int(1534) array(0) { }

أرشيف المقالات

المراسلات العلمية وأثرها التعليمي والدعوي بغرب إفريقيا

مدة قراءة المادة : 45 دقائق .
المراسلات العلمية وأثرها التعليمي والدعوي بغرب إفريقيا
رسالة لابن باز نموذجاً
 
أشرت في مقال سابق في (مجلة قراءات إفريقية)[1] إلى أبرز روافد النهضة الإسلاميّة المعاصرة وأقواها في غرب إفريقيا، وأنّ منها (المراسلات العلميّة بين علماء المنطقة ودعاتها وبين غيرهم من علماء الإسلام المصلحين، حول مسائل فقهيّة أو عقديّة أو غيرها، وكذلك المبعوثون والوفود الدعوية والتعليمية، وخاصة من السعودية ومصر...
إلخ)
، فاتجهت الرغبة إلى محاولة التأصيل التاريخي لهذه المراسلات، والكشف عن جذور هذا الرافد، وبيان أثره التعليمي والدعوي، مع التمثيل لذلك بإحدى رسائل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله تعالى - المفتي السابق للديار السعودية.
 
كانت المراسلات العلمية رافداً قوياً من رافد هذه النهضة الإسلامية في غرب إفريقيا، وكان لها أثرها البالغ في توجيه الدعاة والدعوة إلى المنهج السليم، والأسلوب القويم، في التعامل مع المدعو، وفي تصحيح بعض العقائد والأفكار المنحرفة، وفي التعليم ونشر الوعي الإسلامي بين المسلمين، وفي حل الخلافات، وبيان أسبابها وآثارها السيئة على وحدة المسلمين.
 
وهذا النوع من المراسلات العلمية قديم في غرب إفريقيا منذ عهود الإمبراطوريات الإسلامية فيها، كما كان الشأن في مناطق العالم الإسلامي الأخرى، لكنه على الرغم من ذلك لم يحظ إلى الآن - حسب علمي - بدراسة علمية، دعوية كانت أم تاريخية، أم تعليمية تربوية، أم غيرها.
 
أما قديماً: فمن أشهر ما يتعلق بغرب إفريقيا؛ مراسلة الإمام الحافظ جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911ه) لسلاطين بلاد التكرور عموماً، ولسلطان كاشنه خصوصاً[2]، وقد ضمّنها الوصية بتقوى الله، والتذكير بالآخرة، وعدم الاغترار بالدنيا وزينتها، والدعوة إلى الوقوف مع حملة الشريعة فيما يعرض لهم من مشكلات، وإنكار بعض المخالفات الشرعية التي سمع عنها في دولهم.
 
وفي (تاريخ الفتاش) لمحمود كعت، أن أسكيا محمد الكبير إمبراطور سنغاي الإسلامية التقى السيوطي بمصر في عودته من أداء الحج[3]، وسأله عن قضايا، وافقت إجاباته عنها إجابات علماء السودان الذين كان أسكيا قد سألهم كمحمد المغيلي ونحوه[4].
 
وللسيوطي مراسلة علمية أخرى ذات صلة بإفريقيا الغربية، كانت بينه وبين الشيخ محمد بن عبدالكريم المغيلي (ت 909ه)، تتعلق بتحريم السيوطي للمنطق وتحليل المغيلي له ورده عليه، وقد وردت الرسالتان نظماً، ذكر أبياتاً منها أحمد بابا التنبكتي[5].
 
ويقال إن السيوطي زار غرب إفريقيا، ومكث في كاشنه وأغدز وكانو، ثم رجع إلى مصر، وإنه اجتمع والشيخ محمد المغيلي في السودان؛ فكانت بينهما مناظرة في المنطق، لكن اختُلف في مكان الاجتماع أهو كاشنه، أم تكده، أم تنبكتو[6].
 
والأقوى أن يقال إن المناظرة كانت بالمراسلة والسيوطي في مصر، وهذا هو الأشهر؛ لأنه لا يمكن لزيارة مثل زيارة السيوطي أن تكون سقطاً لا تتحدث عنها المصادر التاريخية، كيف وقد ذاعت فيها مراسلتاه السابقتان! ثم كيف تُغفل المصادر زيارة السيوطي نفسه وفي كتابه (التحدث بنعمة الله) إشارات كثيرة إلى لقاءاته في القاهرة بوفود حج السودان الغربي من السلاطين، والقضاة، وطلبة العلم، وأخذ بعضهم عنه وقراءتهم كتبه عليه[7]! وهذا مما رجح لدي أن تكون رواية شفوية تحتاج إلى ما يعضدها، وهو ما أكده الشيخ آدم الآلوري - رحمه الله -، وهو رجل ثبت في نقوله التاريخية، حيث ذكرها بصيغة التمريض (يقال).
 
وأما كتابات محمد المغيلي وفتاويه لأسيكا محمد الكبير ملك إمبراطورية سنغاي الإسلامية، ولأمير كانو أبي عبدالله محمد رنفا بن يعقوب؛ فالراجح أنه كتبها حينما كان في بلاط كلٍّ منهما[8].
 
وأما طلب ملك مالي منسا موسى من القاضي والمدرس بالمدرسة المالكية بالقاهرة محمد بن أحمد بن ثعلب المصري، المعروف بابن كشتغدى، أن يضع شرحاً لمختصر المدونة[9] الذي ألفه أبو الحسن الطليطي محمد بن عيشون (ت 341ه / 951م)؛ فكما قال أحد الباحثين: لا ندري هل كان في لقاء بينهما في القاهرة عام (724ه / 1324م)، حيث التقى منسا موسى عدداً كبيراً من فقهاء المالكية بمصر، أو كان ذلك بالمراسلة بينهما[10]!
 
وفي العصر الحديث يمكن أن نمثل بالمراسلات بين الشيخ محمد الأمين بن محمد الكانمي (ت 1835م)، والشيخ عثمان بن محمد بن فودي (ت 1817م)، حول جهاد الأخير في بلاد الهوسا وكانم برنو.
 
درس الكانمي في المدينة المنورة والقاهرة وفاس، ثم عاد إلى كانم، فلم يمض وقت طويل حتى ذاع صيته في البلاد كلها لعلمه وورعه، وصار له نفوذ وتأييد كبيران لدى الخاصة والعامة، ورأى أن ابن فودي بجهاده في تلك البلاد قد بعد عن رسالة الفقيه المتواضع المسالم، والعالم الورع؛ إلى رسالة السياسي الذي يؤمن بالحديد والنار[11].
 
