أرشيف المقالات

خذ بخطامها

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
خذ بخطامها


النفس مخلوق عظيم عجيب، لذا أقسم الله بها في كتابه فقال: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10].
 
فمن أخذ بزمامها وأحسن قيادتها، أفلح وسَعِدَ وأمِن شرَّها، ومن أهملها وأفلت خطامها، قادتْه للسوء والمهالك؛ قال جل وعلا على لسان امرأة العزير: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53].
 
ولذا وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم الصديق رضي الله عنه أن يستعيذ بالله من شرِّ نفسه حين يُصبح وحين يمسي، وحين يأخذ مضجعه؛ قال أبو بكر: يا رسول الله، قل لي شيئًا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيتُ، قال: "قل: اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، ربَّ كلِّ شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه"، وأمره أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى، وإذا أخذ مضجعه)؛ رواه الإمام أحمد، وصحَّحه الألباني.
 
وحثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها، فقال: "ما يَمنعك أن تسمعي ما أُوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحتِ وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلِح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين"؛ رواه النسائي والبزار، وحسْنه الألباني.
فالنصوص السابقة تدل على أهمية قيادة النفس، وأن الفلاح في تزكيتها بالطاعات، والخيبة والخسار في اتباعها هواها وتَدْسِيَتِها بالمعاصي والآثام، وأنه ينبغي للعبد أن يستعيذ بالله من شرها، ويستغيث بالله من أن يَكله إليها؛ فذلك هو الخسران المبين.
 
والناس مع أنفسهم على أقسام:
* قسم اتَّبعها هواها، وملَّكها قيادته، فأوردها الهلاك وأوقعها في الطغيان، فأرداها في الدنيا والآخرة.
* وقسم ملك قيادتها فأمسَك بزمامها، وقادها إلى كل خير، ونهاها عن غيِّها وهواها.
* وقسم ثالث يقود نفسه تارة ويغير عليها الهوى تارة، ينهاها عن هواها مرة، ويُسلمها لهواها أخرى؛ قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41].
 
ومن رحمة الله بعباده أنه يريد لهم النجاة من الهوى الذي يوردهم المهالك، ولذلك هيَّأ لهم سبحانه من الهبات ما يُمكنهم من قيادة أنفسهم، والإمساك بخطامها فلا تتفلت عليهم، فتكون مطاوعة لهوها.
 
ومن أعظم تلك الهبات شهر رمضان الذي جاء ليعيد للإنسان قيادة نفسه، والأخذ بخطامها ليلتذَّ بقيادتها بعد طول نفرة، ها هي تذعن له وتُسلم له خطامها، ها هو يمنعها عن الطعام والشراب والشهوة أربع عشرة ساعة تزيد قليلًا أو تنقص، وها هو يمنع جوارحه عن كثير من الزلل في نهار رمضان، وهو يصف قدميه مع المصلين، وها هو يدعو مع الداعين، وها هو ينضبط في مواعيد إمساكه وإفطاره.
 
وقد أعان الله العبد على قيادة نفسه في شهر رمضان بأمور؛ منها:
1- خلَّصه من ركام الذنوب والآثام بفُرص الغفران والخلاص من الذنوب؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)؛ رواهما البخاري ومسلم.
 
2- سلسَل الشياطين ومَردة الجن، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غير رمضان؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صُفدت الشياطين، ومردة الجن، وغُلقت أبواب النار، فلم يُفتح منها باب، وفُتِّحت أبواب الجنة، فلم يُغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عُتقاء من النار، وذلك كل ليلة"؛ رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني.
 
3- جعل الصيام شعيرة بارزة يشاركها في كل المسلمين، ونوَّع سبحانه العبادات، وشرع بعض العبادات التي قد يُحرَمها الكثير من الناس في غير مضان؛ كصلاة التراويح، وقيام رمضان، وتفطير الصائمين، وختم القرآن، هذه الدورة الإيمانية المكثفة تُهذب النفس، وتُزكيها، فيُشرق القلب ويستنير، فيَسهل على العبد الأخذ بزمامها وقيادتها.
 
نعم رمضان يعيد إليك الأخذ بزمام نفسك وقيادتها، خذ مثالًا واحدًا: ناصحت شابًّا مولعًا بشرب الدخان والشيشة، وحدَّثته عن الأضرار والآثار التي ستلحق به، فقال لي: لا أستطيع أن أترك التدخين ساعة واحدة، ولكنه استطاع في رمضان أن يتركها أربع عشرة ساعة، ما السر؟ لماذا استطاع أن يترك التدخين في رمضان كل هذه الساعات؟ إنه الأخذ بزمام النفس، وأطْرها على الحق؛ طاعةً لله جل وعلا وإخلاصًا له سبحانه، ولذا من فقِه هذا السرَّ، كان رمضان هو انطلاقته للخلاص من شرب الدخان والشيشة، وهم كُثر والحمد لله.
 
كان قليل الصلة بالقرآن، وفي رمضان أصبح يختم القرآن أكثر من مرة، كان قليلًا ما يوتر، ثم هو في رمضان أصبح من المحافظين على التراويح والقيام، ما السر في ذلك؟ إنه رمضان ملَّكك من قيادة نفسك، ولتنعم بالقرب بعد البُعد، والأُنس بعد الوحشة، ولذة الطاعة بعد شقوة المعصية.
 
أخي المسلم، ما أجمل أن يكون رمضان نقطة انطلاقة لقيادة نفسك؛ لتسعد وتنجوَ في الدنيا والآخرة، فهيَّا خُذ بخطامها أعانك الله، والْهَج بالدعاء: "اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير مَن زكاها، أنت وليُّها ومولاها"، "اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، ربَّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه"، "يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلِح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين".

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