أهوال القبر ( دخول الجليس )
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
أهوال القبور وأول ليلة فيه .. دخول الجليس
الدار الآخرة أول ليلة في القبر وأهوال القبور (4)
فعندما يُفتح للرجل الصالح بابٌ من النار ثم يُغلق عنه، فيقال له: هذا مقعدك لو كنتَ عصيتَ الله، ثم يُفتح له بابٌ إلى الجَنَّة يرى مقعده، فيتمنى على الله أن تقوم الساعة، حتى يعود إلى منزله في الجَنَّة.
وأما من عاش لدنياه واتبع هواه وعصى مولاه، فهذا يُفتح له باب إلى الجَنَّة حتى يرى قصورها ويَشمَّ عبيرَها ثم يُغلق عنه، ويقال: هذا مقعدك لو كنتَ أطعتَ الله، ثم يُفتح له بابٌ إلى النار ويقال: هذا مقعدك لأنك عصيتَ الله.
إنه لَألمٌ وحسرة تعمل في النفوس، كما تعمل الديدان في الأجساد.
• ومع هذه الحسرات، وتلكم الكُرُبات، والدواهي العظام، والتي تأتي تباعًا، فلم يكد هذا العبد المسكين يُفيق من واحدة إلا والثانية على إثرها، فلم يستفق من فزع تكليم القبر له، إلا ويجد جدران القبر قد ضمَّته ضمةً اختلفت معها أضلاعه، ثم يأتيه ملَكانِ أسودان أزرقان ينتهرانه بصوت كالرعد، فيسألانه فيتلعثم، فيفتح له باب من النار، ويأتيه من حرِّها وسمومها، ويا ليت الأمر يقف عند هذا!
لكن يدخل عليه رجل أسود الوجه، قبيح الثياب، نتن الرائحة، فيقول له العبد في ألم وحسرة: من أنت؟! وكأنه يقول له: من أنت أيضًا؟
• ولك أن تتخيل تلك الصورة! فمع ظلمة القبر، ووحشة الانفراد، وتتابع الأهوال، وخوف المجهول، فيدخل على العبد كذلك رجل أسود اللون، كئيب الوجه، قبيح المنظر، وهكذا الذنوب كذلك تكون بهذا القبح، والإنسان منَّا إذا جلس دقائق مع إنسان يكرهه أو مع إنسان رائحته كريهة لمرَّت هذه الدقائق كأنها سنين، فكيف بهذا الجليس كريه الرائحة، أسود الوجه يكون مع هذا الإنسان إلى يوم القيامة؟! إنها داهية من دواهي وأهوال القبر.
• أما العبد الذي عاش لمولاه وخالف هواه، فيتمثل عمله في صورة رجل أبيض الوجه، أبيض الثياب، طيب الرائحة، كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال كما في حديث البراء بن عازب: ((يمثل له رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيِّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرُّك، أبشر برضوانٍ من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنتَ تُوعد، فيقول له: وأنت فبشَّرك الله بخير، من أنت؟ فوجهُك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح...)).
فهيا أخي الحبيب..
بادِرْ بفعل الخيرات؛ فإنها الباقيات الصالحات.
وصدق القائل حيث قال:
العَينُ تَبكي على الدُّنيا وقد عَلِمَتْ
أنَّ السَّلامةَ فيها ترْكُ ما فيها
لا دارَ للمرءِ بعد الموتِ يَسكُنُها
إلا التي كان قبل الموت يَبنِيها
فإنْ بناها بِخيرٍ طابَ مَسكنُه
وإنْ بناها بِشرٍّ خاب بانيها
لا تركنَنَّ إلى الدُّنيا وزُخرُفِها
فالموتُ لا شكَّ يُفنِينا ويُفنيها
وقال آخر:
تَزوَّد من الدُّنيا فإنَّك راحِل
وَسارع إلى الخَيراتِ فيمَن يُسارِعُ
فما المالُ والأَهْلُونَ إلاَّ وَدَائِع
وَلا بُدَّ يومًا أن تُردَّ الوَدائعُ
ما يَنفعُ الإنسانَ في قَبره
إلاَّ التُّقى والعَملُ الصَّالحُ
نداء:
يا أهل الدِّيار المُوحشة، والمحالِّ المُقفرة، والقبور المُظلمة، يا أهل التُّربة، يا أهل الغُربة.