ولن أقف عند قضية الجهاد؛ لأن الكانمي – فيما يتعلق بهذه القضية – قد وقع مرتين فيما آخذ به ابن فودي؛ الأولى بدفاعه عن برنو وكانم، ومنه جهاده بشجاعة مع سلطان برنو أحمد دونمة لتحرير عاصمته من الفولانيين مرتين، والأخرى بالجيش الجرار الذي قاده هو بنفسه عام 1826م إلى غركو لملاقاة جيش ابن فودي وأتباعه، وقد هزم الكانمي ونجا بحياته، وآلت دولة برنو كانم إلى أولاده وأحفاده الذين يلقبون بالشيخ حتى اليوم[12].
 
أما المراسلات بينهما فقد بلغت عشرات الرسائل باللغة العربية، ودامت ست سنوات قبل المعركة الأخيرة، يدافع فيها كل واحد منهما عن مواقفه.
وأما موضوعاتها فقد شملت قضايا عدة تتعلق بالجهاد وأسبابه، وبمن يجاهد، وبما يثار حول ابن فودي وأتباعه من تكفير أهل القبلة بسبب بعض الكبائر، كالتبرج، وأخذ الرشوة، وأكل مال اليتيم، والجور في الحكم.
ومن القضايا اتهام الكانمي لابن فودي بالخروج على الإمام، وله ولأتباعه بحب الملك والسعي وراءه باسم الدين، ولبعض أتباعه بنقض العهود.
ولقد رد الشيخ ابن فودي على تلك القضايا كلها بكتابات تولاها بأمر من أخيه عبدالله - تارة –، وابن الشيخ محمد بللو - تارة أخرى -[13].
 
كما تناول عثمان بن فودي في كتابه (شفاء الغليل)[14] بعض تلك القضايا بشيء من البيان والتقييد؛ للعموم والإطلاق اللذين وردا في كلام شيخه جبريل بن عمر في منظومته في تكفير أهل السودان بالمعاصي، والتي ذاعت بين العلماء وطلبة العلم في مناطق الهوسا والبرنو قبل حركة ابن فودي وفي أثناءها.
 
وكان لمراسلات الكانمي وابن فودي أثرها التعليمي والدعوي؛ بتصحيح المفهومات، والرد على التهم، ووزن الوقائع بالكتاب والسنّة وأقوال العلماء، وعلى الرغم من أنها لم تحل دون المواجهة؛ فإنها من جهة أخرى تعطينا (صورة مصغرة مما يتمتع به كلا الرجلين في المزية العلمية، بل هي نموذج مما عليه علماؤنا الأقدمون من رسوخ القدم في العلوم، والمناظرة والجدال)[15] ، والتواصل العلمي والدعوي، ونموذج لجهودهم في نشر التعليم الإسلامي بين الناس، والاجتهاد في النوازل على ضوء الكتاب والسنّة.
 
أقسام المراسلات:
تنقسم هذه المراسلات في العصر الحديث إلى نوعين:
النوع الأول: مراسلة علماء من أبناء المنطقة يعيشون في إحدى دولها: يستفتيه أبناء شعبه، أو قريته، أو من اشتهر بينهم بالعلم والدعوة والورع من القبائل الأخرى.
 
ومن ذلك، على سبيل المثال، الشيخ الداعية موري موسى كماري - رحمه الله - (ت 1976م)، مؤسس مدرسة دار الحديث بمدينة بؤاكي في ساحل العاج، فقد كانت تأتي إليه الرسائل والوفود من شعب الماندغ / البمبارة من مناطق ساحل العاج، وغينيا، وبوركينا فاسو؛ في مسائل العقيدة والفقه وغيرهما؛ إذ كان أحد أبرز رواد النهضة السنّية الحديثة والدعوة الإسلامية المعاصرة في غرب إفريقيا، وتخرج في مدرسته المئات من أبناء معظم دول المنطقة.
 
والشيخ المحدث الخضر سعد - رحمه الله -، وهو من أبناء سنغاي الذين كانوا يعيشون في غانا وتوغو، ومن علمائهم الذين درسوا في المنطقة، ثم في الحرمين الشريفين، كان يراسل في المسائل الخلافية؛ إما كتابة، وإما بتكليف شخص يسافر إلى حيث يعيش، وقد كان لفتاويه قبول حسن بين أبناء شعبه في مالي والنيجر، وفي الدول المجاورة لهما؛ بسبب شهرته العلمية وورعه.
 
وكذلك كان الشيخ حبيب الله بن عبدالله ميغا، مدير مدرسة دار الحديث في مدينة سيفاري بموبتي؛ قبل انتقاله من جمهورية النيجر للعيش في هذه المدينة وبعده.
 
والشيخ الفاضل خالي ألفا سمبا محمد ميغا – رحمه الله تعالى – العلامة بالفرائض، والمرجع في علم المواريث في منطقة غاو، فقد كانت تأتيه استفتاءات شفوية ومكتوبة من أبناء شعبه؛ في كل من غانا، وتوغو، والنيجر، وربما استُقدم إليها من أجلها.
 
والشيخ أبو بكر غومي – رحمه الله – من نيجيريا، وكانت تأتيه الاستفتاءات من أتباعه الهوسا في النيجر، وغانا، وغيرها.
 
وأمثال هؤلاء وغيرهم كثير، ومن الصعوبة بمكان استقصاؤهم، ولا يقتصرون على أهل السنّة فقط، كما لا يختص بهم شعب دون شعب، ولا دولة دون دولة؛ إذ لا يمكن أن يخلو منهم مجتمع أو بيئة؛ من الهوسا، والماندغ / البمبارة، والسنغاي، والولوف، واللاتة، والسوننكي، والبورنو، واليوربا، والدغومبا، والموسي، وغيرها؛ مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ ...
فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43]؛ مع التفاوت بينهم في العلم والتأثير، والشهرة العلمية والدعوية، واختلاف الاتجاه للسائل أو المجيب..
وغير ذلك.
 
والهدف هنا ليس الاستقصاء، وإنما الإشارة إلى الأثر التعليمي والدعوي لهذه المراسلات قديماً وحديثاً، وإلى أهميتها، وأهمية تناولها في دراسات علمية متخصصة ومعمقة في غرب إفريقيا وغيره.
 
النوع الثاني: المراسلات العلمية: وهي التي دعمت النهضة الإسلامية الحديثة، وكان لها أثر بارز في التعليم والدعوة المعاصرة بغرب إفريقيا، هو:
المراسلات الخارجية:
يوجد هذا النوع بين علماء السنّة ودعاتها في المنطقة وبين غيرهم خارجها، وله جانبان:
أحدهما: أن يكون العالم المستفتى من علماء المنطقة المهاجرين:
ومن أبرز هؤلاء الشيخ محمد المرزوق الفلاتي، وعبد الرحمن بن يوسف الإفريقي، المدير الأسبق لدار الحديث بالمدينة المنورة، وعماد الدين بن حنبل، وحماد الأنصاري، وإسماعيل الأنصاري – رحمهم الله -، والدكتور أبو بكر إسماعيل ميغا، وهؤلاء هاجروا جميعاً من شرق مالي وشمالها (منطقة غاو) إلى السعودية، والشيخ عمر محمد فلاتة – رحمه الله – الأمين الأسبق للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والمدرس بالمسجد النبوي، وكثير غيرهم من علماء غرب إفريقيا ممن جاوروا في الحرمين ولم يعودوا[16].
 
