الخوف من الله
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
الخوف من اللهقال ابن رجب رحمه الله[1]: "القَدْرُ الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم، فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات، والتبسط في فضول المباحات - كان ذلك فضلًا محمودًا، فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضًا أو موتًا أو همًّا لازمًا، بحيث يقطع عن السعي في اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز وجل - لم يكن محمودًا".
والخوف المحمود له مواطن:
1- عند فعل الطاعات:
فيخشى المؤمن بعد فعل الطاعة ألَّا يقبلها ربه سبحانه؛ فيحمله ذلك على المزيد من الطاعات والقربات؛ قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، فهم يبذلون وينفقون من كل ما يقدرون عليه؛ من صلاة، وزكاة، وحج، وصدقة، وغير ذلك، ومع هذا قلوبهم خائفة عند عرض أعمالها عليه سبحانه يوم القيامة والوقوف بين يديه أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله، مع أنهم كما وصفهم ربهم: ﴿ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61].
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]، قالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألَّا تُقبل منهم ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61]))[2].
وقال سبحانه: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 8 - 10]، فهم يتصدقون؛ لأنهم يخافون، فدفعهم الخوف إلى الاجتهاد في طاعة الله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة))[3].
فمن خاف البيات والإغارة من العدو وقت السحر، أدلج وسار أول الليل، ومن أدلج بلغ المنزل ووصل إلى المطلب، ومن خاف الله عز وجل تيقظ وتنبه، وكان على حذر من خطوات الشيطان ووساوس النفس الأمارة بالسوء.
ولما توفي عثمان بن مظعون قالت امرأة من الأنصار تكنى أم العلاء: ((رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريكِ أن الله أكرمه؟ فقالت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هو فوالله لقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، ووالله ما أدري وأنا رسول الله ماذا يُفعل بي...))[4].
وعن يحيى الغساني رحمه الله قال: جاء سائل إلى ابن عمر فقال لابنه: أعطه دينارًا، فقال له ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه، فقال: لو علمت أن الله تقبل مني سجدةً واحدةً أو صدقة درهم واحد، لم يكن غائبٌ أحبَّ إليَّ من الموت، أتدري ممن يتقبل الله؟ ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27][5].
ويُذكر عن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: "من خاف دلَّه الخوف على كل خيرٍ".
ولهذا كان الصالحون يدعون ربهم سبحانه أن يتقبل أعمالهم؛ فهذا الخليل عليه السلام يقول: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40]، وقال الله سبحانه: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35]، وعن عائشة رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبشٍ أقرنَ يطأ في سَواد، ويبرُك في سواد، وينظر في سَواد، فأُتي به ليُضحِّيَ به، فقال لها: يا عائشة، هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر، ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه، ثم ذبحه، ثم قال: باسم الله، اللهم تقبل من محمد، وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى به))[6].
2- عند الهم بمعصية الله تعالى:
إن من أقوى ما يعصم المؤمن من فعل الذنوب والمعاصي استحضار الخوف من الله سبحانه إذا هم بذنب:
إذا ما خلوتَ الدهر يومًا فلا تقل
خلوتُ ولكن قُلْ عليَّ رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قالت الملائكة: رب، ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئةً - وهو أبصر به - فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنةً، إنما تركها من جرَّايَ))[7].
قال الله تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 27 - 31]، فما حمل الأخ الصالح على عدم قتل أخيه واقتراف الذنب إلا خوفه من ربه.
ولما أبى بنو إسرائيل أن يحاربوا مع موسى عليه السلام لدخول الأرض المقدسة، ثبت رجلان مع موسى عليه السلام وما تلبسوا بمعصية هؤلاء، بل قاما فوعظا الناس وحثاهما على التوكل على الله، ودخول الأرض، والوقوف مع موسى عليه السلام؛ قال الله تعالى: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 22، 23].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه))[8].
وفي قصة أصحاب الغار الثلاثة قال أحدهما: ((اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبتُ إليها نفسها، فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعِبتُ حتى جمعت مائة دينار[9]، فجئتها بها، فلما وقعتُ بين رجليها، قالت: يا عبدالله، اتقِ الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمتُ عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك...))[10]، وفي رواية[11]: ((فقالت: أُذكِّرك الله تعالى أن تركب مني ما حرم الله عليك، قلت: فأنا أحق أن أخاف ربي عز وجل، فتركتها من مخافتك وابتغاء مرضاتك)).
