهم، ويكون عائقًا ومانعًا من قبول دعواتهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، إن الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيِّبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يُطيل السفر، أشعثَ، أغبَرَ، يمدُّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب! ومطعمُه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!))[20].
5- كانوا طيبين في أفكارهم:
فأفكارهم طابت لطيب عقائدهم، فلم تكن لديهم أفكارُ الزنادقة الملحدين، ولا أفكار الشيوعيين الماركسيين، ولا أفكار الليبراليين، ولا أفكار العلمانيين المستغربين، ولا أفكار العقلانيين المجدِّدين الذين غلوا في تقديس العقل، وحكَّموه على الشرع فضَلُّوا وأضَلُّوا، ولم تكن لهم أفكار الخوارج المارقين الذين يدَعون أهل الأوثان، ويقتُلون أهل الإيمان، مكفِّرين إياهم بمجرد العصيان، ولا أفكار المعتزلة القدريَّة الذين غلَوا في إثبات قدرة الإنسان، حتى جعلوه خالقًا لأفعاله دون مشيئة الرحمن، ولا أفكار الجبرية الذين غلَوا في إثبات القدر حتى اعتقدوا أن الفاعل حقيقةً هو الله عظيم الشَّان، وأن العبد فاعل فقط فيما هو ظاهر للعيان...
فاللهم احشرنا في زمرة الطيبين الذين طابت منهم الأقوال والأفعال والعقائد والأفكار، فكانوا من الفائزين بالدار الطيبة في جوارك يا كريم يا منَّان.
[1] تيسير الرحمن: 944.
[2] معجم مقاييس اللغة: 3/453.
[3] لسان العرب:1 /563.
[4] تيسير الرحمن: 684.
[5] تيسير الرحمن: 251.
[6] عن صهيب رضي الله عنه قال: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، وقال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهل النار النارَ، نادى مُنادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يُريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقِّل الله موازينَنا، ويُبيِّض وجوهنا، ويُدخلنا الجنة، وينجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحبَّ إليهم من النظر - يعني إليه - ولا أقرَّ لأعيُنِهم))؛ صحيح سنن ابن ماجه.
[7] أخرجه مسلم في صحيحه.
[8] تفسير ابن كثير: 1 /317.
[9] جزء من حديث أبي هريرة المتفق عليه: ((كل سُلامى من الناس عليه صدقةٌ: كل يوم تطلع فيه الشمس؛ يعدِل بين الاثنين صدقة، ويُعين الرجل على دابَّته فيحمِل عليها أو يرفع عليها مَتاعَه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خَطوة يخطُوها إلى الصلاة صدقة، ويُميط الأذى عن الطريق صدقة)).
[10] شرح رياض الصالحين: 290.
[11] رواه الإمام أحمد وغيره من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وصحَّحه العلامة الألباني في صحيح الجامع تحت رقم: 1535.
[12] تيسير الرحمن: 362.
[13] أخرجه الترمذي وابن ماجه والإمام أحمد، وصحَّحه العلامة الألباني في السلسلة: 977.
[14] تيسير الرحمن: 566.
[15] متفق عليه من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.
[16] أي: "كل خبيث من الرجال والنساء، والكلمات والأفعال - مناسب للخبيث، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له، وكل طيب من الرجال والنساء، والكلمات والأفعال - مناسب للطيب، وموافق له، ومقترن به، ومشاكل له"؛ تيسير الرحمن: 563.
[17] رواه مسلم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
[18] متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[19] تيسير الرحمن: 242.
[20] رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.