ويلاحظ أن الغالب على هذا النوع من المراسلة هو الاتصال بالعالم حسب مجموعته التي ينتمي إليها شعباً أو دولة، وأن الاستفتاء يتم إما بالمراسلة، وإما بتكليف حاج أو معتمر بلقاء العالم المستفتى في الحرمين الشريفين وغيرهما، فقد كان من عادة بعض المذكورين وغيرهم أن يستضيفوا بعض أبناء منطقتهم ممن قدموا للحج، وبخاصة طلبة العلم والدعاة، ورؤساء القبائل، وفي ذلك فرصة مهمة لمناقشة بعض الأمور الدينية، والعلمية، والاجتماعية في المنطقة، والرد على ما يرد إليهم من مسائل.
 
وكذلك كان الحال مع بعض الطلبة الدارسين في الجامعات الإسلامية والعربية ومعاهدها، وبخاصة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وحلقات العلم في الحرمين الشريفين، وجامعة أم القرى، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وغيرها.
 
وقد يكون المستفتى ممن لا يطمئن المستفتون إلا إلى رأيه؛ لأسباب منها: كونه مشتهراً بينهم قبل التحاقه بالمعهد أو الجامعة؛ لأنه من أبناء قبيلتهم، أو ابن شيخ مشهور يُعقد عليه الأمل ليحل محله.
 
أو يكون السبب عدم الاطمئنان أو القبول بما قد يكون صدر في المسألة من فتاوى بعض علماء المنطقة المحليين، حتى لو كان من خريجي إحدى الجامعات الإسلامية، أو إمكان اتصال المستفتي بالجهات العلمية كهيئة كبار العلماء بالسعودية، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر وغيرهما.
 
وكذلك إمكان اطلاعه على مصادر قديمة ومراجع حديثة، لا يسهل الاطلاع عليها لمن في المنطقة، كفتاوى جديدة، وقرارات علمية لبعض المجامع الإسلامية، كمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، وغيرها.
 
وإذا كان المستفتي من العلماء أو طلبة العلم لم يخل الأمر من الأخذ والرد، والمناقشة، والجدال بالحسنى بينه وبين من استفتاه، وهذا يدل على أن الأقوال التي يفتون بها لم تكن مسلماً بها تسليماً مطلقاً، بل تكون – أحياناً – عرضة لمقارعة أدلتها بأدلة أخرى؛ لصدق الرغبة في الوصول إلى الحق، وفي إيصاله من غير مواربة أو مجاملة، وليصل المستفتي إلى اقتناع عن بصيرة وعلم، ولا سيما إذا كان علماء المنطقة قد خاضوا فيها، ولم يسلم الأطراف المختلفة بحجج بعضهم وأدلته.
 
وكم كانت مثل هذه المراسلات سبباً في تأليف كتيب للتفصيل في موضوعها، قال الشيخ عبدالرحمن الإفريقي في مقدمة كتابه (الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التجانية): (أما بعد، فيا أخي المحترم؛ قد وصلت إليّ وثيقتكم وقرأتها، وفهمتُ ما ذكرتموه، وها أنا أكتب جوابها إن شاء الله تعالى)[17] ، وقال إن سبب تأليفه لكتابه السابق هو: (أن طائفة من الإخوان وقعت بيني وبينهم مذاكرة علمية، حتى ذكرنا البدعة...
فطلبوا مني الدليل على ذلك، وخاصة على إنكار أهل السنّة على التجانية)
[18].
 
فالسبب في تأليف هذا الكتيب أمران؛ أحدهما: سؤال ورد إليه من بعض إخوانه في غرب إفريقيا عن التجانية وبعض أفكارها ومبادئها، والآخر مذاكرة علمية حول البدعة؛ طولب فيها بالدليل على ما ينكره هو وغيره من أهل السنّة على التجانيين.
 
ومن الأسباب التي تدعو أيضاً إلى مثل هذه المراسلات؛ أن يكون أحد القولين مخالفاً للمذهب السائد في غرب إفريقيا، وهو المذهب المالكي، أو لم يشتهر عندهم قول فيه، سواء كان من ذهب إليه ممن درس المذاهب الفقهية الإسلامية في الخارج، أم عالماً اطلع عليها فترجح له بالدليل.
 
ولهذه المراسلات دور دعوي وتعليمي آخر، وهو حسم كثير من الخلافات، والحد من التنابذ بين أطراف النزاعات.
 
ولما كان من الصعوبة الحصول على نماذج كثيرة ومتنوعة لتلك المراسلات؛ لأن كثيراً منها يتم شفوياً، أو مكتوباً لكن لا يلبث المرسل إليه أن يضيعها؛ فإنني أكتفي هنا بالإشارة إلى بعض المسائل التي تعطي أمثلة لمضمون تلك المراسلات:
• إلقاء خطبة الجمعة بغير اللغة العربية، وهي مسألة قديمة لكنها متجددة.
 
• قراءة القرآن الكريم للميت؛ هل يصل ثوابها إليه أو لا؟
 
• المشاركة في السياسة.
 
• ختان المرأة، وقد احتدم الخلاف فيها مؤخراً، واشتد الجدل بين بعض الدعاة؛ لما خضعت بعض الحكوماتللضغط الغربي، السياسي والاقتصادي، الذي يهدف إلى تطبيق قرار الأمم المتحدة بمنعه.
 
• وكذلك النوازل الكبرى التي تهم الأمة الإسلامية كلها.
 
الجانب الآخر من المراسلات العلمية الخارجية: أن يكون العالم المستفتى أحد علماء السنّة من دول إسلامية أخرى.
 
ومن أبرز هؤلاء سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز (ت 1420ه) – رحمه الله - المفتي السابق للمملكة العربية السعودية، فقد شهدت إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والتي كان رئيسها، كثيراً من هذا النوع من المراسلات العلمية، حيث كانت ترد إليها من الدعاة والعلماء بغرب إفريقيا وغيره من أجزاء العالم الإسلامي؛ حول مسائل عقدية، وفقهية، ودعوية، وكان - رحمه الله - يقوم بلقاءات متكررة مع الدعاة وطلبة العلم في هذا الصدد؛ بمكة، والطائف، والرياض.
 
كما كان – رحمه الله – يبعث الوفود العلمية والدعوية إلى المنطقة للإرشاد والفتوى، والإصلاح بين العلماء، بسبب الاختلاف في مسائل يترتب عليه – أحياناً - تناحر وتقاطع، وإلى عهد قريب كان يوجد باسمه صندوق لمساعدة الدعاة والتعاقد معهم.
 
