أرشيف المقالات

التحذير من بدع شهر رجب

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
التحذير من بدع شهر رجب
 
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن مما لا شك فيه أن الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة في اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن سار على نهجه اهتدى، ومن خالف سنته ضل وغوى؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54]، فطريقه هو الصراط المستقيم، وسبيله هو النهج القويم؛ قال سبحانه: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
 
واتباعه صلى الله عليه وسلم هو الشرط الثاني من شرطي قبول العمل الصالح؛ فيجب على كل مسلم طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألَّا يعبد الله إلا بما شرع، وهذا من معنى الإيمان بأنه رسول الله؛ قال سبحانه: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7].
 
وكما أُمرنا باتباعه صلى الله عليه وسلم، أُمرنا بعدم التعبد بما ليس من هَدْيه، ولا من سنته؛ فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((...
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)
)
، وفي رواية عند مسلم: ((وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار))؛ رواه أبو داود وأحمد وغيرهما، وصححه الألباني.
 
فلا يجوز الابتداع في دين الله تعالى، ومن ابتدع في الدين شيئًا من الأعمال لم يقبل منه؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رَدٌّ))؛ رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما،وفي رواية لهما: ((من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ)).
 
ومع ذلك، فقد أحدث الناس في الدين بدعًا كثيرة، وروَّجوا لها، ونشروها في الأمة، وأغراهم بها الشيطان، مستغلًا جهل بعض المسلمين بخطورة البدع، ومن هذه البدع التي ظهرت في الأمة: ما يفعله بعض المسلمين من تخصيص شهر رجب بصلاة معينة أو صيام، أو عمرة أو دعاء، وكل ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت في فضل شهر رجب إلا أنه من الأشهر الحرم، وقد كان أهل الجاهلية يعظمونه.
 
قال ابن حجر رحمه الله في سبب تسميته بهذا الاسم: "كان يُرجَّب في الجاهلية - يعني: يعظم - حتى إنهم أوصلوا أسماءه إلى ثمانية عشر اسمًا؛ لتعظيمهم له".
 
وأما تخصيصه بالصيام فليس مشروعًا، بل هو من أمور الجاهلية، وقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يضرب أكف الرجال في رجب ليضعوها في الطعام ويأكلوا؛ حتى لا يخصوا رجب بصيام، ويقول: "ما رجب؟ إن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه، فلما كان الإسلام ترك".
 
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وأما صوم رجب بخصوصه، فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات"؛ مجموع الفتاوى (290/25).
 
وقال ابن القيم رحمه الله: "كل حديث في ذكر صيام رجب وصلاة بعض الليالي فيه، فهو كذب مفترًى"؛ المنار المنيف (96).
 
ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب؛ ففي الحديث المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((...
وما اعتمر في رجب قط)
)
؛ تعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
 
فليس من السنة تعمد تخصيص العمرة في رجب، أما من لم يقصد تخصيص رجب، وإنما تيسرت له فيه، فلا حرج عليه أن يعتمر فيه، وكذلك من صام فيه الإثنين والخميس أو الأيام البيض؛ لفضل هذه الأيام - فلا حرج عليه؛ لأنه لم يقصد تخصيص شهر رجب.
 
ومن الأدعية المشهورة في رجب، التي لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان))؛ ضعفه الألباني، وقال ابن العثيمين رحمه الله عن هذا الحديث: ضعيف منكر.
 
ومن البدع التي أُحدثت في هذا الشهر بدعةُ الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من رجب، وتخصيص تلك الليلة ببعض العبادات، مع أن تاريخ معجزة الإسراء والمعراج مختلف فيه، وحتى لو ثبتت صحة هذا التاريخ، فإنه لم يشرع لنا الاحتفال به، نعم هي معجزة عظيمة ثابتة بلا شك، ولكن الاحتفال بتلك المعجزة لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
 
أيها الأحبة في الله، لقد أكمل الله الدين وأتم علينا النعمة، وبلَّغ نبينا صلى الله عليه وسلم الرسالة، وأدى الأمانة، ولم يترك خيرًا إلا ودلنا عليه، ولا شرًّا إلا وحذرنا منه؛ قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]؛ ولذلك قال الإمام مالك رحمه الله: "من أحدث من هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة".
 
ويجب أن نعلم أن من الغاية ما لا يبرر الوسيلة، فغالب من يفعل شيئًا من البدع من المسلمين، يفعلها بنية التقرب إلى الله والوصول إلى رضاه، ولكن كم من مريد للخير لا يصيبه! ولذا تجد من يقول لك ممن يحتفل بالإسراء والمعراج، أو بمولده صلى الله عليه وسلم: نفعل هذا حبًّا في النبي صلى الله عليه وسلم، أيعذبنا الله على محبته؟ فقل لهم: لا، ولكن احذروا من أن يعذبكم على الابتداع في دينه ومخالفة سنته؛ كما قال سعيد بن المسيب رحمه الله لذلك الرجل لما رآه يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، ويكثر فيها الركوع والسجود - فنهاه، فقال: "يا أبا محمد، أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة"؛ رواه عبدالرزاق في المصنف، والبيهقي في السنن الكبرى، وصححه الألباني.
 
وما أكثر من ينشطون للبدع، ويتهاونون في تطبيق السنن الثابتة! فمن أراد الخير، فخير الهَدْيِ هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يرزقنا اتباعه، والسير على خطاه حتى نلقاه، فنشرب من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا.
 
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