وعن نافع رحمه الله قال: "خرج ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له، ووضعوا سفرة له، فمر بهم راعي غنم، فسلم، فقال ابن عمر: هلمَّ يا راعي هلم، فأصب من هذه السفرة، فقال له: إني صائم، فقال ابن عمر: أتصوم في مثل هذا اليوم الحار، شديد سمومه وأنت في هذه الجبال ترعى هذا الغنم؟ فقال له: أيْ والله أبادر أيامي الخالية، فقال له ابن عمر وهو يريد يختبر ورعه: فهل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك هذه، فنعطيك ثمنها، ونعطيك من لحمها، فتفطر عليه؟ فقال: إنها ليست لي بغنم، إنها غنم سيدي، فقال له ابن عمر: فما عسى سيدك فاعلًا إذا فقدها، فقلتَ: أكلها الذئب؟ فولى الراعي عنه وهو رافع أصبعه إلى السماء، وهو يقول: أين الله؟ قال: فجعل ابن عمر يردد قول الراعي وهو يقول: قال الراعي: فأين الله؟ قال: فلما قدم المدينة بعث إلى مولاه فاشترى منه الغنم والراعي، فأعتق الراعي ووهب له الغنم"[12].
3- بعد ارتكاب الذنب:
فالمؤمن إذا فعل ذنبًا تملكه الخوف من الله سبحانه، إنه لا يحتقر ذنبًا فعله، فهو لا ينظر إلى صغر الذنب، وإنما ينظر إلى عظم من عصاه وهو الله سبحانه.
إنه يخشى ذنوبه، ويخاف عقاب ربه سبحانه، فيملأ قلبه الحزن والكمد على عصيانه، فهو كما روى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مر على أنفه، فقال به هكذا، قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه))[13].
وفي قصة صاحب الرغيف، ذلكم العابد الذي عبد الله سنين عديدة، أصابته غفلة فوقع في كبيرة الزنا، فماذا فعل؟ قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ((كان رجل يتعبد في صومعة أراه سبعين سنة، لا ينزل إلا في يوم أَحَدٍ، فنزل في يوم أحد فشبَّ الشيطان في عينه امرأةً، فكان معها سبعة أيام وسبع ليال، وفي رواية: ففُتن بامرأة، قال: ثم كُشف عن الرجل غطاؤه فخرج تائبًا، فكان كلما خطا خطوةً صلى وسجد...))[14].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني عالجتُ امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبتُ منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا، فاقضِ فيَّ ما شئت، فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت نفسك، قال: فلم يردَّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، فقام الرجل فانطلق))، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا دعاه، وتلا عليه هذه الآية: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، فقال رجل من القوم: يا نبي الله، هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة))[15].
فما حمله على المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الخوف من الله سبحانه بعدما ارتكب هذا الذنب.
وما جاء ماعزٌ رضي الله عنه ولا الغامدية رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما وقعا في كبيرة الزنا إلا الخوف من الله سبحانه، فطلبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليهما الحد؛ ليغفر الله لهما هذا الذنب.
[1] "التخويف من النار"، ط: البيان، ص: 34.
[2] مختلف فيه: أخرجه أحمد (6/ 159)، والترمذي (3175)، وابن ماجه (4198)، وفي سنده اختلاف، وقيل: هو منقطع.
[3] سنده ضعيف، وصححه بعض العلماء: أخرجه الترمذي (1460)، والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 382).
[4]أخرجه البخاري (7003).
[5] أخرجه ابن عبدالبر في "التمهيد" (4/ 256).
[6] أخرجه مسلم (1967).
[7] أخرجه البخاري (42)، ومسلم (129).
[8] أخرجه البخاري (1423)، ومسلم (1031).
[9] وفي رواية لمسلم: ((فامتنعَتْ مني حتى ألَمَّت بها سنةٌ من السنين، فجاءتني فأعطيتُها عشرين ومائة دينار)).
[10] أخرجه البخاري (2215)، ومسلم (2743).
[11] أخرجها الطبراني في "الدعاء" (187)، وأبو عوانة في مستخرجه (5581)، بسند حسن.
[12] صحيح: أخرجه أبو داود في "الزهد" (293)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4908).
[13] أخرجه البخاري (6308)، ومسلم (2744).
[14] أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 185)، وابن زنجويه (1323).
[15] أخرجه البخاري (526)، ومسلم (2763)، واللفظ له، "عالجْتُ امرأةً": معنى عالجها: تناولها واستمتع بها، "دون أن أمسها": المراد بالمسِّ: الجماع.