ومن مبعوثيه في أواخر السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات الميلادية: الشيخ عمر محمد فلاتة، ومحمد أمان علي الجومي، وحامد أبو بكر الكتبي – رحمهم الله جميعاً -.
 
وإليك نموذجاً من جهود رئيس تلك الإدارة الشيخ ابن باز - رحمه الله - في الإصلاح بين الدعاة بالمراسلات، وإرسال الوفود العلمية والدعوية، ودعوتهم إلى اتباع منهج السلف الصالح في الدعوة، وفي التعامل مع المخالف.
 
ظهرت في شمال مالي – أواخر السبعينيات الميلادية تقريباً – طائفة أطلقت على نفسها الجمعية الإسلامية (جمعية أنصار السنّة)، وكان ظهورها في طور من أطوار النهضة السنّية الحديثة في هذا الجزء من غرب إفريقيا، وقامت لهدف نبيل، وهو أن يكون لأهل السنّة جمعية توحّد جهودهم في الدعوة والتعليم، وتجمع علماءهم، لكنها ما لبثت أن حادت عن الهدف، وانقسم أهلها إلى أكثرية وأقلية، وأحدث بعضهم أموراً تخالف منهج السلف؛ سيأتي بيانها.
 
وسنترك الحديث للشيخ حامد الذي ذكر أولاً عادات مخالفة للشريعة كان عليها بعض أهل غرب إفريقيا، والرد عليها، وبيان وجود منكرين كثيرين لها، ومحاولة التماس العذر بالجهل لمرتكبيها، وعدم تمكن الدعاة المخلصين من القيام بواجبهم نحوها لانتشارها؛ وبسبب سيطرة الاستعمار الفرنسي الذي يحارب أمثال هؤلاء الدعاة[19].
 
ثم انتقل بعد ذلك إلى الحديث عن طور النهضة (سمّاها اليقظة)، وفيه تكوّنت هذه الجمعيّة، فقال: (وبعد برهة من الزمان، وركود طويل وفترة؛ جاءت يقظة أبناء البلاد، وتغيّرت الأحوال إلى غير ما كانت عليها بالنسبة لهذه المنطقة (منطقة غاو، شمال وشرق جمهورية مالي)، وحصل تطور وتعلم؛ حيث انتشر أبناء البلاد لطلب العلم وسافروا إلى البلاد العربية، إلى أرض الحجاز (الحرمين) ومصر وغيرهما من البلدان في العالم الإسلامي، وتعلَموا ورجعوا، وحصل صحوة ونشاط في طلب العلم، وقد تهيأت لهم الظروف، حيث إنّ الاستعمار البغيض قد ارتحل عن بلادهم، فأصبحوا ليس هناك ما يعوقهم عن أي نشاط يزاولونه من ناحية الدين)[20].
 
كما بيّن أن هذه الدعوة كانت في البدء دعوة أولئك النخبة من أبناء البلاد الذين رجعوا بعد التعلّم، حيث قاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن التقاليد المخالفة للشريعة الإسلاميّة، وعاشوا على خير ما يرام (حتى أصبح أمرهم يسرُّ كلّ مسلم سمع بخبرهم ورآهم، وتكاتفوا وتعاونوا فيما بينهم، كما هو المطلوب بين جميع المسلمين، رغم ما يحصل من نوع خلافات يسيرة؛ كاختلافات التنوّع)[21].
وقد تجاوز تأثيرهم العلمي والديني، على مذهب أهل السنّة غالباً، منطقتهم إلى كلّ دول غرب إفريقيا التي يعيشون فيها، أو التي تسكن لهم فيها جاليات.
 
ثم ذكر مرحلة الانحراف عن الصورة السابقة للدعوة وللدعاة عامّة، وذكر أسبابها، ومنها: التغيرات التي أدخلوها فيها بحجّة الإصلاح والتطور، وتناسي الهدف الأساس من إنشائها، وحب الرئاسة، والتلقب بأمير المؤمنين، يقول: (كان أوّل خلاف بينهم حينما عيّنوا رئيساً للجمعيّة اختلفوا في تلقيبه، قال بعضهم نسمّيه بأمير المؤمنين، وبعضهم خالف في ذلك، وقالوا يستحيل في الوقت الحاضر أن يكون شخص أميراً للمؤمنين جميعاً، ولا يصلح لذلك ويستحقه إلا من سبق في صدر الإسلام، واشتدّ الخلاف بينهم حتى كتبوا رسالة إلى طلبة العلم في الحرمين [من أبناء شعبهم ومنطقتهم، وكان أكثرهم طلاباً في الجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة، وفي حلقات التعليم بالحرمين الشريفين، ودار الحديث الخيرية في مكة] يسألونهم هل يجوز ذلك أم لا؟)[22].
 
كانت خلاصة أجوبتهم؛ أنّه لا يلزمهم تسمية رئيس جمعيّتهم بالأمير؛ لوجود ما يغني عن هذه التسمية، كلفظ رئيس، أو بتقييد الإمارة بنحو أمير الجماعة الفلانية ونحو ذلك، لا أمير المؤمنين، ونصحوهم بالتكاتف والتآلف، ونبذ الفرقة والخلاف[23]، لكن الجمعيّة تمسكت بمواقفها، فشقّت عصا أهل السنّة الذين انقسموا بين مؤيّد، ومخالف وهم الأكثر، بل قسِمت القرية (كاج) إلى قسمين.
 
أمّا رئيس الجمعية سعد إدريس - رحمه الله - (ت 3/4/1427ه، 1/5/2006م)، وهو من خرّيجي حلقات التعليم الإسلامي في المنطقة، فقد نصب نفسه على أحد قسمي القرية، وسماه (دار السلام)، وتلقّب بأمير المؤمنين، ورفض الطاعة لأمير القرية الذي عيّنته الحكومة.
 
ثم أخذت الجمعيّة تكفّر مَن لا ينتمي إليها من أهل السنّة ومن غيرهم، ولا تأكل ذبائحهم، ولا تصلي خلفهم أو في مساجدهم؛ إذ تعدّهم مشركين أو مرتدّين، تستبيح أعراضهم وأموالهم ونفوسهم، فأقامت الحدود - حسب زعمها – على أتباعها، وبخاصة حد الردّة (الخروج منها)، ففرقت بها بين الرجل وأهله، كما أوجبت الهجرة إلى مراكزها في مالي، والنيجر، وغانا وغيرها، في تجمعات خاصة، وبيوتات منتشرة في الدول المذكورة، الهدف منها جميعاً الانفصال عن المجتمع، والإبقاء على الصلة القويّة بأميرها، والطاعة المطلقة له أو لنائبه في كلّ دولة أو تجمّع!
 
