حقيقة العلم والعالم عند أولي الألباب
مدة
قراءة المادة :
21 دقائق
.
حقيقة العلم والعالم عند أولي الألبابفضل العلم والعلماء مقطوع به عند العقلاء فضلاً عن طلاب العلم وغيرهم، وحقهم محفوظ مذكور في القرآن والسُّنة كثيرًا، والنصوص أشهر من أن تُذْكر، ولكني أخص بالذكر قوله تعالى ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقًا يطلب فيه علما سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رِضًا بما يصنع، وإن العالِم لَيَسْتَغْفِرُ له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا، إنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر))؛ صحيح الجامع.
ولهذا فإن أرفع الناس قدرًا ومنزلة في الدنيا والآخرة هم ورثة الأنبياء وهم العلماء، وهم يتفاوتون في الفضل والعلم والدرجات والقُرْب من الله جل في علاه، قال تعالى ﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76]، وبما أن العلماء يتفاوتون في العلم، كذلك الناس يتفاوتون في العلم والوعي والإدراك، ولهذا قسم الله الناس إلى قسمين: عالم وجاهل، وأمر لله تعالى الجاهل أن يسأل أهل الذكر وهم العلماء، قال تعالى ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 7]، وأوجب الله على الجميع الرجوع إلى الكتاب والسُّنة والعلماء الربانيين العاملين؛ لمعرفة أحكام الدين، وخاصة أحكام النوازل والفتن عند وقوعها، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ [النساء: 83]، قال أهل العلم: وعلى رأس أولي الأمر العلماء.
ولكن من هم العلماء؟ ومن هو العالم بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة؟
الكثير من طلاب العلم فضلاً عن غيرهم من يُطْلَق عليه في هذه الأيام كلمة عالم فضلاً عن العلاَّمة والمحدِّث وإمام الجرح والتعديل....
الخ، فمن هو العالم الحقيقي الذي يستحق هذا الاسم عن جدارة؟ علمًا أني أقرأ وأسمع قديمًا وحديثًا لكثير من الناس، ولكني لم أجد العلم الحقيقي، ولا لذته عند أكثرهم، وهذا مما وفقني الله إليه؛ لأميز بين العالم الحقيقي الذي يعلم ويعرف حقيقة العلم وفنونه وأصوله وفروعه، ولا يتكلم إلا بالعلم الشرعي المنضبط بأصول وقواعد الشرع الحنيف، وبين من يتكلم باسم العالِم، ولا يعلم العلم إلا إجمالاً، فليس كل من يتكلم بالعلم والتأصيل يعلم ويعرف حقيقة العلم تأصيلاً وتفصيلاً، وهذا لا يخفى على المشتغلين بعلم الكتاب والسُّنة وبفهم سلف الأمة، ولكي نعرف من هو العالم الحقيقي المقصود بنصوص الوحي المعصوم، أنقل لكم كلام العلامة الألباني رحمه الله تعالى الذي توفى قبل أكثر من عَقد بقليل؛ لأنه شاهِد على هذا العصر الذي نعيشه اليوم الذي اختلطت فيه القيم والمفاهيم، واختلط الحابل بالنابل، والجاهل بالعالم، فوقعنا فيما وقعنا فيه اليوم من الفرقة والمشاحنات والخلافات والصراعات، قال الألباني بعد أن أثنى عليه أحد المحبين له:
"الحَقُّ - والْحَقَّ أقول - لَسْتُ بذاك الموصوف الذي سمعتموه آنفًا من أخينا الفاضل إبراهيم، وإنما أنا طالب علم، لا شيء آخر، وعلى كل طالبٍ أن يكون عند قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((بَلِّغوا عني ولو آية، بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فلْيَتَبَوَّأ مقعده من النار))؛ رواه البخاري من حديث عبدالله بن عمرو، على هذا - وتجاوبًا مع هذا النص النبوي الكريم والنصوص الأخرى المتواردة والمتتابعة في كتاب الله، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقوم - بجهد - بتبليغ الناس ما قد لا يعلمونه، ولكن هذا لا يعني أننا أصبحنا عند حُسْنَ ظن إخواننا بنا، ليس الأمر كذلك، الحقيقة التي أشعر بها من قرارة نفسي أنني حينما أسمع مثل هذا الكلام أتذكر المثل القديم المعروف عند الأدباء، ألا وهو "إن البُغاث بأرضنا يَسْتَنْسِرُ"، "إن البُغاث بأرضنا يَسْتَنْسِرُ"، قد يخفى على بعض الناس المقصود من هذا الكلام أو من هذا المثل، البُغاثُ: هو طائر صغير لا قيمة له، فيصبح هذا الطير الصغير نسرًا عند الناس، لجهلهم بقوة النسر وضخامته، فصدق هذا المثل على كثيرٍ ممن يدْعُونَ بحق وبصواب، أو بخطأٍ وباطلٍ إلى الإسلام.
