أرشيف المقالات

فرضية الدعوة

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
فرضية الدعوة

تكلَّم العلماءُ في فرضيَّة الدعوة، وأجمَعوا على أنها فرضٌ واجب، إلا أن منهم مَن قال: هي فرضُ عين على كلِّ مسلم ومسلمة، ومنهم من قال: فرض كفايةٍ، إذا قام به البعضُ سقط الفرض عن الباقين.
 
ومنشأُ الخلاف هو تفسير كلمة "مِنْ" في قوله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]؛ فمنهم من قال: إنها للتَّبعيض، ومنهم مَن قال: إنها للتَّبيين.
 
وقبْلَ البيان أرى النظر في المعنى اللغوي: جاء في مختار الصحاح في معنى "مِنْ" - بالكسر - المعاني الآتية:
1- لابتداء الغاية؛ كقولك: خرجت مِن بغداد.
2- للتبعيض؛ كقولك: هذا درهم مِن الدراهم.
3- للبيانِ والتفسير؛ كقولك: لله دَرُّه من رجلٍ.
 
وقوله تعالى: ﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ﴾ [النور: 43] فالأُولى: لابتداء الغاية، والثانية: للتبعيضِ، والثالثة: للتفسيرِ والبيانِ.
 
4- التوكيد؛ كقولك: ما جاءني مِن أحدٍ، وكقوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ﴾ [الحج: 30]؛ أي: اجتنبوا الرِّجسَ الذي هو الأوثان.
 
5- بمعنى "على"؛ كقوله تعالى: ﴿ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ ﴾ [الأنبياء: 77]؛ أي: على القوم[1].
 
ولمزيد من التوضيح والتحديد لمسألة فرضية الدعوة، فإنه يجبُ مراعاة أمرين:
الأول: العلم؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ [يوسف: 108])؛ أي: على يقينٍ وعلمٍ[2].
 
الثاني: الاستطاعة؛ في قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمَن لم يستطِعْ)) في الحديثِ الذي رواه الإمام مسلمٌ في صحيحه: ((مَن رأى منكم منكَرًا، فليُغيِّرْه بيده، فإن لم يستطِعْ...))[3].
 
بيان الأمر في فرضية الدعوة:
أولاً: أدلة فرضية الدعوة:
استدل العلماءُ على أن الدعوة فرض (واجب) بما يلي: قوله - تعالى ذكره -: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110]؛ يقول صاحبُ كتاب أصول الدعوة: (فهذه الآية أفادَتْ معنَييْنِ؛ الأول: خيريَّة هذه الأمة، والثاني: أنها حَازَتْ هذه الخيريَّةَ لقيامها بوظيفةِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكَر)[4].
 
• قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]؛ يقول ابنُ كثير - رحمه الله تعالى -: (يقول الله تعالى لرسولِه صلى الله عليه وسلم آمرًا له أن يخبرَ الناس أن هذه سبيلُه؛ أي: طريقُه ومسلكه، وسنَّته، وهي الدعوةُ إلى شَهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يدعو إلى اللهِ بها على بصيرةٍ مِن ذلك، هو وكلُّ مَن اتَّبَعه...)[5].
 
• قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2]، يقول صاحبُ كتاب أصول الدعوة: (هذا دليلٌ آخرُ على مشروعيَّةِ التجمُّع والدعوة الجماعية، ووجوبها..).
 
• قولُه صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((مَن رأى منكم منكَرًا، فليُغيِّرْه بيده، فإن لم يستطِعْ فبلسانِه، فإن لم يستطِعْ فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان))[6].
 
ثانيًا: نوع الوجوب:
هل هو واجب عيني أم واجب كفائي؟
الجواب:
الفريق الذي فسَّر (مِن) بأنها للتبعيض، قال: هو فرضٌ كفائي، والفريقُ الذي قال: إنها للتفسير والبيان، قال: إنها واجبٌ عيني، والقولانِ ذكَرهما الإمام الرازيُّ[7].
 
حول الرأي الأول:
وهو الفريقُ الأول القائل بأن "من" للتبعيض، وأغلب الظنِّ أن مقصود هذا الفريق ليس تكليفَ طائفةٍ من الأمَّة دون طائفة أخرى؛ لأن هناك إنكارَ القلب، على اعتبار أن الدعوةَ هي الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يقول الإمامُ النووي في شرح صحيح مسلم: "إن التغييرَ أو الإنكارَ بالقلب فرضُ عين في كل الأحوال على مَن في قلبِه مثقالُ ذرةٍ من إيمان.."[8]، ويقول الشيخُ ابن تيميَّة - رحمه الله -: (وكل بشرٍ على وجهِ الأرض لا بدَّ له من أمرٍ ونهي، حتى لو أنه وحده، لكان يأمُرُ نفسَه وينهاها)[9].
 