إنّ هذه الجمعيّة، إضافة إلى ما سبق كله، تعدّ نفسها الطائفة السنيّة الخالصة، وتلقت – قبل اكتشاف حقيقتها – تشجيعاً مادّياً ومعنويّاً من بعض الوفود الإسلاميّة التي زارتهم في الثمانينيّات؛ طمعاً في إصلاحها بجعلها تنبذ معتقداتها المخالفة لمذهب أهل السنّة، والتي أحدثت بها انشقاقاً كبيراً بين المسلمين في هذه المنطقة وفي الدول التي توجد فيها جالياتهم.
 
وقد أطلق عليهم مخالفوهم (الخوارج)؛ لكون معتقداتهم موافقة في الجملة لعقائد الخوارج، وقد ذكرت، في مقال سابق بمجلة قراءات إفريقية[24] هذه الجماعة، وأمثالها من الغلاة الذين ينتسبون إلى أهل السنّة، ضمن معوقات الدعوة الإسلاميّة المعاصرة في غرب إفريقيا، وستجد في رسالة ابن باز ما يؤيّد اعتبار أمثالها من معوقات الدعوة، كما أشرت – هناك – إلى أنّ الجمعيّة ذابت إلا قليلاً لعوامل تآكل كثيرة؛ منها عودة كثير من أعضائها إلى المنهج السليم بعد التعلم في الجامعات الإسلاميّة، وتبيّن الحق في أمر مَنْ تبقى من أعضائها في محاورة مشهودة لأميرها بمدينة الطائف أمام لجنة علميّة من كبار العلماء، برئاسة سماحة الشيخ ابن باز – رحمه الله – في أواخر عام 1412ه وأوائل 1413ه.
 
مراسلة ابن باز لهذه الجمعيّة:
لما استفحل الخلاف وبلغ الأمر سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله -؛ أرسل وفداً للإصلاح والنصح، والدعوة والإرشاد، يتكون من: الشيخ محمد عمر فلاته رئيساً للوفد، والشيخ حامد أبو بكر سكرتيراً للجنة، كان معهم خطاب رقم 333 بتاريخ 18/3/1402ه إلى أمير تلك الجماعة[25].
 
غادروا المدينة المنوّرة ثم جدّة في يوم الأحد 9/4/1403ه إلى كانو بنيجيريا، ثم إلى بماكو عاصمة مالي التي وصلوها يوم الاثنين10/4/1403ه، أمّا منطقة غاو فوصلوها صباح الخميس 20/4/1403ه[26].
 
وسأضطر هنا إلى الإطالة في نقل مقتطفات من هذه الرسالة بنصّها، ومن غير تصرف فيها لأهميتها، لتتبين لنا محاولته فيها توجيه مسار هذه الدعوة الوجهة الصحيحة على ضوء الكتاب والسنّة، وتوحيد كلمة الدعاة، والدعوة إلى الرفق والتيسير، وسدّ الأبواب التي قد تؤتى الدعوة من قِبلها، وذكر كثير من المعوّقات التي واجهت – ولا تزال تواجه – نشر الدعوة الإسلامية المعاصرة؛ بعضها من صنع بعض الدعاة أنفسهم.
 
وما أكثر مثل هذه الرسائل من الشيخ إلى المسلمين في جميع أنحاء العالم متى ما علم بفُرقة واختلاف؛ فكان لها أثر كبير في التعليم والدعوة والإصلاح، وتوحيد كلمة المسلمين على الحق.
 
جاء في مقدمة خطابه:
أ- ما يفيد متابعة الشيخ لأخبار الدعوة والدعاة في غرب إفريقيا وغيره، ثم الدعاء لهم بالتوفيق، والإخلاص لله في القول والعمل، والدعوة عن بصيرة وعلم.
 
ب- بيان الغرض من الخطاب.
 
ج- تحديد مهمّة الوفد الدعوي الذي أرسل الخطاب معه، وبيان مدى أهليّتهم العلميّة والدعويّة للقيام بما نيط بهم، وثقته في استعداد المرسل إليهم للالتقاء بالدعاة والعلماء للمناقشة والحوار.
 
يقول: (من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، إلى إخوانه في الله في جمهورية مالي: الشيخ سعيد بن إدريس وإخوانه.
وفقنا الله وإياهم لمرضاته.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نفيدكم بأننا نتتبع أخباركم لنعرف عن سيرة الدعوة عندكم، ونسأل الله لكم التوفيق والسداد في دعوتكم وإصلاحكم، كما نسأله – تعالى - أن يجعلنا وإياكم من دعاة الحق الصالحين الذين يريدون وجه الله في أعمالهم، ويدعون إلى الله على بصيرة، ولما نعلم من رغبتكم الشديدة في الالتقاء بطلاب العلم والعلماء الذين يعملون في مجال الدعوة إلى الله؛ ولما نعتقد من وجوب النصح فيما بين المسلمين عامة وبين الدعاة خاصة؛ رأينا أن نوفد لكم بعض العلماء الذين يعملون في الجامعة الإسلامية، بل بعض كبار المدرسين في المسجد النبوي وهم...
[ذكر الثلاثة الذين سبقت الإشارة إليهم] وهم معروفون لديكم، فلسنا بحاجة إلى تعريفهم لكم، وأوفدناهم إليكم؛ ليتعاونوا معكم في سبيل الدعوة إلى الله في فترة وجودهم هناك؛ وليقوموا بإصلاح ذات البين؛ لأننا نسمع أن هناك بعض الاختلاف فيما بينكم)
[27].
 
والشيخ قد سلك أسلوباً تهذيبياً عظيماً يتمثل في (أن يعمد المربّي فيجمع لمن يربيه بين ما يدل على بقيّة كمال فيه؛ حتى لا يقتل همّته باليأس من كماله، فإنّه إذا ساءت ظنونه في نفسه خارت عزيمته وذهبت مواهبه، ويأتي بما يدل على نقائص فيه ليطلب الكمال فلا يستريح من الكدّ في طلب العلا والكمال)[28] ؛ ومن ثَمّ الإصرار على موقفه، تجد هذا الأسلوب التهذيبي العظيم في إشارة الشيخ إلى الرغبة الشديدة لديهم في الالتقاء بطلبة العلم والعلماء؛ ومن ثم دعاهم إلى التعاون والتباحث معهم للوصول إلى الصواب، بالإضافة إلى ما في هذا الأسلوب من البعد بالمخاطَب عن المكابرة والعزّة بالإثم حين يستشعر أنّه ندّ لمن سيلتقيهم، ويناقشهم بالدليل، ويأخذ ويردّ بالبرهان.
 