لكنَّ الله يعلم أنه خَلَتِ الأرض - الأرض الإسلامية كلها - إلا من أفرادٍ قليلين جدًّا جدًّا ممن يصح أن يقال فيهم: فلان عالم، كما جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله لا ينتزع العلم انْتِزاعًا من صدور العلماء، ولكنه يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا - هذا هو الشاهد - حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالاً فَسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ، فَضَلُّوا وأضَلُّوا)).
إذا أراد الله أن يقبض العلم، لا ينتزعه انتزاعًا من صدور العلماء؛ بحيث إنه يصبح العالم كما لو كان لم يتعلم بالمرة، لا، ليست هذه من سُنَّة الله عز وجل في عباده - وبخاصة عباده الصالحون - أن يَذْهَبَ من صدورهم بالعلم الذي اكتسبوه، إرضاءً لوجه الله عز وجل - كما سمعتم آنفًا - كلمة ولو وجيزة من الأخ إبراهيم بارك الله فيه أن هذا الاجتماع إنما كان لطلب العلم، فالله عز وجل حَكمٌ عدلٌ، لا ينتزع العلم من صدور العلماء حقًّا، ولكنه جرت سنة الله عز وجل في خلقه، أن يقبض العلم بقبض العلماء إليه، كما فعل بسيد العلماء والأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ((حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلوا فأفتوا بغير علم فضَلُّوا وأضلوا)) ليس معنى هذا: أن الله عز وجل يُخْلِي الأرض من عالمٍ تقوم به حجة الله على عباده، ولكن معنى هذا: أنه كلما تأخر الزمن، قَلَّ العلم، وكلما تأخر ازداد قلةً ونقصانًا حتى لا يَبْقى على وجه الأرض من يقول: الله، الله.
هذا الحديث تسمعونه مرارًا، وهو حديث صحيح: ((لا تقوم الساعة، وعلى وجه الأرض من يقول الله، الله))، "من يقول: الله الله"، وكثيرًا من أمثال هؤلاء المشار إليهم في آخر الحديث المذكور، قَبَضَ الله العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسا جُهَّالاً، مِنْ هؤلاء الرُّؤوس من يُفَسِّر القرآن والسُّنة بِتَفاسير مُخالفة لما كان عليه العلماء، لا أقول: سلفًا فقط، بل وخلفًا أيضًا.
فإنهم يحتجون بهذا الحديث: ((الله، الله)) على جواز بل على استحباب ذكر الله عز وجل باللفظ المفرد (الله، الله)، إلى آخره؛ لكي لا يغتر مُغْتَرٌّ ما، أو يجهل جاهلٌ ما، حينما يسمع هذا الحديث بمثل ذلك التأويل، بدا لي ولو عَرَضًا أن أُذَكِّرَ إخواننا الحاضرين بأن هذا التفسير باطلٌ:
أولاً: من حيث إنه جاء بيانه في رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وثانيًا: لأن هذا التفسير لو كان صحيحًا لجرى عليه عمل سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فإذْ لم يفعلوا دل إعراضهم عن الفعل بهذا التفسير على بطلان هذا التفسير.
فكيف بكم إذا انضم إلى هذا الروايةُ الأخرى - وهذا بيت القصيد كما يقال- أن الإمام أحمد رحمه الله روى هذا الحديث في مسنده بالسند الصحيح بلفظ: ((لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: لا إله إلا الله))، إذًا هذا هو المقصود بلفظ الجلالة المكرر، المكرر في الرواية الأولى.