ولكن أصحاب هذا الرأي نظَروا في اعتبارات، منها:
أولاً: أن فائدةَ كلمة "مِن" هي أن في القومِ مَن لا يقدر على الدعوةِ، ولا على الأمر بالمعروف، ولا النهي عن المنكر، مثل: المَرْضى والعاجزين.
 
ثانيًا: أنهم اشترطوا العِلم، وليست الأمَّة كلها علماءَ، والدعوة لا بدَّ أن تكونَ على علمٍ وبصيرةٍ؛ ولهذا قالوا: إنه لا يقومُ بالأمرِ والنَّهي والدعوة إلى الله تعالى إلا عالِم بما يدعو إليه، وبمن يدعوه، وهذا الرأي - لا شكَّ - له وجاهتُه؛ فقد جاء في الأثرِ عن بعض السلف: لا يأمُرُ بالمعرف وينهى عن المنكَر إلا مَن كان فقيهًا فيما يأمُرُ به، فقيهًا فيما ينهى عنه، رفيقًا بمن يأمُرُه وينهاه، حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه[10].
 
ومِن خلال هذا العرض المختصر يتبيَّن ما يلي:
أن هناك فريقًا من العلماء ذهَب إلى أن الدعوةَ فرضُ عينٍ على كل مسلم ومسلمة، لكن حسب القواعد العامة للأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر؛ من حيث العِلم، والاستطاعة، والسُّلطة والولاية.
 
وأن أصحابَ الفريق الآخَر ذهَب كذلك إلى أنها فرضٌ كفائي، لكن بشرط العِلم والقدرة؛ حيث استثنى المَرْضى العَجَزة والجهلة.
 
ومن هنا يمكن القول:
إن الدعوةَ الآن - وتشمل النُّصحَ، والإرشاد والتعليم، وتصحيحَ المفاهيم الخاطئة عن الإله المعبود الواحد، وعن معاني الإسلام، والإيمان، والعبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي إلى إقامة العَدْل المتمثِّل في تطبيق شرع الله تعالى، ودَفْع الظلم عن المظلومين والمستضعَفين، ورد الشبهات عن الإسلام، وتحسين صورته في العالم، وبيان زيف الحضارة الغربية المادية، وبث رُوح الأمل في نفوس المسلمين اليائسين، والعودة إلى تعاليم الإسلام، وشريعتِه، وأخلاقِه، والسعي لحلِّ المشكلات من خلال دراسة وفَهْم القرآن الكريم والسنَّة النبوية المشرفة، وما كان عليه السلف الصالح - كل ذلك فرضُ عين على كل مسلم، ومسؤولية فرديَّة وجماعيَّة أمام الله عز وجل.
 
جاء في (بيان للناس من الأزهر الشريف) - بعد بيانِ أهمية الدعوة، والتحذير من التهاون والتقصير فيها - ما نصُّه:
(وحُكم الدعوة الوجوب، غيرَ أنه يكون كفائيًّا إذا تعدَّد الصالحون للدعوة، وعينيًّا إذا لم يوجد غيرُ واحد يصلح لها، وقال بعضُ العلماء: إنها تكونُ واجبةً في الأمر بالشيء الواجب، والنهي عن الشيء المحرَّم، وتكون مندوبةً في الأمر المندوب، والنهي عن المكروه، وإن كان ذلك يتمُّ ببعضِ الدعاة أو بواحدٍ إذا تعيَّن.
 
وكلُّ إنسان عنده قدرةٌ على الدعوةِ يستطيع أن يقومَ بها في الموضوع الذي يعلَمُه، فمن يعلَمُ بوجوب الصلاةِ يأمُرُ بها مَن لا يؤديها، ومن يعلَمُ حرمةَ الخمر ينهى عنه مَن يشربها، ويُعتَبَر الداعي في هذه الحالة عالِمًا بما يدعو إليه، ولا يجوزُ له التملُّص من القيام بها، ويُلقي تبعتَها على ذوي الشَّهادات والتخصُّصات العِلمية...)[11].
 
وأجاب البيانُ على السؤال الآتي: (هل يُشتَرَط في الداعي أن يكونَ مأذونًا له في الدعوة؟) قائلاً:
الأصل في الدعوةِ أن تكون حقًّا واجبًا يمارسُه كلُّ مسلم قادرٍ عليه في المجال الذي يخصُّه ويناسبه، فمن يدعو إلى شيء يعلَمُه عِلمًا صحيحًا، فلا حاجةَ له إلى استصدار إذنٍ بذلك، أيضًا ما دامت لا تثير فتنة، ويحتاج إلى الإذن فيها في بعض الأحيان؛ خوفًا من الدُّخَلاء عليها، المُغرِضين في القيام بها[12].
 