وأخذ الشيخ في بيان ما أوصى به ذلك الوفد، كالتباحث العلمي معهم بموضوعيّة للوصول إلى نتيجة مقنعة، مبناها الدليل والبرهان، وإزالة الحزازات، وتهيئة النفوس لقبول الحق من كل أحد مهما كان، وبيان أنواع الاختلافات وأسبابها (دنيويّة شخصيّة، وتطلع إلى الرئاسة، ودينيّة فقهيّة أو عقديّة)، وما يجوز في الاختلاف، وما لا يجوز فيه، والتنبيه على الأسلوب الصحيح في تناول المسائل المختلف فيها، وآثارها السيّئة إذا لم تعالج على نهج قويم وبحكمة وموضوعيّة، وبالدليل والبرهان من الكتاب والسنّة.
 
يقول في رسالته نفسها: (وقد أوصيناهم أن يطلعوا على نوع الخلاف الذي بينكم، ثم يقوموا بالإصلاح، إن كان الخلاف للأغراض الدنيوية، والحزازات النفسية، والتطلع إلى الرئاسة؛ فمثل هذا الموقف يجب على الدعاة أن يبتعدوا عنه، ويتنزهوا منه، ويتوبوا إلى الله إن وقعوا في شيء من ذلك؛ لأن مثل هذا الموقف يكون عقبة في سبيل الدعوة إلى الله.
 
وأما إن كان الخلاف في المسائل الدينية، مثل الاختلاف في الأحكام الفقهية، والمسائل الفرعية التي هي محلّ الاجتهاد للعلماء المؤهلين للاجتهاد؛ فسوف يبحث المشايخ معكم في ذلك الاختلاف على ضوء الكتاب والسنّة، حتى تجتمعوا على العمل بالحق، والدعوة إلى الحق، فهذه أمنيتنا فيكم، وفي أمثالكم من الدعاة، فنسأل الله -تعالى- لنا ولكم التوفيق.
 
وإن كان الخلاف في مسائل العقيدة، وتحقيقها، ومعرفة موقف السلف من النصوص الواردة فيها، وفي تحقيق توحيد العبادة بمعرفة حق الله على عباده، ومعرفة حق العباد على الله حق تفضل وإحسان، فهؤلاء المشايخ الموفدون إليكم قد مارسوا تدريس مادة العقيدة مدة طويلة، كما عملوا في مجال الدعوة والتوعية بتصحيح العقائد، ومحاربة البدع؛ لذا نرجو أن تُوَفَقوا في التباحث معهم بإنصاف حتى تصلوا إلى النتيجة؛ بتحقيق تلك المسائل التي اختلفتم فيها في هذا الباب الخطير)
[29].
 
ثم أخذ الشيخ – رحمه الله – في تقديم النصائح، وبيان الحلول في مسائل الاختلاف السابق ذكرها، وبيان منهج السلف فيها، يقول: (ومما نؤكد لكم أنّ سلفنا الصالح – رحمهم الله – لم يختلفوا قطّ في أيّ مسألة في العقيدة، سواء كان ذلك في توحيد العبادة، كما لا يخفى عليكم، أو في توحيد الأسماء والصفات، أما توحيد الربوبية فهو محلّ إجماع بين الكفار والمسلمين على حدّ سواء، كما لا يخفى عليكم، فنسأل الله لنا ولكم التوفيق حتى تتغلبوا على هذا الاختلاف الذي نسمعه.
 
ومن المسائل التي يختلف حولها الإخوان كثيراً، على ما سمعنا، مسألة تقسيم الكفر والشرك والظلم؛ إلى كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، فمعرفة هذه المسائل وتحقيقها، وإعطاء كلّ قسم من الأقسام حقه من الحكم، وعدم الخلط بينهما أمرٌ مهم جدّاً لكلّ مسلم، وخصوصاً لطلاب العلم الذين يعملون في ميدان الدعوة إلى الله، وإصلاح ما فسد من أمور الناس الدينية.
 
وقد وردت بعض النصوص تسمّي بعض الذنوب والمعاصي كفراً، وهذا النوع من الكفر يقال له: كفر عملي أو كفر دون كفر، وليس كفراً ناقلاً عن الملّة، ومن أمثلة ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وبإجماع أهل العلم أنّ المسلمين لو تقاتلوا عصبية أو حمية، وقتل بعضهم بعضاً لا يخرجون بذلك من الملّة، بل هم عصاة وفُسَّاق بما ارتكبوا من الكبيرة؛ ما لم يستحلوا ذلك الدم...)
[30].
 
ثم يدعو إلى عدم التسرع في الحكم على الناس، خاصة في بيئتهم، وعلى ضرورة فقه الواقع الذي يعيشون فيه، ومن فوائد فهم ذلك الواقع: معرفة أنّ كثيراً من العامّة يجهلون أحكام الدين، والتفريق بين الجاهل بالحكم وغيره، وخصوصاً مع قرب عهد هذا المجتمع بالاستعمار الذي كان يحول بينه وبين الدعاة، ويحارب نشر الوعي الإسلامي الصحيح فيه.
 
كما دعاهم إلى الانطلاق من التيسير والرفق والحكمة، وعدم التسرع إلى تكفير الناس، قال: (ومما ننصحكم به عدم التسرع بالتكفير إلا بعد التأكد أن هذا الإنسان قد اقترف الشرك الأكبر، إنّ من كفّر شخصاً ليس بكافر في حقيقة الأمر يصبح هو الكافر، بل الواجب في مثل ذلك البلد الذي تعيشون فيه التأنّي، والتريّث، واستعمال الورع في أمر التكفير؛ لغلبة الجهل على كثير من الناس، حتى على بعض المنتسبين إلى العلم، وليس لديهم تحقيق في هذا الباب الخطير، والعامة من باب أولى، فينبغي الرفق بهم، وأخذهم بالحسنى، ولين الجانب، حتى يتبيّن الحق؛ لأننا مأمورون أمراً واجباً على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام: (بشّروا ولا تنفّروا، ويسّروا ولا تعسّروا)، فيُفهم من مثل هذا الحديث أنّ التعسير على الناس وتنفيرهم حرام، ويعتبر صدّاً عن سبيل الله، كما أنّ التيسير والتبشير، والرفق والرحمة، واجب على كل داعية إلى الله.
 
ومما ينبغي أن يُعلم أنّ الصلاة صحيحة وراء كلّ مسلم مستور، ما لم يُعلم أنّه يشرك بالله شركاً أكبر؛ مثل الاستغاثة بغير الله؛ من الأصنام ونحو ذلك، والموتى، والأشجار ونحو ذلك، معتقداً أنّ ذلك الغير يسمعه فيغيثه ويقضي حاجته، ومثل الذبح إلى غير الله، وغير ذلك من أنواع الشرك الأكبر، ومن فعل ذلك، وهو ممن لا يُعذر بالجهل، فهو كافر خارج الملّة، وهكذا تصح الصلاة خلف العصاة في أصح قولي العلماء لأحاديث وردت في ذلك.
 