الشاهد: أن الأرض اليوم مع الأسف الشديد خَلَتْ من العلماء الذين كانوا يملؤون الأرض الرحبة الواسعة بعلمهم، وينشرونه بين صفوف أمتهم، فأصبحوا اليوم كما قيل:
وقد كانوا إذا عُدُّوا قليلاً
فصاروا اليوم أقلَّ من القليلِ
فنحن نرجو من الله عز وجل أن يجعلنا من طلاب العلم الذين يَنْحُونَ منحى العلماء حقًّا، ويسلكون سبيلهم صِدْقًا، هذا ما نرجوه من الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء الطلاب السالكين ذلك المسلك الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة))؛ رواه مسلم.
وهذا يفتح لي باب الكلام على هذا العلم، الذي يُذْكَرُ في القرآن كثيرًا وكثيرًا جدًّا، كَمِثْلِ قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، وقوله عز وجل: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11] ما هو هذا العلم الذي أثنى الله عز وجل على أهله والمتلبسين به وعلى من سلك سبيلهم؟ الجواب كما قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تلميذ شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله:
العلم قال الله قال رسوله
قال الصحابة ليس بالتَّمْويهِ
ما العلم نَصْبَكَ للخلاف سفاهةً
بين الرسول وبين رأي فقيه
كلاَّ، ولا جَحْد الصفات ونفيها
حذرًا من التمثيل والتشبيه
إذًا نأخذ من هذه الكلمة ومن هذا الشعر الذي نادرًا ما نسمعه في كلام الشعراء؛ لأن شعر العلماء غير شعر الشعراء، فهذا رجل عالم، ويُحْسِنُ الشعر أيضًا، فهو يقول: العلم: "قال الله"، في المرتبة الأولى، "قال رسول الله" في المرتبة الثانية، "قال الصحابة" في المرتبة الثالثة، هنا سأجعل كلمتي في هذه الأمسية الطيبة المباركة إن شاء الله، كلمة ابن القيم هذه، تُذَكِّرُنا بحقيقة هامة جدًّا جدًّا، طالما غفل عنها جمهور الدعاة المنتشرين اليوم في الإسلام باسم الدعوة إلى الإسلام، هذه الحقيقة ما هي؟
المعروف لدى هؤلاء الدعاة جميعًا:
أن الإسلام إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا حق لا ريب فيه، ولكنه ناقص، هذا النقص هو الذي أشار إليه ابن القيم في شِعْرِهِ السابق، فَذَكَرَ بعد الكتاب والسُّنة الصحابةَ، العلم: قال الله، قال رسوله، قال الصحابة...
إلى آخره.
الآن نادرًا ما نسمع أحدًا يَذْكُرُ مع الكتاب والسنة، الصحابة، وهم كما نعلم جميعًا رأسُ السلف الصالح الذين تواتر الحديث عن النبي ((خير الناس قَرْني)) ولا تقولوا كما يقول الجماهير من الدعاة: خير القرون؛ خير القرون ليس له أصل في السنة، السنة الصحيحة في الصحيحين وغيرهما من مراجع الحديث والسُّنة مُطْبِقَة على رواية الحديث بلفظ: ((خير الناس قَرْني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)).
هؤلاء الصحابة الذين هم على رأس القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية، ضَمَّهم الإمام ابن قيم الجوزية إلى الكتاب والسُّنة، فهل كان هذا الضم منه رأيًا واجتهادًا واستنباطًا يمكن أن يتعرض للخطأ؟ لأن لكل جواد كَبْوَة، إنْ لم نقل: بل كبوات.
