في أدب رد السخرية
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
في أدبِ ردِّ السُّخرية لقد ظهر على مرِّ أحقاب التاريخ المختلفة أشخاصٌ عديدون دعوا لرأي وفكرة معينة، أُوحيت إليهم أم اختلقوها من عند أنفسهم، فصدعوا بها وأعلنوها ودعوا إليها بين صادق وماكر، وكان دأب الداعين - أيًّا كانت دعوتهم- أن يُعارَضوا ويُحارَبوا بشتى أساليب العدوان والمناهضة، فلم يخل داعٍ في مختلف مراحل الزمان إلا وأُوذي وعُورِض، ومنهم من دخل معارضوه معه في حرب شعواء فتكوا به وبمُناشديه، ومن بين أشد أساليب المعارضة والمناهضة تأثيرًا وفتكًا هو أسلوب السخرية! فحينما يريد معارضو أية فكرة أو دعوة تشويهها، يلوذُون إلى السخرية التي هي أحد أسرع وأسهل طرق التبشيع، والتي تشوه صورتها أمام الجمهور الرمادي، وتزعزع إيمان مناشديها، وتوهن معنويات داعيها.
ولقد سخروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعابوه بالجنون: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الحجر: 6]، واستهزءوا به: ﴿ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الحجر: 7].
وما فرارهم إلى السخرية إلَّا من إيمان عميق منهم أن هذه الدعوة قوية التأثير، وكثيرة المتابعين، عاجلًا ظهر ذلك أم آجلًا، ولواذهم إلى السخرية وعدم إذعانهم للدعوة إنما هو جراء كبرهم وعجرفتهم التي شَلَّت أيديهم وأرجلهم للمضي نحوها.
وإن من حكمة الداعي أن يصمد أمام الهجمات المتنوعة، ولا يفسح المجال لزعزعة مكانته داخل قلوب أتباعه وأصحابه، وأن يرد حيَلَهُم بحيَلٍ أخرى أقوى وأشد؛ لأن القويَّة يراد لها الأقوى كي تردها: ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
ويسرد لنا المولى الكريم في الذكر الحكيم عمل نوح عليه السلام مع معارضي فكرته الشديدين حيث سخروا منه ومِمَّا يصنع: ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ﴾ [هود: 38] نبي جليل دعا قومه قرابة ألف سنة، استعمل معهم شتى أساليب الدعوة إلى سبيل الحق، فلم تلِنْ قلوبهم، وفي نهاية المطاف شرع في صناعة سفينة ضخمة في أرض جدباء غريبة عن الماء، فلم يكن شك في تعريضه نفسَه للسخرية: ﴿ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ﴾ [هود: 38] رجل فريد بين قومه شاذ عن عقيدتهم، له مناصرون يُعَدُّون برؤوس الأصابع، أمر عصيب عليه أن ينفذ أمرًا غامضًا لا يفهمه إلا هو -أو وقليل معه- لأنه يعلم حق العلم أن الناس المتربصين لأدنى أخطائه سيُوجِّهون له أنواع التُّهَم العجيبة؛ لكنه لم يأبه بهم ولم يلتفت لما يقولون؛ بل تذكَّر أنهم محل الشفقة والسخرية؛ لأنهم سائرون نحو هاوية قاسية لا ترحمهم؛ لذلك أجابهم: ﴿ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ [هود: 38] أنتم مَنْ تستحقُّون السخرية الحقيقية، أنتم من تفُوِّتون على أنفسكم فرصة النجاة النهائية، أنتم الذين على وشك الفناء المُرِّ والخلود في دركات الشقاء والعذاب؛ لذلك أنا أسخر منكم، وأنا حقيق بأن أستهزئ بكم! وليس استهزائي مجرد ردة فعل عما يصدر منكم؛ بل هو نابع عن يقين بأنهم سوف يحصدون ما كانوا يكسبون: ﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [هود: 39]، والزمن بيننا، وسوف نرى لمن العاقبة ولمن العافية.
هذا كان لسان حال هذا النبي الحكيم، الواقف موقف الثبات والصمود، الذي عرف كيف يرد -كونه داعيًا دعوة صادقة- طعنات وتعريضات منازعيه ومُعارضيه.
يُعلِّمنا القرآن الكريم في هذه القصة المباركة درسًا عظيمًا في أدب رد السخرية، رد السخرية الواهنة بالسخرية المنبثقة من إيمان عميق وثقة غير متناهية، إن كان ذوو العقيدة والفكرة الباطلة والضالُّون -مع ضلالهم هذا- يستهزئون منك -حال كونك داعيًا للحق صادقًا مع ما تدعو إليه- فخذ موقف المواجه القوي الذي يرد استهزاءهم باستهزاء أقوى وأوثق، مبينًا صورتهم الدميمة، وموضحًا مآل ما ينتمون إليه.