فنرجو من الإخوان أن ينتهزوا فرصة وجود المشايخ معهم ليبحثوا هذه المسألة وغيرها من المسائل المهمة، حتى يصلوا إلى المفهوم الصحيح.
ومن شُك في أمره وجب التوقف عن تكفيره حتى يوجه إلى الخير، ويُبين له حكم ما وقع فيه)
[31].
 
(ومن المسائل التي سببت الخلاف بين الإخوان - مما سمعنا - اختلافهم في مسألة أكل اللحوم العامة التي تُشترى من السوق، أو التي يذبحها أحد من غيرهم، وهذه المسألة لا ينبغي التشدد فيها إلى تلك الدرجة التي بلغتنا، بل إذا ذبح الذبيحة مسلم مستور لم يُعلم أنه ارتكب شركاً ناقلاً من الملّة؛ فتؤكل ذبيحته دون بحث عن عقيدته، بل بناء على ظاهر إسلامه.
أما عدم أكل ذبيحة إلاّ إذا كان الذابح منكم أنتم فهذا أمر غريب، وتشديد زائد قد يؤدي إلى التنطع، وقد هلك المتنطعون، كما جاء في الحديث، وهكذا ذبيحة أهل الكتاب حلٍّ لنا؛ لأنّ الله – سبحانه - أباح طعامهم لنا ما لم نعلم أنّها ذُبحتْ على وجه يحرمها...
فنرجو من الإخوان الاهتمام بتحقيق هذه المسألة مع المشايخ الموفدين إليهم.
 
وكذلك تلك المسألة التي تتعلق بالزواج، والسفر، وحكم من تخلف عن صلاة الجماعة؛ بعذر أو بغير عذر، ومسائل أخرى تتعلق بصلة الرحم، وزيارة الأقارب للرجال والنساء، ومسألة التزام الناس بالهجرة إلى مكان معيّن يسمى (دار السلام).
 
وهنا أحب أن أصارحكم أنّ مثل هذه التصرفات لا تخدم الدعوة، ولا تجذب قلوب الناس إليكم، بل هي تضر بالدعوة، وتنفر الناس عنكم، وتصدّ عن سبيل الله، وهي تتنافى مع الحكمة التي أمر الله بها بقوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...
[النحل: 125].
 
هذا ونكرر النصح لكم باستعمال الرفق، وعدم التشدد، والاستفادة من طلاب العلم، سائلين الله -تعالى- لنا ولكم الهداية والتوفيق للإخلاص لوجهه - سبحانه - مع إصابة الحق؛ إنّه قريب مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبي الرحمة محمد وآله وصحبه وسلم.
 
الرئيس العام لإدارات البحوث العلميّة والإفتاء والدعوة والإرشاد)
[32].
 
ويبقى سؤال مهم وهو: ماذا كان موقف الجمعيّة من الخطاب؟ وما تأثيره التعليمي والدعوي؟
رفض رئيس الجمعيّة الاستجابة للخطاب، بل قام بتحريف بعض ما ورد فيه بطريقة تخدم أهدافه، يقول الشيخ حامد عن موقف رئيسها: (كان المفروض أن يرسل صورته...
إلى أتباعه، ولكن لم يفعل ذلك، بل كتب رسالة بخطّه وغيّر فيها وبدّل، وحذف وزاد ونقص؛ على أنّ هذه هي مضمون خطاب الشيخ، ثم إنّ بعض أتباعه وجدوا صورة خطاب الشيخ مع الفريق الثاني [أي المخالفين لهم]، وعلموا أنّ ما جاءهم غير خطاب الشيخ بل يخالفه كل المخالفة، ووجد بعض أتباعه في أنفسهم شيئاً من ذلك، وفهموا منه عدم اعتباره لهم كأعضاء عاملين معه في الدعوة إلى الإسلام حتى يخفي عنهم خطاب سماحة الشيخ عبدالعزيز، وقد كان ذلك من أسباب ضعف العلاقة بينه وبينهم)
[33].
 
وبالرغم من هذا الرفض؛ فإنّ ابن باز - رحمه الله - لم يألُ جهداً في محاولة إصلاحها؛ باستقبال أميرها في مكة المكرمة والطائف، في زيارات متكررة، ومحاورته، ومحاولة الأخذ بيده إلى المنهج السليم.
 
لعلّ قائلاً يقول: إذا كانت الجمعيّة ورئيسها قد رفضت خطاب ابن باز وحرّفته؛ فمن أين كان لهذه المراسلة العلميّة تأثير دعوي وتعليمي؟
وللإجابة أقول: لقد كان لها أثرها التعليمي والدعوي من عدّة نواح، شملت الجمعيّة، ومخالفيها، والساعين إلى الدعوة والإصلاح في كثير من مناطق العالم الإسلامي؛ منها على سبيل المثال لا الحصر:
• بنشر المضمون الحقيقي للخطاب بين الخاصة والعامة؛ وجدوا فيه توجيهات سديدة في التعامل مع المخالف، ونصائح قيّمة للدعاة والعلماء، وبيان لمواطن الاختلاف، وردوداً قويّة وأدلة من الكتاب والسنّة على بطلان مبادئ تلك الجمعيّة وأمثالها، ومخالفة مناهجها للشرع الحنيف.
 
• ومن أثرها التعليمي والدعوي فيمن يريد الإصلاح والتوفيق بين المسلمين فيما يختلفون فيه: أنّ عليه ضرورة الاتصال بطرفي الاختلاف والاستماع إليهما، وفقه واقعهما التعليمي والاجتماعي، ودقة التثبُّت والتحرّي لمعرفة الشّبه والأدلّة والدوافع؛ فبذلك تتضح حقيقة المواقف، ويتمكن المصلح من التأليف بين النفوس، وتهيئتها لقبول الحق الذي يؤيّده الدليل والبرهان، ويوجد الثقة بمن يريد الإصلاح والتوفيق، فقد كان سبب عودة بعض أعضاء تلك الجمعية إلى الصواب وجود صورة من الخطاب لدى المخالفين للجمعية.
 
• قيام بعض أعضاء الجمعيّة بمراجعة مواقفهم التي انتهت بهم إلى الخروج منها؛ بعد أن فقدوا الثقة برئيس الجمعية واتهموه، وذلك نتيجة إخفائه لحقيقة مضمون خطاب ابن باز.
 
• تقوية موقف المخالفين لهم والذين وصفوهم في البدء بالخوارج، ورأوا في مواقفهم وأحكامهم مخالفات صريحة لمذهب أهل السنّة والجماعة الذي سمّوا الجمعيّة باسمه.
 