الجواب: لا، هذا ليس من الاستنباط، ولا هو من الاجتهاد الذي يقبل احتمال أن يكون خطَأً، وإنما هو اعتماد على كتاب الله، وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أما الكتاب: فقول ربنا عز وجل في القرآن الكريم: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 115]، ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ لم يقتصر ربنا عز وجل في الآية، ولو فعل لكان حقًّا، لم يقل: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نُوَلِّه ما تولى، وإنما قال لحكمة بالغة وهي التي نحن الآن في صدد بيانها وشرحها قال: ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 115] هذه الآية أرجو أن تكون ثابتةً في ألبابكم وفي قلوبكم، ولا تذهب عنكم، لأنها الحقُّ مثلَما أنكم تنطقون، وبذلك تنجون عن أن تنحرفوا يمينًا أو يسارًا، وعن أن تكونوا ولو في جزئية واحدة أو في مسألة واحدة من فرقة من الفرق غير الناجية، إن لم نقل: من الفرق الضالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الحديث المعروف، وأقتصر منه الآن على الشاهد منه: ((وسَتَفْتَرِقُ أمتي على ثلاثٍ وسبعين فِرْقَةً، كلها في النار إلا واحدةً)) قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ((هي الجماعة))، الجماعة: هي سبيل المؤمنين، فالحديث إنْ لم يكن وحيًا مباشرًا من الله على قلب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فهو اقتباس من الآية السابقة: ﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 115] إذا كان من يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين قد أُوْعِدَ بالنار، فالعكس بالعكس: من اتبع سبيل المؤمنين فهو مَوْعود بالجنة، ولا شك ولا ريب، إذن رسول الله لما أجاب عن سؤال: ما هي الفرقة الناجية؟ من هي؟ قال: ((الجماعة))، إذن الجماعة: هي طائفة المسلمين، ثم جاءت الرواية الأخرى تُؤَكِّدُ هذا المعنى، بل وتزيده إيضاحًا وبيانًا؛ حيث قال عليه السلام: ((هي ما أنا عليه وأصحابي))، "أصحابي" إذن هي سبيل المؤمنين، فحينما قال ابن القيم رحمه الله في كلامه السابق ذِكْرُهُ "والصحابة" وأصحابه عليه السلام، فإنما اقتبس ذلك من الآية السابقة، ومن هذا الحديث، كذلك الحديث المعروف حديث العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه، أيضًا أَقْتَصِر منه الآن - حتى نُفْسِحَ المجال لبعض الأسئلة - على مَوْضِع الشاهد منه؛ حيث قال عليه السلام: ((فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)).
إذن، هنا كالحديث الذي قبله، وكالآية السابقة، لم يَقُلِ الرسول عليه السلام: فعليكم بسنتي فقط، وإنما أضاف أيضًا إلى سُنَّتِهِ: سنة الخلفاء الراشدين، من هنا، نحن نقول وبخاصة في هذا الزمان، الزمان الذي تضاربت فيه الآراء والأفكار والمذاهب، وتكاثرت الأحزاب والجماعات، حتى أصبح كثير من الشباب المسلم يعيش حيران، لا يدري إلى أي جماعة ينتسب؟ فَهُنا يأتي الجواب في الآية وفي الحديثين المذكورين، اتبعوا سبيل المؤمنين، سبيل المؤمنين في العصر الحاضر؟ الجواب: لا، وإنما في العصر الغابر، العصر الأول، عصر الصحابة، السلف الصالح، هؤلاء ينبغي أن يكونوا قدوتنا وأن يكونوا مَتْبُوعَنا، وليس سواهم على وجه الأرض مطلقًا.
إذن دعوتنا - هنا الشاهد وهنا بيت القصيد - تقوم على ثلاثة أركان: على الكتاب ،والسُّنة، واتَّباع السلف الصالح، فمن زعم بأنه يتَّبع الكتاب والسنة ولا يتبع السلف الصالح، ويقول بلسان حاله، وقد يقول بلسان قَالِهِ وكلامه: هم رجال ونحن رجال، فإنه يكون في زَيْغٍ وفي ضلال، لماذا؟ لأنه ما أخذ بهذه النصوص التي أسمعناكم إياها آنفًا، لقد اتبع سبيل المؤمنين؟ لا، لقد اتبع أصحاب الرسول الكريم؟ لا، ما اتبع؟ اتَّبع - إن لم أَقُل هواه - فقد اتبع عقله، والعقل معصوم؟ الجواب: لا، إذن فقد ضل ضلالاً مبينًا، أنا أعتقد أن سبب الخلاف الكثير المتوارث في فرق معروفة قديمًا، والخلاف الناشئ اليوم حديثًا هو: عدم الرجوع إلى هذا المصدر الثالث: وهو السلف الصالح، فكلٌّ يدَّعي الانتماء إلى الكتاب والسُّنة، وطالما سمعنا مثل هذا الكلام من الشباب الحيران، حيث يقول: يا أخي هؤلاء يقولون: الكتاب والسُّنة، وهؤلاء يقولون: الكتاب والسنة، فما هو الحَكَمُ الفصل؟ الكتاب والسنة، ومنهج السلف الصالح، فمن اعتمد على الكتاب والسنة دون أن يعتمد على السلف الصالح ما اعتمد على الكتاب والسنة، وإنما اعتمد على عقله، إنْ لم أقل: على هواه.