يا أهل الوَحدة، يا أهل الوحشة.
أنتم لنا فَرط سابق، ونحن لكم تبَع لاحق، أما الدُّور فقد سُكِنت، وأما الأزواجُ فقد نُكِحت، وأما الأموال فقد قُسمت، هذا خبرُ ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟
أما لو أُذِن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى، فاعمل - أخي الحبيب - ما تلقى نفعَه بعد موتك، وبادر أيام صحَّتك بالعمل الصالح، فيُخشى على مَن فرَّط في ذلك، أن يصل إلى الميعاد بغير زاد.
حديث جامع لما سبق:
يُبيِّن لنا فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحدث لحظة خروج الرُّوح، وما يكون في القبر، وحال العبد الذي عاش لهواه ودنياه، وكان بعيدًا بعيدًا عن مولاه، وحال العبد الذي أطاع مولاه، وخالف هواه، ولم تستأسره دنياه.
فقد جاء في "مسند الإمام أحمد" وغيره من أهل السنن عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحَدْ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُستقبلَ القبلة، وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فجعل ينظر إلى السماء وينظر إلى الأرض، وجعل يرفع بصره ويخفضه ثلاثًا، فقال: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر)) مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر)) ثلاثًا، ثم قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكةٌ من السماء بيضُ الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجَنَّة، وحنوطٌ من حَنوط الجَنَّة[1] حتى يجلسوا منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت - عليه السلام - حتى يجلسَ عند رأسه، فيقول: أيتها النَّفس الطيِّبة - وفي رواية: المطمئنة - اخرُجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيلُ كما تسيلُ القَطرةُ من فِي السقاء[2]، فيأخذها - وفي رواية: حتى إذا خرجت رُوحه صلَّى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفُتحت له أبواب السماء، ليس من أهل بابٍ إلا وهم يدْعون الله أن يُعرج بروحه من قِبَلهم، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفةَ عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، فذلك قوله تعالى: ﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61]، ويخرُجُ منها كأطيب نفحة مسك وُجِدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرُّوح الطيب؟ فيقولون: فُلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتِحون له، فيُفْتَح لهم، فيُشيِّعُه مِن كل سماء مقرَّبوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهوا إلى السماء السابعة، فيقول الله - عز وجل -: اكتبوا كتاب عبدي في عليِّين، ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [المطففين: 19 - 21].
فيُكتب كتابه في عليين[3]، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض، فإني وعدتهم أنِّي منها خلقتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومنها أُخرجُهُم تارةً أُخرى، قال: فيُردُّ إلى الأرض، وتُعاد رُوحه في جسده، قال: فإنه يسمع خفْقَ نعال أصحابه إذا ولَّوا عنه مدبرين، فيأتيه ملكان شديدَا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولون له: ما دِينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولان له: ما عِلمُك؟، فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقت، فينادي منادٍ من السماء: أن صدَق عبدي، فأفرشوه من الجَنَّة، وألبسوه من الجَنَّة، وافتحوا له بابًا إلى الجَنَّة، قال: فيأتيه من رَوحها وطِيبها، ويُفسح له في قبره مدَّ بصرِه، قال: ويأتيه - وفي رواية: يمثل له - رجلٌ حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرُّك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت تُوعد، فيقول له: وأنت فبشَّرك اللهُ بخير، مَن أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتُك إلاَّ كنتَ سريعًا في طاعة الله، بطيئًا في معصية الله، فجزاكَ الله خيرًا، ثم يُفتح له باب في الجَنَّة وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيتَ الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجَنَّة قال: ربِّ، عجِّل قيام الساعة كيما أرجعَ إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن.