• أدت نوعاً ما إلى تصحيح مواقف بعض المخالفين لأهل السنّة والجماعة؛ ممن كانوا لا يرون في كبار علماء السعوديّة، وفي كثير من خريجيها من العلماء والدعاة، إلاّ التشدد والتزمُّت، والتكفير للمسلمين، وغير هذه الصفات السيّئة التي ظنوها فيهم بسبب الجهل، أو سوء الفهم والقصد، واختزلوها في كلمة (الوهابية).
 
هكذا، كان للمراسلات العلميّة قديماً وحديثاً، ولبعض الوفود الدعويّة إلى جميع شعوب غرب إفريقيا، أثر تعليمي ودعوي كبير في النهضة الإسلاميّة الحديثة والمعاصرة، سواء في توجيه مسارها الوجهة الصحيحة؛ بمحاولة توحيد كلمة الدعاة، وبيان مواطن الاختلاف وآدابه، ومنهج السلف عند الاختلاف، أو في وضع بعض المعالم المهمّة لمنهج سليم في الدعوة إلى الله، كالرفق والتيسير، وحسن التعامل مع المخالف، والعودة إلى الكتاب والسنّة، والبعد عن التكفير، وسدّ الأبواب التي قد تؤتى الدعوة من قِبلَها.
 
كما تمثل هذه المراسلات جانباً مهمّاً من جوانب التواصل العلميّ والثقافي والدعوي بين المسلمين في غرب إفريقيا دعاة ومدعوِّين، وبين بعض علماء المسلمين في أجزاء من العالم الإسلامي، كالحرمين الشريفين وغيرهما، ذلك التواصل القديم المتجدد تحقيقاً لقوله تعالى: ﴿ ...فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
 
والله وليّ التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
 
المصدر: مجلة قراءات إفريقية - العدد الثالث - ذو الحجة 1429ه / ديسمبر 2008م



[1] مجلة قراءات إفريقية (المنتدى الإسلامي)، عدد 2 شعبان 1426ه / سبتمبر 2005م، ص 10 – 11.


[2] انظر: الإسلام في نيجيريا والشيخ عثمان بن فوديو الفلاني، آدم عبدالله الآلوري، ص 89، ط 3، عام 1398ه / 1978م.


[3] انظر: تاريخ الفتاش في أخبار البلدان والجيوش، محمود كعت، نشر هوداس ودلافوس، مطبعة بردين، باريس، عام 1332ه / 1913م، ص 12 - 13.


[4] انظر: المصدر السابق، ص 15.


[5] انظر: نيل الابتهاج بتطريز الديباج، للعلامة أحمد بابا التنبكتي، بهامش كتاب الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، برهان الدين إبراهيم بن علي اليعمري، ص 332، دار الكتب العلمية بيروت.
والإسلام في نيجيريا، ص 98.


[6] انظر: الإسلام في نيجيريا والشيخ عثمان بن فوديو الفلاني، آدم عبدالله الآلوري، ط 3، عام 1398ه / 1978م، ص 89 – 90.


[7] انظر: التحدث بنعمة الله، للسيوطي، ص 158، 211، المطبعة العربية الحديثة - القاهرة، عام 1972م.


[8] انظر: أسئلة الأسقيا وأجوبة المغيلي عليها، محمد بن عبدالكريم المغيلي، تقديم وتحقيق الأستاذ عبدالقادر زباديه، ص 6، 9، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر، عام 1974م.
وانظر: عن كتابات المغيلي لأمير كانو: الإسلام في ينيجيريا، ص 32، 75 - 85.


[9] انظر: نيل الابتهاج، ص 237.


[10] انظر: الإسلام والمجتمع السوداني إمبراطورية مالي، أحمد الشكري، ص 221، 250، ط 1، عام 1420ه / 1999م، المجمع الثقافي، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة.


[11] انظر: الثقافة العربية في نيجيريا من 1750م إلى 1960م عام الاستقلال، د.
علي أبو بكر، ص 92 - 93.
بتصرف، ط1، عام 1972م، والإسلام في نيجيريا، ص 64.


[12] انظر: المرجعين السابقين والصفحات نفسها.


[13] انظر: إنفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور، محمد بلّو، ص 158، مطابع الشعب، القاهرة، عام 1964م، والثقافة العربية في نيجيريا، ص 95 - 108، ونص بعض المراسلات في ملحق رقم 1 من هذا المرجع، ص 475 - 511، والإسلام في نيجيريا، ص 122.


[14] انظر: شفاء الغليل، وهي رسالة صغيرة، لا تتعدى خمس صفحات، قدم لها ونشرها مع غيرها الدكتور أحمد محمد البدوي في كتابه: أوراق عربية في صكتو، ص 13 - 38، 39 - 44، من جامعة قاريونس، بنغازي، ليبيا، ط2، عام1991م.


[15] انظر: الإسلام في نيجيريا، ص 131.


[16] أما الذين عادوا؛ فقد تناولت جهود بعضهم في الدعوة والتعليم في بحث آخر بعنوان: (حجاج ومجاورون ينقلون دروس الحرمين الشريفين إلى غرب إفريقيا)، نشرته مجلة الحج والعمرة (تصدرها وزارة الحج السعودية) عدد 5 جمادى الأولى 1426ه/ يونيو - يوليو 2005م، ص 40 - 43.


[17] الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التجانية، الشيخ عبدالرحمن الإفريقي، ص 7، ط2، عام 1412ه، مركز شؤون الدعوة بالجامعة الإسلامية بالمدينة.


[18] المرجع نفسه، ص 5.


[19] انظر: رسالة في بيان عادات مخالفة للشريعة في غرب إفريقيا...، ص 34 – 35.


[20] المرجع السابق، ص 35 – 36.


[21] المرجع السابق، ص 36.


[22] المرجع السابق، ص 37.


[23] المرجع السابق، ص 37.


[24] انظر: مجلة قراءات إفريقية (يصدرها المنتدى الإسلامي)، عدد 2 شعبان 1426ه / سبتمبر 2005م، ص 14.


[25] اقرأ نص الخطاب في: رسالة في بيان عادات مخالفة للشريعة، ص 58 – 65.


[26] انظر تفاصيل الرحلة وأحداثها في المرجع السابق، ص 48، و ص 56.


[27] رسالة في بيان عادات مخالفة للشريعة في غرب إفريقيا...، ص 58 – 95.


[28] تفسير التحرير والتنوير، لابن عاشور، 1 / 335.


[29] رسالة في بيان عادات مخالفة للشريعة في غرب إفريقيا...، ص 59 – 60.


[30] المرجع نفسه، ص 60 - 61.


[31] المرجع نفسه، ص 62 - 63.


[32] المرجع نفسه، ص 63 – 65.


[33] المرجع نفسه، ص 56 - 57.

شارك المقال

المرئيات-١