مِنْ عادتي أن أضرب بعض الأمثلة، لتوضيح هذه المسألة بل هذا الأصل الهام، وهو على "منهج السلف الصالح"، هناك كلمة تُرْوى عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: "إذا جادلكم أهل الأهواء والبدع بالقرآن فجادلوهم بالسُّنة، فإن القرآن حَمَّالُ وجوه".
لماذا قال عمر هذه الكلمة؟ أقول: من أجل ذلك، قال الله عز وجل مخاطبًا نبيه عليه السلام في القرآن بقوله: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44] تُرى هل يستطيع مسلم عربي - هو كما يُقال سيبويه زمانه في المعرفة باللغة العربية وأدبها وأسلوبها - هل يستطيع أن يفهم القرآن من غير طريق رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم؟ الجواب: لا، وإلا كان قوله تعالى: ﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44] عبثًا - وحاشا كلام الله أن يكون فيه أي عبث - إذن، من أراد أن يفهم القرآن من غير طريق الرسول عليه السلام فقد ضل ضلالاً بعيدًا، ثم هل بإمكان ذلك الرجل أن يفهم القرآن والسُّنة من غير طريق الرسول عليه الصلاة والسلام - أظن هنا سَبْق لسان من الشيخ رحمه الله وأظنه يقصد الصحابة رضوان الله عليهم؟ الجواب أيضًا: لا، ذلك لأنهم هم الذين:
أولاً: نقلوا إلينا لفظ القرآن الذي أنزله الله على قلب محمد عليه الصلاة والسلام.
وثانيًا: نقلوا لنا بيانه عليه السلام الذي ذُكِرَ في الآية السابقة وتطبيقه عليه الصلاة والسلام لهذا القرآن الكريم، هنا لابد لي من وقفة أرجو أن تكون قصيرة، بيانه عليه السلام يكون على ثلاثة أنواع:
1- لفظًا.
2- وفعلاً.
3- وتقريرًا.
لفظاً: مَنِ الذي ينقله؟ أصحابه، فِعْلُه: مَن الذي ينقله؟ أصحابه، تقريره: من الذي ينقله؟ أصحابه، من أجل ذلك لا يمكننا أن نَسْتَقِلَّ في فهم الكتاب والسنة على مداركنا اللغوية فقط، بل لابد أن نستعين على ذلك، لا يعني هذا أننا نستطيع أن نستغني عن اللغة، لا، ولذلك نحن نعتقد جازمين أن الأعاجم الذين لم يُتْقِنوا اللغة العربية وقعوا في أخطاءٍ كثيرة، وكثيرة جدًّا، وبخاصة إذا وقعوا في هذا الخطأ الأصولي: وهو عدم رجوعهم إلى السلف الصالح في فهم الكتاب والسنة، لا أعني من كلامي السابق عدم الاعتماد على اللغة، كيف؟ وإذا أردنا أن نفهم كلام الصحابة فلا بد أن نفهم اللغة العربية، كما أنه لا بد لفهم القرآن والسنة من معرفة اللغة العربية، لكننا نقول: إن بيان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المذكور في الآية السابقة، هو على ثلاثة أقسام:
1- قول.
2- وفعل.
3- وتقرير؛ انتهى.
ومن أراد المزيد فليراجع ( موسوعة الألباني في العقيدة).
وعلى الرغم من هذا الفضل الكبير للعلم وللعلماء فإنهم مِنْ أَوَّلِ مَنْ تُسَعَّر بهم نار جهنم إن لم يَصْدُقوا، ويُخْلِصوا النية والأقوال والأعمال لله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول الناس يُقْضَى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهِد فأتي به فعرَّفه نِعَمَه فعرفها، قال فما عملت فيها، قال قاتلتُ فيك حتى استُشْهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قالك فما عملْتَ فيها، قال تعلمْتُ العلم وعلَّمْتُهُ وقرأْتُ فيك القرآن، قال كذبْتَ، ولكنك تعلمْتَ العلم ليقال عالِمٌ، وقرأتَ القرآنَ ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كُلِّه، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملْتَ فيها، قال: ما تركْتُ من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقْتُ فيها لكَ، قال كذبْتَ، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسُحِب على وجهه، ثم أُلْقِي في النَّار))؛ صحيح مسلم.