قال: وإن العبد الكافر - وفي رواية: الفاجر - إذا كان في انقطاع من الآخرة وإقبال من الدنيا، نزل إليه من السماء ملائكة غلاظٌ شدادٌ، سودُ الوجوه، معهم المسوح[4] من النار، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملَكُ الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرُجي إلى سخطٍ من الله وغضب، قال: فتفرق[5] في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفُودُ[6] الكثير الشُّعب من الصوف المبلول، فتقطعُ معها العروق والعصب، فيلعنه كلُّ ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتُغلق أبواب السماء، ليس من أهل بابٍ إلا وهم يدعون الله ألا تعرج رُوحه من قِبَلهم، فيأخذونها، فإذا أخذوها، لم يدَعوها في يده طرفة عينٍ حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفةٍ وُجِدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرُّون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرُّوح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، حتى يُنتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يُفتح له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ﴾ [الأعراف: 40]، فيقول الله - عز وجل -: اكتبوا كتابه في سجِّين[7]، في الأرض السفلى، ثم يقال: أعيدوا عبدي في الأرض، فإني وعدتهم أنِّي منها خلقتُهم، وفيها أُعيدهُم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيطرح رُوحه من السماء طرحًا[8]، حتى تقع في جسده، ثم قرأ: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾[9] [الحج:31]، فتُعاد روحه في جسده، قال: ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولَّوا عنه، ويأتيه ملكان شديدَا الانتهار، فيَنتهرانه ويُجلسانه، فيقولان له: مَن ربك؟، فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد - صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك، قال: فيقال: لا دريت ولا تَلَوْتَ[10]، فينادي منادٍ من السماء: أنْ كذَب عبدي، فأفرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا من النار، فيأتيه من حرِّها وسمومها[11]، ويُضيق عليه قبره حتى تختلف[12] أضلاعه، ويأتيه - وفي رواية: ويمثل له رجلٌ - قبيح الوجه، قبيح الثياب، مُنتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت فبشرك الله بالشَّر، من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئًا عن طاعة الله، سريعًا إلى معصية الله، فجزاك الله شرًّا، ثم يُقيَّض له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة[13]، لو ضرب بها جبل كان ترابًا، فيضربه ضربةً حتى يصير بها تُرابًا، ثم يُعيدُه الله كما كان، فيضربه ضربةً أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين[14]، ثم يُفتح له باب من النار، ويمهدُ من فرش النار، فيقول: ربِّ، لا تُقِم الساعة)).
[1] والحنوط كما مر بنا هو طيب يُخْلَط للميِّت خاصَّة.
[2] أي: تخرج من الجسد بسهولة كانسياب قطرة ماء من فم القربة أو الإناء.
[3] قال ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (14/288): "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾ [المطففين:18]، يعني: الجَنَّة، وفي رواية العوفي عنه: أعمالهم في السماء عند الله، وكذا قال الضحاك، وقال قتادة: "عليون" ساق العرش اليمنى، وقال غيره: "عليون" عند سدرة المنتهى، والظاهر أن ﴿ عِلِّيِّينَ ﴾ مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع، عظُم واتَّسع؛ اهـ.
[4] المُسوح: جمع: "مِسْح" وهو الكساء من الشعر.
[5] الفَرَقُ: الفزع والخوف.
[6] السَّفُّودُ والسُّفُّودُ: حديدة ذات شُعبٍ مُعَقَّفَةٌ - أي: ملتوية معوجة، يشوى به اللحم.
[7] قال ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾ [المطففين:7]؛ أي: مصيرهم ومأواهم لفي سجين، فِعِّيل من "السجن": وهو الضيق؛ اهـ.
[8] أي: تُرْمَى رميًا.
[9] قال ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (10/53) في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ ﴾؛ أي: سقط منها ﴿ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ﴾؛ أي: تقطعه الطيور في الهواء، ﴿ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾؛ أي: بعيد، يهلِك مَن هوى إليه.
[10] "لا دريت ولا تليت": قال ابن حجر في "الفتح" (3/239): "قال ثعلب: "أي: لا فَهِمتَ ولا قرأتَ القرآن، ولا تبِعت من يدري".
[11] السَّمُومُ: الريح الحارة.
[12] الخلاف: المضادة: "واختلاف الأضلاع" والله أعلم، تضادُّها: أي: تُصبح الضلوع اليمنى موضع اليسرى، واليسرى موضع اليمنى من شدة الضمَّة والعياذ بالله، والمعنى القريب لفهمي أن الخلاف هو تدخُّل الضلوع بعضها في بعض، ويشير لهذا ما فعله النبي عندما شبَّك بين أصابعه، والله أعلم، وهذا الحديث يدل على أن العذاب في القبر يكون للروح والجسد؛ لأن الأضلاع من الجسد.
[13] ويقال لها أيضًا: "الإِرْزَبَّة": وهي المطرقة الكبيرة التي تكون للحدَّاد، وهي من حديد.
[14] الثقلين: الإنس والجن.