ثم أجاب عن سؤال آخر: هل الجهادُ أسلوبٌ من أساليب الدعوة؟
يجيب البيان قائلاً: (ومعنى الجهاد: بذلُ الجهد لنيل مرغوب فيه، أو دفع مرغوب عنه، يعني لجلبِ الخير، أو دفع الشر، أو تحقيق النَّفع، ومَنْع الضُّر، وهو يكون بأيةِ وسيلة من الوسائل، وفي أي ميدانٍ من الميادينِ، وفي الحرب والسلم على السواء، ولا يحتم أن يكونَ بالقتال وحملِ السِّلاح، ومنه جهاد النَّفس والشيطان، وجهاد الفقر والجهل والمرض، وجهاد الشر.
 
أما الجهاد في سبيل الله، فقد عرف في الشرع بما يرادف الحربَ لإعلاء كلمة الله، ووسيلته حملُ السلاح، وما يساعد عليه، ويتصل به كل إعداد وتمويل وتخطيط، ويشترك فيه عددٌ كبيرٌ من الناس؛ من زرَّاع وصنَّاع وتجَّار، وأطباء ومهندسين، وكل من يُسهِم في المعركة من قريب أو من بعيد..
 
هذا الجهادُ فرضُ عين على كل قادر عليه، وإن أغار علينا العدو، وإذا استنفَر الإمام.
 
وكلُّ أنواع الجهاد مطلوبةٌ للنجاح في الجهاد المسلَّح، فلا ينتصر مع الجبن والخوف، ولا يقبَلُ الله المجاهد، أو ينزله منازل التكريم إذا قصد بجهادِه غير وجهِ الله بإعلاء كلمته، ولا خيرَ في جيشٍ يهدُّ المرضُ جسمَه، أو لا يجد لقمةً يشبع بها جوعه)[13].
 
ويؤكد هذه المعانيَ فضيلة الدكتور عبدالرحمن عبدالله عويس قائلاً: (إن المتأمِّلَ في كتاب الله تعالى وفي سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، يرى أن هناك أنواعًا خمسةً للجهاد، وهي:
1- الجهاد باللسان.
2- الجهاد التعليمي.
3- الجهاد باليد والنفس.
4- الجهاد السياسي.
5- الجهاد المالي.
 
وهذه الأنواع مِن الجهاد كلها عندما تكونُ في أرض الإسلام تُسمَّى الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، وما كان خارجه كان جهادًا، والأمر فيه سَعة..)[14].
 
ولا شكَّ أن أهمَّ أنواع الجهاد وأولَها هو الجهادُ باللسان؛ جهاد الكلمة بالحجة والبيان، بالحِكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وهو الحوار البنَّاء مِن أجلِ إحقاقِ الحقِّ وإبطال الباطل، وبيان سماحة الإسلام، وسُمو مبادئه، وعدالة شريعته، وصفاء عقيدته، ونُبْل أهدافه، وعمليَّة التبليغ وإقامة الحجة هذه هي مِن أعظم ذُرَى الإسلام؛ إذ إن ذروةَ الإسلام هي الجهادُ، وهذه أعظمُ الجهاد..)[15]، وهكذا فإن الدعوةَ جهادٌ، والجهادَ دعوةٌ.

[1] مختار الصحاح، مادة (من)، ص 558.

[2] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الإمام الطبري، مجلد 7، جزء13، ص 52.

[3] صحيح مسلم بشرح النووي، طبعة دار الشعب، جزء 1، ص 225.

[4] أصول الدعوة؛ د.
عبدالكريم زيدان، ص 308.

[5] تفسير ابن كثير، ص 496.

[6] صحيح مسلم، ص 225.

[7] مفاتيح الغيب، جزء 7، ص 177.

[8] صحيح مسلم شرح النووي، جزء 1، 225.

[9] الحِسبة في الإسلام؛ ابن تيمية، المطبعة السلفية، ط 2، 1400 هـ، ص 57.

[10] الحِسبة في الإسلام؛ ابن تيمية، ص 42.

[11] الجزء الأول، مطبعة المصحف الشريف، رقم الإيداع 3626/ 1984، ص 262.

[12] السابق، ص 268.

[13] المرجع السابق 275- 277.

[14] أستاذ التفسير بكلية أصول الدين القاهرة (الجهاد في سبيل الله ط1، 1996م ص 114- 116).

[15]السابق، ص 117.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