أرشيف المقالات

ذم الظلم والتحذير منه

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
ذم الظُّلْم والتحذير منه
 
الظُّلْمُ طبيعة إنسانية، وجبلة بشرية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، فطبيعة الإنسان من حيث هو ظالم متجرئ على المعاصي مقصر في حقوق ربه، كفَّار لنعم الله، لا يشكرها ولا يعترف بها إلا من هداه الله، فشكر نعمه، وعرَف حقَّ ربه وقام به[1].
 
وقال تعالى موضحًا أن الظُّلْمُ والجهل طبيعية إنسانية: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
 
فالإنسان كما يقول ابن القيم: "خلق في الأصل ظلومًا جهولًا، ولا ينفك عن الجهل والظُّلْمُ إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويُلهمه رشده، فمن أراد به خيرًا علَّمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه فخرج به عن الظُّلْمُ، ومن لم يرد به خيرًا أبقاه على أصل الخلقة"[2].
 
قال الماوردي: "في طباع الناس من حب المغالبة على ما آثروه، والقهر لمن عاندوه، ما لا ينكفون عنه إلا بمانع قوي، ورادع ملي، وقد أفصح المتنبي بذلك في قوله:
والظُّلْمُ من شيم النفوس فإن تجد *** ذا عِفَّة فلعلةٍ لا يَظلمُ
 
وهذه العلة المانعة من الظُّلْمُ لا تخلو من أحد أربعة أشياء: إما عقل زاجر، أو دين حاجر، أو سلطان رادع، أو عجز صاد"[3].
 
وبما أن الظُّلْمُ طبيعية إنسانية فقد كثرت نصوص الكتاب والسنة الذامة له وأهله،، وبيان مساوئه، وتعداد عواقبه وآثاره.
 
ذم الظُّلْمُ والتحذير منه:
الظُّلْمُ خلق ذميم، وذنب جسيم، وأذى عظيم، ووصف لئيم، يحلق الدين، ويحلق الحسنات، ويجلب الويلات والنكبات، ويورث العداوات والمشاحنات، ويثمر الأحقاد والضغائن، ويسبب القطيعة والعقوق، ويحيل حياة الناس إلى جحيم وشقاء، وكدر وبلاء، قال ابن تيمية: "وكل شر فهو داخل في الظُّلْمُ"[4].
 
وقال ابن القيم: "وأصل كل شر هو الجهل والظُّلْمُ"[5]، والظُّلْمُ إنما ينشأ عن ظلمة القلب[6].
 
وقد ذم الله الظُّلْمُ والظالمين، وحذَّر منهم، وبيَّن مساوئهم، وسوء عاقبتهم، كما يتضح ذلك في الأمور التالية:
الأول: بُغضه تعالى لهم وعدم محبته؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 57]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].
 
الثاني: خِذلانه لهم وعدم نصرته؛ قال تعالى: ﴿ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ [فاطر: 37]، وقال تعالى: ﴿ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [الشورى: 8].
 
الثالث: النهى عن القرب من الظالمين، والركون إليهم، ومجالستهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ [هود: 113]، وقال تعالى: ﴿ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68]، وقال تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 47]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 150].
 
الرابع: الضلال وعدم الهداية: قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51].
 
الخامس: الخسارة وعدم الفوز والفلاح: قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنعام: 21].
 
السادس: تحذيرهم وتهديدهم بالعقوبة: قال تعالى: ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ﴾ [الزمر: 51].
 
السابع: دمارهم وهلاكهم وخراب قراهم وبيوتهم ودولهم؛ قال تعالى: ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ﴾ [النمل: 52]، وقال تعالى: ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ [الحج: 45].
 
الثامن: توعُّدهم بالويل والثبور؛ قال تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ [الزخرف: 65]، وقال تعالى: ﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 14].
 
التاسع: وعْدُهم بالنار، وبئس القرار؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 29]، وقال تعالى: ﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ [الحشر: 17].
 
العاشر: شناعة موتهم وشدة نزع أرواحهم وعذابهم في قبورهم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الأنعام: 93]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ﴾ [النحل: 28].
 
الحادي عشر: أعد الله لهم عذابًا مهينا أليمًا؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 22]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 21]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 42].
 
الثاني عشر: الندم يوم القيامة، وعض الأصابع؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ﴾ [الشورى: 44]، وقال تعالى: ﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 97]، وقال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 27].
 
الثالث عشر: لعنهم الله وغضب عليهم؛ قال تعالى: ﴿ لَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 18]، وقال تعالى: ﴿ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 44].
 
الرابع عشر: إهلاك الله لهم؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾ [الأنعام: 131]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [العنكبوت: 31]، وقال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40].
 
الخامس عشر: شدة حسرتهم وفزعهم ورُعبهم يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ [الزمر: 47]، وقال تعالى: ﴿ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ ﴾ [الشورى: 22].
 
السادس عشر: شناعة وسوء عاقبتهم؛ قال تعالى: ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 39]، وقال تعالى: ﴿ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 40]، وقال تعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 14].
 
وفي مقابل ذلك كثُرت نصوص الكتاب والسنة في الحث على العدل، ومدح أهله، وتعداد محاسنه.
 
وهذه النصوص الكثيرة تدل على أمرين:
الأمر الأول: أن كل عمل لا يوافق ما أمر الله به ورسوله، فإنه ظلم؛ لأنه خروج وإعراض عن أمر الله ورسوله.
 
الأمر الثاني: الابتعاد عن الظُّلْمُ، والتخلص منه، والحث على إقامة العدل، فمن ابتعد عن الظُّلْمُ، واتسم بالعدل، كملت إنسانيته، ورُفعت درجتُه، وعلتْ منزلتُه، ومن وقع في الظُّلْمُ وجانب العدل، نقصت منزلته، وانسلخ من إنسانيته، قال الراغب: "ومن خرج عن تعاطي العدل بالطبع والخلق والتخلق والتصنُّع والرِّياء والرغبة والرهبة، فقد انسلخ عن الإنسانية"[7].
 
والله سبحانه قد جعل للعدل المأمور به حدًّا، فمن تجاوزه كان ظالِمًا معتديًا، وله من الذم والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه[8]، والخارج عن العدل إلى الظُّلْمُ مستوجب سخط اللَّه عز وجل بقدر خروجه عنه، إلَّا أن يتغمده اللَّه تعالى بعفوه[9].



[1] تيسير الكريم الرحمن، لابن سعدي، ص: 426.


[2] إغاثة اللهفان، لابن القيم: 2 /136- 137.


[3] أدب الدنيا والدين، للماوردي، ص 134.


[4] الفتاوى الكبرى، لابن تيمية 1 /97.


[5] إغاثة اللهفان، لابن القيم: 2 /136- 137.


[6] ينظر: فتح الباري، لابن حجر: 5 /100.


[7] الذريعة، للراغب، ص: 254.


[8] ينظر: إغاثة اللهفان، لابن القيم: 2 /136- 137.


[9] الذريعة، للراغب، ص: 252.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